هاني مسهوريكتب:
في تفنيد الأساطير اليمنية
اليمنيون قدموا جملة من الأساطير ضمن مروياتهم التاريخية القديمة والمعاصرة اعتبروها مسلمات، ومع تغييب القراءات الصحيحة مرّت على الأجيال دون تفنيدها بموضوعية ما جعلها تتحول إلى وقائع، فالتزييف في المرويات التاريخية من قصة بلقيس وعرشها إلى هزيمة الجيش المصري في حرب الستينات من القرن العشرين تبقى روايات تحتاج إلى تدقيق موضوعي مرتكز على الأدلة والشواهد وتحكيم العقل، وقد تجنب اليمنيون المعاصرون كما هم الأوائل التدقيق في المرويات خشية أن تسقط أساطيرهم وتتهاوى صفتهم التي قاموا عبر العصور على إصباغها على أنفسهم أمام أقرانهم من العرب.
في القرن الرابع الهجري (التاسع الميلادي) ظهر كتاب “الإكليل” للحسن الهمداني المعروف بابن الحائك، وفي ما يعدّه اليمنيون مرجعاً موثوقاً به وتناسلت منه المرويات الأسطورية التي منها ترسخت أن أصل العرب يعود إلى اليمن، لم تفنّد رواية الكتاب حتى مع عدم وجود الأدلة المادية على صحة ما قدمه، شأنه شأن الموروث العربي والديني المتراكم الرافض لدعوات التجديد، وفي ما أن الدليل المادي معروض في متحف اللوفر الفرنسي بفرعه بالعاصمة الإماراتية أبوظبي الذي يحتوي على قطعة أثرية حجرية مخطوط عليها حرف المسند العربي، وهو أقدم الموجودات على الإطلاق كان قد عثر عليه في ساحل حضرموت وبالتحديد في مدينة الديس الشرقية المحاذية للمدينة التاريخية الشحر.
تتوافق القطعة الحجرية مع ما جاء في القرآن الكريم في سورة الأحقاف الآية 21: “واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم”، ونبي الله هود هو أول الأنبياء بعد الطوفان العظيم الذي أهلك قوم نبي الله نوح، ومهد العرب وموطنهم الأول يظل في بلاد الأحقاف وهي الأرض التي سبقت ظهور حضرموت وهي التسمية التي ورد ذكرها في التوراة، وجاءت في سفر التكوين على أنها اسم لأحد أبناء قحطان. والثابت أنه أحد رجالات الممالك العربية الجنوبية القديمة وهو من نسل قحطان، وقد سبق قوم هود حضرموت وجوداً في تلكم البلاد. وعليه فإن الأحقاف هي أرض العرب ومهدهم الأول.
أسطورة أخرى يتداولها اليمنيون من باب التفاخر تقول “اليمن .. مقبرة الغزاة”، وهي عبارة ينازعهم فيها شعب أفغانستان وشعوب أخرى حول العالم، لكن هل من أحد حاول تفنيدها؟ باستقراء التاريخ فإن اليمنيين لديهم متلازمة لم تنفك عبر الأزمنة والعصور، فطبيعة التضاريس صنعت سيكولوجية الإنسان اليمني ومنها وجد أن استدعاء الجيوش إلى بلاده عمل يمكن معه توفير المؤن اللازمة للعيش، الحروب بالنسبة إلى أهل الجبال الوعرة في شمال اليمن أكثر من مجرد حروب عابرة فطبيعة القبائل الاقتتال ومع استدامة الصراعات يمكن استدعاء الخارج في صراعات القبائل والحصول على المكاسب، فالحروب تجارة رابحة لزعماء القبائل دائماً.
في العام 25 قبل الميلاد تعرّف اليمنيون على فكرة توظيف الحروب لمعيشتهم بعد أن أرسل الإمبراطور أغسطس قيصر حملة عسكرية بقيادة حاكم مصر الروماني أيليوس غالوس إلى اليمن فوجدت قبائل همدان وحمير أنها أمام جيش قادم لهم من مصر فخاضوا صراعاً بينهم، الصراع امتد مع تداول الممالك حتى أن سادت الدولة السبئية وفيها حدث صراع بين اليهود والنصارى الذين استعانوا بالرومان لنجدتهم فكان غزو الأحباش لليمن عام 533 ميلادية، ما عرفته البلاد من صراع تعرف فيه رجال القبائل على ممارسة القتال وتوظيفه لمصالحهم ومعه تشكلت مفاهيم عميقة في أن تتحول الحروب إلى استنزاف للجيوش وأن يتحول اليمن إلى تصدير الصراعات.
