محمد فيصل الدوسري يكتب:
إيران بين الثورة والدولة
لا تزال التناقضات الجوهرية في السياسة الخارجية الإيرانية مستمرة، ولو كانت إيران تعيش حقبة جديدة بحكومة الرئيس مسعود بزشكيان، ودبلوماسية جديدة مع تولي عباس عراقجي منصب وزير الخارجية، إلا أن التحديات عميقة مع تصاعد الأحداث على إثر حرب غزة وتداعياتها. ومهما كانت خبرة وحنكة أو حتى نوايا القادة الجدد في طهران، تفرض الواقعية حقيقة أن التوازن بين الطموحات الثورية الكلاسيكية لإيران لا يزال يطغى على مصالحها الوطنية الإستراتيجية، في عالم متغير ومتحول الأحداث ومعقد الملامح.
لم تكن عودة عباس عراقجي إلى الواجهة الدبلوماسية الإيرانية مفاجأة، بحكم خبرته السابقة كنائب لوزير خارجية إيران محمد جواد ظريف في عهد الرئيس السابق حسن روحاني، حينها لعب دورًا كبيرًا في مفاوضات الاتفاق النووي عام 2015. وعودته إلى المشهد السياسي في هذا التوقيت الدقيق قد تعكس رغبة إيرانية في إعادة صياغة سياستها الخارجية، لما تمرّ به من توترات واسعة وضغوط دولية كبيرة وأوضاع اقتصادية سيئة.
والتساؤل هنا، هل الرغبة الإيرانية مؤقتة؟ وخصوصًا في تزامنها مع الانتخابات الرئاسية الأميركية، واحتمالية عودة الرئيس السابق دونالد ترامب، المعروف بسياساته المتشددة تجاه طهران؟ أم هي رغبة إستراتيجية مستدامة تهدف إلى تحسين العلاقات مع محيطها العربي والدول الغربية؟
لا أرى تطورًا في السياسة الإيرانية المستقبلية، طالما استمر التضارب الكبير بين استمرارها في دعم الميليشيات الإرهابية في المنطقة، ورغبتها في بناء علاقات سياسية معتدلة، وتفاهمات اقتصادية مستدامة
التساؤلات عديدة حول المركزية الإيرانية المستقبلية في العهد الجديد، وإن كانت ستبقى ضائعة بين أجندات تصدير الثورة الإسلامية ودبلوماسية الدولة الوطنية. فمنذ الإطاحة بحكم الشاه وبداية نظام الولي الفقيه عام 1979، وإيران عالقة بين توجهاتها الأيديولوجية المنطلقة من سدة المرشد الأعلى، والراغبة في كسب نفوذ إقليمي عبر بوابة تصدير الثورة، وتحريك أجنداتها من خلال أذرعها في المنطقة، في مواجهة دولتها الوطنية ومصالحها الاقتصادية الإستراتيجية، ودبلوماسيتها غير القادرة على الخروج من العزلة الإقليمية والدولية، للتعارض الواضح بين التوجهين، ما أثّر على سياسات إيران الإقليمية والدولية.
ويتجلى ذلك التناقض بوضوح عندما تصدر تصريحات إيرانية رسمية من القيادة الجديدة، تحاول تخفيف التوترات الراهنة، وتسعى لتوجيه رسائل إيجابية بشأن تحسين العلاقات مع دول العالم، بينما يصرح المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي عبر حسابه على منصة إكس، “المعركة بين الجبهة الحسينية والجبهة اليزيدية مستمرة، ولا نهاية لها” متجاهلًا الصراع الإيراني – الإسرائيلي وتصاعده، ولم يأخذ بالاعتبار كافة التحركات العربية الإيجابية الصادقة، باتجاه إبقاء الأبواب مواربة والجسور مفتوحة مع إيران، ويحصر كل مشاكل المنطقة بصراع بين الشيعة والسنة. وكأنه تصريح متعمد يهدف إلى تشتيت الانتباه عن حالة الحرج التي تمر بها طهران بعد اغتيال إسماعيل هنية على أراضيها. وفي نفس الوقت يظهر عراقجي المحرك الجديد للدبلوماسية الإيرانية أمام البرلمان الإيراني، ليؤكد على التزام إيران بدعم محور المقاومة كأولوية للسياسة الخارجية الإيرانية.
