هاني مسهوريكتب:
بعد معركة "ذات الدواجن"
حجم السخرية التي اجتاحت الشارع العربي بعد هجوم حزب الله على حظيرة الدواجن في شمال إسرائيل لا يُعد فقط تعبيرًا عن استهزاء سطحي بحدث عابر، بل إنه يعكس حقيقة أعمق وأبعد؛ فالشعوب العربية، رغم كل محاولات التحشيد الشعبوية من جماعات الإسلام السياسي، مازالت متمسكة بالانتماء إلى الدولة الوطنية.
الهجوم الذي وقع في 25 أغسطس 2024، وما تلاه من احتفالات أنصار حزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت، كان مناسبة لتدشين موجة من السخرية العارمة، حتى أن الحوثيين في اليمن، الذين سارعوا لتهنئة حزب الله على “العملية الناجحة”، ووجدوا أنفسهم موضعًا للسخرية، حيث تركزت التعليقات الساخرة على “أبطال” الهجوم، الدجاجات والديوك التي قُتلت في العملية، وبعضها – كما يتهكم البعض – ربما كان يحمل رتبًا رفيعة في الموساد الإسرائيلي!
لكن هذه السخرية الجماعية تحمل في طياتها رسالة أعمق؛ فالشعوب العربية، رغم الإحباط من صعود الإسلام السياسي، ما زالت تحتفظ بحس الانتماء الوطني. إنها ترفض الخطابات الشعبوية المتطرفة، وتؤكد تمسكها بالدولة الوطنية. واللبنانيون، الذين قادوا حملة السخرية من حزب الله، ليسوا فقط يرفضون سياسات الحزب، بل يعبّرون عن رغبة متزايدة في استعادة الدولة الوطنية وإصلاح الخلل البنيوي الذي أصابها.
في خضم هذا الانقسام الحاد بين تيار تنويري وآخر شعبوي، يتضح أن المنطقة تعيش صراعًا بين رؤيتين مختلفتين تمامًا. من جهة، هناك شعوب تتطلع إلى تحقيق أعلى معايير جودة الحياة في مدنها، ومن جهة أخرى هناك من يسعى للعودة إلى ماضٍ مليء بالصراعات الدموية. هذه المعركة بين التنوير والظلام، بين الحق والباطل، هي صراع أبدي لا يجب الاستسلام فيه.
الوقائع تفرض نفسها رغم تهويلات أبوعبيدة الحمساوي ويحيى سريع الحوثي. لقد انتهت معركة "ذات الدواجن"، ولكن الصراع الأكبر لا يزال مستمرًا: صراع التنوير ضد الظلام، وصراع البناء ضد الدمار
في إسرائيل نفسها، نرى انقسامًا مشابهًا بين يمين متشدد ويسار متطرف، مما يظهر أن الشرق الأوسط بأسره مشبع بالتناقضات والمفارقات. وعلى الرغم من التقدم التكنولوجي الذي حققته إسرائيل، إلا أنها لم تتمكن من تحقيق رفاه ديمقراطي مستدام.
التطرف في الشرق الأوسط ليس نتاج عامل واحد، بل هو نتاج شبكة معقدة من العوامل الإقليمية والاجتماعية والاقتصادية. إيران، بدورها، تلعب دورًا محوريًا في تأجيج الصراعات الطائفية، مستغلة الجماعات المتطرفة لتحقيق طموحاتها التوسعية. في المقابل، نجد أن السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين تزيد من الاحتقان الإقليمي. أما الولايات المتحدة، فهي تتذبذب بين محاولة حل النزاعات واتخاذ قرارات تزيد من تعقيدها.
وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت ساحة حرب أخرى، حيث تتصارع الأفكار المتطرفة مع قيم الاعتدال. هنا يأتي دور المؤسسات الدينية والتعليمية في تعزيز قيم التسامح ومواجهة الفكر المتطرف. ولكن لن ننسى أن الفقر والبطالة يشكلان بيئة حاضنة للتطرف، مما يجعل التنمية المستدامة والتعاون الاقتصادي الإقليمي أمورًا حاسمة لتحقيق الاستقرار وقطع الطريق على التطرف.
وسط هذه التحديات، يبقى الأمل في مستقبل أفضل للمنطقة. فشلت إيران في انقلابها على مسار التطبيع السعودي – الإسرائيلي، ورغم الهجمات التي شنتها حماس في 7 أكتوبر، بقيت الرياض وتل أبيب متمسكتين بمسار التطبيع مع دعم دولي لحل الدولتين. لكن هذا الواقع السياسي يظل محل تجاهل من المحور الإيراني الذي يرفض الاعتراف بأن الغزيين، بعد انتهاء القتال، سيجدون أنفسهم في العراء دون دعم دول الاعتدال العربي لإعادة إعمار ما دمرته الحروب.
السخرية التي يتداولها اللبنانيون اليوم من حسن نصر الله تشبه تلك التي يتبادلها اليمنيون بعد رؤية الدخان يتصاعد من ميناء الحديدة نتيجة للقصف الإسرائيلي ردًا على الهجمات الحوثية. هذه السخرية ليست مجرد مزاح، بل هي تعبير عن رفض الشعوب العربية لسياسات الدمار وتأكيد لرغبتها في الانضمام إلى دول الاعتدال والإعمار. لا يمكن مقارنة مدن تتطاول أبراجها مع مدن تحفر الأنفاق ويعيش سكانها في الأقبية. شعوب تسعى للعمل والعيش في مدن مثل دبي وأبوظبي والرياض والقاهرة ومراكش، هي شعوب تتمسك بالحياة، لأنها تدرك أن هذا هو ناموس الكون.
في النهاية، خسر حزب الله اللبناني في معركة “ذات الدواجن” كما خسر في معاركه الأخرى لأنها معارك ضد الدولة الوطنية اللبنانية. وكذلك خسر الحوثيون معاركهم، لأن شمال اليمن لن يقبل العودة إلى الإمامة، ولن يستطيع منع الجنوب من إعلان استقلاله. الوقائع تفرض نفسها رغم تهويلات أبوعبيدة الحمساوي ويحيى سريع الحوثي. لقد انتهت معركة “ذات الدواجن”، ولكن الصراع الأكبر لا يزال مستمرًا: صراع التنوير ضد الظلام، وصراع البناء ضد الدمار.