محمد فيصل الدوسري يكتب:

الرؤية الإماراتية لغزة بعد الحرب

تدخل حرب غزة شهرها العاشر دون مبادرات معلنة إيجابية لوقف إطلاق النار، باستثناء هدنة نوفمبر – تشرين الثاني الماضي، التي شهدت الإفراج عن عدد من الأسرى المحتجزين بين طرفي الصراع، حتى ظهرت ملامح رؤية إماراتية لما بعد الحرب في غزة، من خلال مقابلة مساعدة وزير الخارجية للشؤون السياسية، السفيرة لانا نسيبة، على صحيفة فايننشال تايمز، ثم بعدها بأسبوع تصريحات رسمية لوزيرة الدولة لشؤون التعاون الدولي، ريم بنت إبراهيم الهاشمي، في تطور مهم يتزامن مع التصعيد الراهن وتحديات توسع نطاق الحرب إلى جبهات جديدة، والذي جعل الحديث عن إيقاف النزاع لا يبدو قريبًا.

الرؤية الإماراتية تعكس التزاما عميقا ومسؤولية إقليمية، مبنية على مقاربات مبتكرة وحلول جديدة، تستطيع اختراق أشد الأزمات صعوبة. والإمارات تثبت مرارا وتكرارا أنها تفكر دوما خارج الصندوق، وأن سياستها الحديثة المبنية على قواعد السلام والأمن والتنمية والازدهار وعلاقاتها الدولية المتنوعة جعلتها في موقع اقتصادي وسياسي فاعل، وقادرة على طرح مقاربات ذكية بين أطراف الصراع. وأسهم قرار الاتفاقيات الإبراهيمية في قدرة الإمارات على التواصل مع الجانب الإسرائيلي من موقف قوة، بعيدا عن الطرق التقليدية طوال العقود الماضية التي لم تثمر عن نتائج مجدية.

استمرار التصعيد بين حزب الله والحوثيين من جهة وإسرائيل من جهة أخرى يحمل تأثيرات متعددة على جهود وقف إطلاق النار بشكل عام

ولهذا، ومن منطلق إيمان الإمارات الراسخ بأن إحلال الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة ينطلق من حل مستدام وعادل للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، دعت إلى مقاربة واقعية التوجه، من خلال مسارات سياسية وأمنية وإنسانية، تقود إلى تحقيق حل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، تعيش بسلام وأمن مع دولة إسرائيل.

تتميز الرؤية الإماراتية بشموليتها وتركيزها على الحلول المستدامة عبر خارطة طريق، وأولويات تبدأ من وقف الحرب ثم تتحرك على عدة مسارات تقود إلى حل الدولتين، ما سيحقق على المدييْن القصير والبعيد الهدف الأسمى في إحلال السلام والاستقرار. والملفت في جوهر الاقتراح الإماراتي هو الواقعية في اقتراح إنشاء بعثة دولية مؤقتة، بدعوة رسمية من حكومة فلسطينية جديدة، بقيادة رئيس وزراء جديد ذي كفاءة واستقلالية، ما يتطلب دعم إصلاحات السلطة الفلسطينية، باعتبارها السلطة المعترف بها دوليّا خلال فترات الاستقرار بعد الحرب.

المقترح الإماراتي يعتبر السلطة الفلسطينية محددا أساسيّا لنجاح المبادرة، فدولة الإمارات تؤمن بالدول الوطنية، ومن الممكن عبر دعم إصلاحات السلطة الخروج بمشروع دولة وطنية فلسطينية مستقلة. فلا يمكن الاعتماد على أنصاف الحلول، وميليشيات تعتبر مجرد أدوات تدار من خارج الحدود. فسيطرة حماس على غزة لنحو عقدين لم تجلب لشعب غزة غير الدمار والفوضى، وتراجع القضية الفلسطينية برغم عدالتها. وسيكون إيمان السلطة الفلسطينية بضرورة التغيير الإصلاحي الجذري، أحد عوامل نجاح المقترح.

