هاني مسهوريكتب:
من عمرو البيض إلى أحمد علي.. اليمن أمام حلّ الدولتين
مع رفع العقوبات الأممية عن ابن الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، يبدو من المهم النظر برؤية أوسع من تلك الرؤى المتداولة بين الأطراف التي استغرقت عميقًا في حروب اليمنيين الممتدة عبر الأزمنة، دون النظر إلى حيوية اللحظة الممكن استثمارها في ما يجب أن يكون عليه الرجل القادم من الأغلال. يمكن اعتبار اللحظة فرصة أخرى تتاح لليمن ليخرج إلى فضاء الحلول المستدامة الممكنة بدلاً من استجلاب حلول غير منطقية يمكن معها تدوير الصراعات. وهو ما يتاح مع أحمد علي عبدالله صالح الذي يمكنه أن يكتب تاريخًا سياسيًا يصحح به خطايا والده الرئيس السابق ويسجل لنفسه سجلًا خالدًا في صفحات تاريخ اليمن القادم.
لم يكن قرار مجلس الأمن الدولي برفع العقوبات عن أحمد علي صالح مفاجئًا، بل كان قرارًا متأخرًا بعد سنوات حاولت فيها دول إقليمية منذ العام 2019 أن تنجزه لأسباب متعددة، منها ما يتعلق ببند تجميد الأرصدة البنكية للرئيس السابق علي صالح. هذا أحد أهم الأسباب لتوفير السيولة المالية لدعم الحكومة الشرعية وإطلاق مسار إعمار اليمن. كما أن أحمد علي لم يعد عمليًا يمتلك السلطة العسكرية التي كان عليها إبان صدور القرار ضده في 2014 باعتباره قائد قوات الحرس الجمهوري ثم سفيرًا لليمن لدى دولة الإمارات العربية المتحدة. وقد انتهت كافة صلاحياته بفرض الأمر الواقع بتجريد الحوثيين له من سلطته العسكرية وتعيين سفير لليمن لدى أبوظبي بديلًا عنه.
ومع هذه الاعتبارات الموضوعية لرفع العقوبات عن أحمد علي، يظل هناك اعتبار آخر يمني خالص، وهو ما يجب أن ينظر إليه بالقدر الذي يجب. فالشمال والجنوب لديهما كما هم أقرانهم العرب، وإن كان اليمنيون أكثرهم تشددًا في توريث التباهي القبلي والعائلي بما في ذلك السياسي. وهذا اعتبار له خصوصية في المنظور الحسيّ المعيش. أحمد علي ما زالت له رمزية في الأوساط القبلية والحزبية، فهو ما زال يحمل عضوية في حزب المؤتمر الشعبي العام الذي أسسه والده، حتى وإن كان الحزب الأكبر في اليمن متشظيًا، يبقى أنه موجود سياسيًا والتنافس عليه قائم ليس على مستوى الانقسام العمودي فحسب بين الشرعية والحوثيين، بل حتى على مستوى العقل الجمعيّ لليمنيين.
التجربة التي عاشها أحمد علي، عالقًا في أبوظبي، لم تكن قصيرة ولا سهلة. فقد عاش فيها بعد أن صُفّي والده جسديًا على يد الحوثيين. هذا الموقف العصيب سيترك أثره في ذاكرته، رغم أنه اختلط بثقافات متعددة ستمنحه أفقًا مختلفًا. لا يتعلق الأمر بالثأر لوالده، فهذا أمر يمكن معالجته قبليًا وفقًا للأعراف والتقاليد، بل الأهم أن يحمل ما حمله عمرو علي سالم البيض، الشخصية المقابلة له في الجنوب. صحيح أن فارق العمر والتجارب موجود، لكن التقاطع بينهما يكمن في أنهما يحملان إرثًا سياسيًا لرجال صنعوا تاريخًا محفورًا لا يمكن تجاوزه دون الإقرار بما أنجزوه.
علي سالم البيض واحد من مؤسسي حركة القوميين العرب وأحد الآباء المؤسسين لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، بل أحد الرجال الذين حملوا بنادقهم في مواجهة الاستعمار البريطاني حتى تحقق الاستقلال الأول في 30 نوفمبر 1967. إرثه لم ينته عند توقيعه في عدن على إعلان الوحدة اليمنية مع علي عبدالله صالح في مايو 1990، بل ذهب إلى ما أبعد حتى من إعلانه التاريخي لفك الارتباط في 1994، إلى تأييده للحراك السلمي الجنوبي في 2009. تركة كبيرة لشخصية تقلدت أعلى المناصب السياسية ولعبت على مدى ستة عقود أدوارًا متقدمة في السياسة والحرب، وهو ما استوعبه عيدروس الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي الحاصل على التفويض الشعبي في 2017.