في نزعتهم تلك قادوا ملك الحبشة أبرهة إلى مكة لمساعدته في الهجوم عليها وتدميرها بعد أن تحولت إلى محطة رئيسية في التجارة مع بلاد الشام، خضع اليمن للاحتلال الحبشي حتى استعان سيف بن ذي يزن بالفرس ليطردوا الأحباش وتخضع البلاد للاحتلال الفارسي إلى أن جاء عهد الإسلام، وحتى ما بعد ذلك العهد لم تتوقف نزعة استدعاء الخارج فلقد تم استدعاء الأتراك ضمن الصراعات القبلية والمذهبية السائدة في شمال اليمن، وكما أحتل الأحباش والفرس تلك الأرض احتلها الأتراك وفي عهدهم ظهرت المملكة المتوكلية الهاشمية عام 1918 وهي المرة الأولى عبر التاريخ التي يعرف فيها هذا الجزء من العالم دولة تسمى باسم “اليمن” بعد أن أضاف الإمام يحيى حميد الدين لمسمى مملكته هذه الصفة وهي تأكيد آخر يسقط مزاعم أن هذه البلاد هي أصل العرب.
وقع للجيش المصري في الستينات من القرن العشرين ما وقع لجيوش الرومان والأحباش والفرس والأتراك من قبلهم، انقلاب عسكري فاشل في بيت الحكم الزيدي قام به عبدالله السلال ضد الإمام استدعي معه المصريون لدعم ما يفترض أنها ثورة جمهورية على النظام الملكي، وبحكم الصراع السعودي – الناصري تشكلت حرب بالوكالة لعب فيها اليمنيون أدوارهم المعتادة وخرجت مصر كما خرج السعوديون من اليمن بلا انتصارات، تماماً كما وقع لمن قبلهم في ما ظلت القبائل توزع الغنائم على رجالها.
وهذا ما يجري مع السعودية تماماً في العهد المعاصر عندما استدعيت لإعادة الشرعية بعد انقلاب فاشل آخر في داخل البيت الزيدي هذه المرة باسم الثورة الشبابية، انقلاب بعد انقلاب وحروب تخلّف أخرى والكل متورط غير شيوخ القبائل الذين مازالوا يعرفون كيف يديرون النزاعات ويوظفون الحروب، لم يهزم الجيش المصري ولا حتى السعودي في هذه المرة، في المرة الأولى في الواقع أنهم فقط وقعوا في فخ اليمنيين، الكل يتحرج من توصيف ما حدث ويحدث ولا يريد أن يستعيد بيت شعر للعباس الأسلمي “وفي هوازن قوم غير أن بهم….داء اليماني إن لم يغدروا خانوا”، والكل متحرج من أن يبوح بحقيقة أهل تلك البلاد.
مع تفنيد الأساطير اليمنية وكشفها لا بد من استدارة إلى أن أهل اليمن لم ينلهم حظ من التنوير، شعب طيب كريم غير أنه مازال يعيش في الأزمنة البعيدة، اليمنيون في واقع الحال لم يصلوا بعد إلى الألفية الثالثة بل لم يصلوا حتى إلى القرن الثامن عشر أو التاسع عشر، مازالت القبائل تسود بكل أعرافها وتقاليدها ومازال الناس في تلك الأرض يعيشون ما قبل الدولة الوطنية الحديثة، يعرف السياسيون كيف توظف الأشياء فيمكن أن يكون في الصباح شيوعياً ملحداً وفي الليل رأسمالياً تقدمياً.
لا معنى للأيديولوجيات مهما كانت وتبقى مركزية الأشياء الحاكمة، فلقد اعتادوا أن تكون الهضبة الزيدية مركزاً مقدساً للسلطة، وتفنيد شيء من الأساطير اليمنية يفكك الطلاسم عن هذه البلاد الغارقة في الماضي، والتباهي والتفاخر بأشياء ليست صحيحة لن يبني مستقبلا للأجيال، وهو ما يجب أن يستدعى بدلاً من كل ما تصنعه طبقاتهم النخبوية من سياسيين وأدباء ومفكرين، فالأجدر الاعتراف بأنهم بلا هوية وطنية معتبرة أمام أنفسهم قبل الشعوب والأمم التي يتفاخرون ويتباهون أمامها، بما أن ما فُنّد ظهرت سوأته وعواره كما هو سواد وعوار سيرة الأسود العنسي أول من ادعى النبوة، هذا ليس فقط لإصلاح الذاكرة التاريخية ولكن أيضًا لبناء مستقبل أكثر وضوحًا واستقرارًا، إن الفهم الصحيح للتاريخ يمكن أن يسهم في توجيه المجتمع نحو التقدم والازدهار بعيدًا عن الأوهام والأساطير.