برزت الواقعية الإماراتية في قراءتها لليوم التالي للحرب على غزة، فالعودة إلى وضعية ما قبل السابع من أكتوبر – تشرين الأول الماضي لن تحقق السلام المستدام، أو حتى تبني حكومة فلسطينية قادرة على التعامل مع تحديات وتطلعات الشعب الفلسطيني، في ظل الانقسام الواسع بين فتح وحماس. فلم تنفع المبادرات السابقة ولا الجديدة كإعلان بكين في لم الشمل، طالما اختلفت أجندات وتوجهات الخصوم، وأهل مكة أدرى بشعابها.

ستكون لالتزام إسرائيل أهمية في تحقيق مسارات الرؤية، وعدم تقويض الجهود الدولية والإقليمية عبر خطوات استفزازية، ويتضمن ذلك رفع الحصار عن غزة، ووقف بناء المستوطنات والعنف في الضفة الغربية والقدس الشرقية. كما يتطلب من حكومة نتنياهو التعامل مع مناقشات اليوم التالي بجدية، فخطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس لم يكن مشجعا لمناقشات وقف الحرب ومسارات السلام، فكلما اقتربت الانفراجة تتبدد بسبب تصريحات تؤكد عدم جدية إسرائيل، وكأن نتنياهو لم يذهب إلى واشنطن لإنهاء الحرب بل لإطالتها.

الرؤية الإماراتية تعكس التزاما عميقا ومسؤولية إقليمية، مبنية على مقاربات مبتكرة وحلول جديدة، تستطيع اختراق أشد الأزمات صعوبة

كما سيكون دور الولايات المتحدة رئيسيّا في إنجاح الرؤية الإماراتية، فواشنطن تملك المكانة والثقل الدوليّيْن، والتأثير على أطراف الصراع عبر ضمان نجاح مسارات المقترح واستدامتها، من خلال الدعم السياسي والدبلوماسي، واستخدام النفوذ الأميركي للضغط على إسرائيل، ودعم الإصلاحات اللازمة لبناء مؤسسات حكومية فلسطينية فعالة ومستقلة وشفافة. وقد يتأثر الموقف الأميركي بمن سيتولى رئاسة الولايات المتحدة، وإن كانت الأولويات الأميركية ستتغير، ولكن الإمارات بدبلوماسيتها النشطة قادرة على التأثير على الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وهو ما يميز سياستها الحديثة التي ابتعدت عن سياسة المحاور، وركزت على أدوات التعاون مع كافة الأطراف الدولية في العالم.

استمرار التصعيد بين حزب الله والحوثيين من جهة وإسرائيل من جهة أخرى يحمل تأثيرات متعددة على جهود وقف إطلاق النار بشكل عام، فالتوتر الإقليمي يزيد من صعوبة تحقيق السلام، وعلى قدرة الفلسطينيين على القيام بالإصلاحات المطلوبة. ومع ذلك، فإن الاستجابة الفعالة والدبلوماسية النشطة تستطيعان مواجهة التحديات وتسهيل تحقيق الأهداف المرجوة من المقترح.

خارطة الطريق الذكية التي رسمتها الإمارات تمتلك المصداقية والموضوعية وأسسا واقعية لنجاح اليوم التالي في غزة. وبالرغم من صعوبة المشهد ووجود أطراف فاعلة ومؤثرة داعمة للتوجه، وفي المقابل أطراف سلبية تؤثر على المشهد، ستظل فرص العبور بنجاح ممكنة؛ فخطوات في الاتجاه الصحيح أفضل بكثير من التوقف والتراجع. والطرح الإماراتي ينطلق من فكر سياسي شامل يرى في منطقة الشرق الأوسط فرصا اقتصادية كبيرة يمكن استغلالها، وستبعد المنطقة عن خانة الحروب والأزمات. والأجمل أنها حلول من المنطقة نفسها، فوقت انتظار الفرج من دول بعيدة وراء البحار والمحيطات انتهى؛ فالمنطقة منطقتنا، وأمنها واستقرارها يمثلان مستقبل شعوبنا.