أحد أهداف عيدروس الزُبيدي المُعلنة كان تمكين الكوادر الجنوبية في مؤسسات الدولة، وإعادة بناء ما دمرته القوات اليمنية. الجنوبيون ضخوا مجموعات من الكوادر السياسية والعسكرية والاقتصادية في المؤسسات الحكومية، حيث مُنحوا فرصة بعد اتفاق الرياض عام 2019. ويبرز عمرو علي سالم البيض من بين الكادر السياسي الذي ظهر في المحافل الدولية والإقليمية كممثل لرئيس المجلس الانتقالي الجنوبي. عمرو البيض يحمل قضية وطنية جنوبية واضحة المعالم، ويحمل إرث والده السياسي. هذه الحوافز الذاتية والوطنية جعلته شخصية سياسية جنوبية موثوقة، ذات رصيد شعبي.
ما قدمه عمرو البيض يحتاج أن يقدمه في المقابل أحمد علي صالح، وهو المتاح الممكن أمامه، خاصة وأن العميد طارق صالح، عضو المجلس الرئاسي، قدّم مشروعًا سياسيًا مُبهمًا يحمل استعادة “الجمهورية”. وهذا المشروع غير مفهوم، وإن كان يعني استعادة النظام الجمهوري الذي قام في 1962، وهو ما يقتضي ترتيب البيت السياسي من حزب المؤتمر الشعبي العام، كونه الركيزة الأساسية للنظام الجمهوري الذي ظل قائمًا على ما أنتجه “مؤتمر خمر” الذي زاوج بين الجمهوريين والملكيين وقدّم علي عبدالله صالح كرئيس بعد توالي الاغتيالات حتى أحمد الغشمي. أهم ما يمكن أن يُحسب سياسيًا للرئيس صالح هو تكوين حزب المؤتمر الشعبي العام، وهي المهمة التي سيجد أحمد علي نفسه أمامها، إعادة تجميع أطرافه المتباعدة.
أحمد علي لن يكون أمام معضلات معقدة أبدًا، بل أمامه طريق واضح قد بدأ العميد طارق صالح في تمهيده له، ألا وهو استعادة النظام الجمهوري في 1962. هدف ممكن أن يتحقق متى ما أخذ أحمد علي المسألة بمسؤولية، كما يفعل عمرو البيض مع القضية الجنوبية. الفرصة مواتية مع الترحيب الجنوبي باستضافة جبهة وطنية يمنية شمالية، فهذه نقطة انطلاق موضوعية منها يستطيع أحمد علي حشد القوى الوطنية المؤمنة بالنظام الجمهوري. الإرادة السياسية متاحة من عدن وليس من أيّ مكان آخر، وهو ما يقتضي بالضرورة أن يقدم خطابًا للجنوب يصحح به خطأ ما ارتكبه النظام السابق في صيف 1994.
مشكلة اليمن شمالًا أنه أضاع هويته السياسية فتَشَظَّى بِمَفاعيل التشدد الأيديولوجي، وهذه الإشكالية لن تُعالج بغير المسار الوطني الجامع لليمنيين. متى ما استطاع أحمد علي والجبهة الوطنية استحداث خطاب عقلاني معاصر مُتَجَنِّب لمَواريث الصراعات، فإنه سيجد في الجنوب كامل الدعم السياسي اللازم ليتمكن من استعادة النظام الجمهوري. وفي طريقه، سيلتئم حزب والده، أو أنه سيبتكر حزبًا آخر يقوم مقامه، وهو قادر على ذلك. إن نجح، فإنه سيجد عمرو البيض في عدن ليوقع معه إعلان فك الارتباط السياسي، ويعيدان معًا كتابة التاريخ السياسي ليمنين، جنوبي وشمالي، مُتَجاوِرَين مُتَشارِكَين في التنمية والتعاون، وسيُسَجِّلان للتاريخ لحظةً مجيدةً تُنهي حقبةً وتفتح أخرى بيضاء.