أمين اليافعي يكتب:

الحوثيون: الاحتقار كأداة للهيمنة

أثار تسجيل صوتي تم تسريبه عن محاضرة للقيادي في الجماعة الحوثية حمود الأهنومي عاصفة حادة من النقد والسخط في أوساط الرأي العام اليمني. وصف الأهنومي – نقلاً عن كُتب السيرة – بأن اليمن كان يعيش حالة “دعارة مُنظمة” قبل مجيء الهادي الرسي (عام 284 هجرية) الذي أسس نظام الإمامة في اليمن. الأهنومي، الذي يحمل دكتوراه في التاريخ ويقوم بتدريس “الثقافة الوطنية” في الجامعات التي تقع تحت سيطرة الحوثي، وله نشاط دؤوب في المخيمات الصيفية التي يتم إجبار طلاب المدارس على حضورها لتلقي دورات مُكثفة عن أفكار الحركة الأيديولوجية، حاول تدارك الأمر عن طريق نشر رسالة اعتذار مُطولة هاجم فيها المطابخ الإعلامية التي تستهدف دوره العلمي والثقافي، وتهدف إلى تشويه صورة “أنصارالله”، الاسم الرسمي للحركة الحوثية.

ومع أن اليمن في تلك الفترة كان يعيش في ظل دولة إسلامية خالصة، ومرّ على دخوله الإسلام قرابة الثلاثة عقود، إلا أن متلازمة تكفير المجتمع الإسلامي وتجهيله وتحقير وذم أسلوب حياته تنتهجها معظم حركات الإسلام السياسي. وهي أحد الآليات التي تستخدمها في محاولة لقلب كل منظومات المجتمع السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية بهدف السيطرة عليه بشكلٍ مُطلقٍ، وتشكيله وفق شروط ومقاييس “الفرقة الناجية” التي تراها.

تستخدم جماعة الحوثي نفس الآلية، ولديها قاموس زاخر بكل أنواع الشتم والذم تجاه كل من يُعارضها قبل سيطرتها وبعدها. لكن الحركة التي تستند على الإرث السلطوي لنظام الإمامة الذي هيمن على اليمن الشمالي لأكثر من ألف عام تتفرد بتبني وتكريس نظام فصل عنصري قائم على سيّد وما دون السيّد، والسيّد حق حصري بالعائلات الهاشمية. وبالتالي فالمجتمع الجاهلي لا يُوجد في فترة سابقة عليها فحسب، ولكنه مستمر وممتد بناء على العرق/الأصل، ولا يدخل في حياض “الفرقة الناجية” وفق الفكرة الإمامية سوى السادة، وأما بقية أفراد المجتمع فمشكوك في أمرهم، وعلى نحوٍ دائمٍ.

مع أن اليمن في تلك الفترة كان يعيش في ظل دولة إسلامية خالصة، ومرّ على دخوله الإسلام قرابة الثلاثة عقود، إلا أن متلازمة تكفير المجتمع الإسلامي وتجهيله وذم أسلوب حياته تنتهجها معظم حركات الإسلام السياسي

تاريخياً، اتبعت الإمامة في سبيل إخضاع المجتمعات التي تقع تحت سلطتها مسارين متوازيين، أو ما يُعرف بثنائية العصا والجزرة. مثّلت القبائل النسبة الغالبة من هذه التجمعات في المرتفعات الشمالية، ولهذا السبب ابتكرت الإمامة فكرة الجزرة لإغواء الذهنية القبلية التي تعتبر الغزو والغنائم المصدر الاقتصادي الأول وربما الوحيد عن الوقوع في أيّ فعل احتجاجي ضد سلطتها الاستبدادية، فتم إطلاق سراح يد القبائل من خلال حملات الجهاد ضد المناطق الوسطى والجنوبية من اليمن، وهي مناطق حضرية وزراعية ويعتنق أهلها المذهب الشافعي في مقابل المذهب الزيدي الذي فرضته الإمامة.

وأما العصا فقد قامت على مصفوفة متنوعة من العقوبات ووسائل وآليات القهر، المادية والنفسية، لإشعار الإنسان اليمني بدونيته أمامها، وتكريس عقدة العجز إزاء مواجهة سلطتها وغوائلها. ومن هذه العقوبات والوسائل: إنزال أقصى درجات العنف الفوري والعاجل تجاه كل من يجابهها لإرسال رسالة إرهاب شديدة اللهجة إلى الآخرين بعدم التفكير في اقتراف أيّ فعل معارضة أو مقاومة.

كذلك نظام الرهائن حيث يقوم الإمام بأخذ أطفال شيوخ القبائل والشخصيات الاجتماعية والاحتفاظ بهم لسنوات طويلة حتى يضمن ولاء هذه القبائل (وأشهر رواية يمنية تحمل عنوان “الرهينة”، وتدور أحداثها الصادمة حول نظام الرهائن الإمامي). أما الوسيلة النفسية فقد اعتمدت على إفشاء خطاب/نظرة تحقيرية وازدرائية شديدة وقاسية لإشعار الإنسان بدونيته. وقد زخر الإرث الكتابي والشفاهي للإمامة بنصوص ومقولات كثيرة تعكس نظرة عنصرية راسخة للمجتمع خارج فضاء الأسر الهاشمية، فهؤلاء البشر من وجهة نظرها ناقصون على نحوٍ دائمٍ بناء على أصلهم، غير مكتملي الدين والإيمان والأهلية وحتى الإنسانية، ووظيفة الإمامة والأسر الهاشمية رعايتهم لإبقائهم على الأقل في الحد الأدنى من الأهلية الإنسانية.

الغريب في الأمر، أن الإمامة التي تعود بأصولها إلى خارج اليمن، عادة ما تستخدم المقولة المتداولة بأن “اليمن أصل العرب” وكأنها قيمة ثمينة بذاتها، وللتعالي/التباهي أمام الشعوب العربية الأخرى أو كسب التعاطف والتأثير لدى بعض من شعوب المنطقة، بينما تَنظُر/تتعامل مع “اليمني الأصل” بعنصرية جذرية وأبدية. فهذا الأصل – وفقاً للنظرة الإمامية – ليس أصلاً أو أصيلاً على الإطلاق، ولا يُمكن أن يكون إنساناً مكتملاً، بأيّ حالٍ من الأحوال.