ولهذا، لا أرى تطورًا في السياسة الإيرانية المستقبلية، طالما استمر التضارب الكبير بين استمرارها في دعم الميليشيات الإرهابية في المنطقة، ورغبتها في بناء علاقات سياسية معتدلة، وتفاهمات اقتصادية مستدامة. فمن يريد التنمية والازدهار، يفترض أن يبحث عن أمن المنطقة واستقرارها، وليس عن خرابها ودمارها!
من يريد التنمية والازدهار، يفترض أن يبحث عن أمن المنطقة واستقرارها، وليس عن خرابها ودمارها!
هل يوجد أمل يومًا ما لانضمام إيران إلى محيطها العربي والإقليمي باتجاه التنمية والازدهار، وتنوع العلاقات الدولية وتصفير المشكلات؟ فطهران في أشد الحاجة أساسًا إلى الانضمام إلى محور الاعتدال والاقتصاد الطموح، لما تمر به من أزمات اقتصادية جراء العقوبات المفروضة عليها. فهل سياستها الحالية تتمحور فعلاً حول رفع العقوبات عنها أو مضاعفتها؟ فما حصل منذ عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، لا يعني إلا أن أولويات إيران القصوى هي نقل المنطقة من خانة الاستقرار إلى حالة الفوضى. ومن يدعم الجماعات المسلحة التي أشعلت فتيل حرب غزة والمتمثلة في حركة حماس، لا يبحث عن رفع العقوبات، أو حتى إزالة إيران من القائمة السوداء لمجموعة العمل المالي (FATF)، فالأفعال أشد تأثيرًا من الأقوال.
إلى أين تتجه إيران في المرحلة المقبلة؟ فمع حالة الحرج التي تمر بها مع استهداف إسرائيل لأبرز قيادات أذرعها حزب الله وحماس، تبقى طهران في حالة حذر من الوقوع في فخ الحرب الإقليمية الواسعة، ما يجعلها تتجنب الحرب وتستعد للمرحلة المقبلة عبر إعادة تشكيل سياستها الخارجية. ولكن هل هذا يعني أنها ستضطر لإعادة النظر في دورها المزعزع للأمن والاستقرار في المنطقة والذي يتطلب من إيران اتخاذ قرار جريء بين قواعدها المتناقضة، والمتمثلة في طموحاتها الثورية ومصالحها الوطنية؟ إن أرادت فعلاً إعادة تعريف نفسها كعضو فاعل في المنطقة والعالم، وأرادت بكل صدق الأفضل للشعب الإيراني عبر كسر عزلتها والنهوض باقتصادها، فإنها تحتاج إلى تقديم تنازلات حقيقية وخيارات ملموسة، تتخلى بها عن أجندات الفوضى، وعن التصريحات الدرامية والخطابات الشعبوية التي استمرت لعقود دون جدوى، ولم تجلب إلا التخدير السلبي لعموم الشارع الإسلامي بشأن القضية الفلسطينية، التي بدورها لم تتقدم خطوة، بل تراجعت بشكل كبير بالرغم من عدالة القضية وأصالتها.
الوضعية الراهنة تتطلب من الحكومة الإيرانية الجديدة الاختيار بين استمرار إيران في عزلتها بسبب طموحاتها الأيديولوجية، أو التموضع ضمن النظام الدولي القائم على السياسة الخارجية المعتدلة وأدوات الاقتصاد الإستراتيجية. ولعل التحركات الإيرانية المقبلة تشكل اختبارًا حقيقيًا لتوجهاتها ورؤيتها المستقبلية، وإن كانت ستعالج تناقضاتها الداخلية، وستتكيف مع المتغيرات العالمية.