مختار الدبابي يكتب:
في ظل الفوضى القانونية.. برامج المرشحين للانتخابات التونسية تتراجع إلى الخلفية
حولت الأزمة القانونية الحادة بين هيئة الانتخابات والمحكمة الإدارية، بشأن من يمتلك سلطة القرار، أنظار الساسة والإعلام والمنظمات المدنية والحقوقية والشارع التونسي. وبدل متابعة البرامج الحوارية بين المرشحين وإجراء مناظرات ثنائية وجماعية لمعرفة أفكار المرشحين ووعودهم لتحسين الوضع، اتجه الاهتمام كله إلى الخلاف القانوني.
وانقسمت المكونات السياسية والشعبية على أساس من مع الهيئة ومن ضدها، ومن مع المحكمة ومن ضدها، بدل أن يكون المقياس هو التوجهات والأفكار ومدى قدرة أيّ مرشح على جلب شيء مختلف يجلب الناس إليه فيدعمونه في صناديق الاقتراع.
المعركة القانونية مهمة لأنها قد تعيد مرشحا أو اثنين أو ثلاثة إلى السباق، مع أن الأمر بات شبه مستحيل بعد نشر هيئة الانتخابات لقائمة المرشحين على الجريدة الرسمية، لكنها حولت الانتخابات إلى جدل تقني لا يفهم فيه الناس، وقد يدفعهم استمرار الجدل وحدته إلى مقاطعة الانتخابات كما كانوا يفعلون في السابق بسبب كثرة الصراعات والشعارات والاتهامات وسيطرتها على المشهد.
منذ 2011، كان الناس يختارون المرشح لمقاييس لا علاقة لها بالبرنامج. في 2014 اختاروا الباجي قائد السبسي لكونه يتزعم جبهة مدنية تعهدت بأن تقطع الطريق على الإسلاميين وتطيح بهم من الحكم. كانت الحملة الانتخابية تقوم على ثنائيات: تقدم في مقابل رجعية، حداثة في مقابل إسلام سياسي، مساواة في الميراث مقابل شريعة. هذه الثنائيات نجحت في جلب الناس إلى الانتخاب بنسبة عالية تحت تأثير الحملات السياسية والإعلامية المكثفة.
وأفضى الصراع على الهوية إلى انتخاب رئيسي ليبرالي وإلى تحالف بين حزب نداء تونس “الحداثي” وحركة النهضة الإسلامية. تقارب كان هدفه حفاظ كل جهة على مكاسبها في السلطة ليس أكثر، خاصة أن التيارين يتقاربان في الأفكار الاقتصادية.
في 2019 حصل شيء قريب من هذا، حيث احتد الصراع حول قضايا الفساد بسبب ترشيح نبيل القروي التي كانت تثار حوله الكثير من الاتهامات والإشاعات، وأفضى الأمر إلى اختيار “رئيس نظيف” لم يكن جزءا من المنظومة السياسية. لم ينتبه الناس إلى أفكاره ورغبته في تغيير النظام السياسي من تمثيلي إلى قاعدي. ومثلما فاز السبسي نكاية في النهضة والمنصف المرزوقي، فقد فاز قيس سعيد نكاية في القروي الذي تحول بقدرة قادر إلى خصم للجميع بمن في ذلك من تحالفوا مع حزبه "قلب تونس".
ويبدو أن الأمور تسير الآن في ذات المسار، حيث سيفضي الجدل حول التفسيرات القانونية إلى انقسام حاد في الطبقة السياسية، وسنشهد تصويتا موجها، على قاعدة من مع هيئة الانتخابات ومن ضدها. ولأن هيئة الانتخابات تتهم بمحاباة قيس سعيد، فالأرجح أن يصوت خصومها لصالح خصم قيس سعيد في الدور الثاني بشكل آلي، ما يعني اجتماع اليسار والوسط والإسلاميين على التصويت المناكف لقيس سعيد، مثلما اشترك أغلبهم في التصويت له في 2019.
لقد وحدت هيئة الانتخابات بتأويلها المثير للاستغراب بين الخصوم، وحولت مسار التنافس الانتخابي إلى جهة أخرى تماما غير البرامج التي يفترض أن تغلب على تحرك أيّ مرشح وتصريحاته. ولنأخذ مثلا المرشح عياشي زمال، فلا يعرف الناس عن أفكاره شيئا، وماذا يريد بترشحه لانتخابات الرئاسة خاصة أن سجله السياسي محدود جدا، إذا لا يعدو أن يكون مجرد نائب غير معروف، وقليل الكلام، في برلمان 2019.
لكن ما يحف بترشيحه من جدل بشأن التزكيات، وعملية التوقيف ثم إطلاق السراح، ثم التوقيف مجددا، جعله مثار اهتمام في الشارع. لقد خاضت هيئة الانتخابات حملة سابقة لأوانها لصالح زمال، وقدمته في صورة المرشح الخصم لقيس سعيد، وهو ما قد يدفع المعارضة، حتى من لا يعرفون عنه شيئا ولا يثقون بقدرته على القيادة، إلى دعمه والتصويت له خاصة إذا خاض الانتخابات وهو في السجن.
ويفترض أن مرشحا بلا خلفية سياسية واضحة، ولا يمتلك حزبه وحركته رؤية للحكم، ألاّ يتم قبوله من البداية كمرشح، وإلا عدنا إلى مربع الأزمة التي حصلت في 2014 و2019، حيث ترشح كل من هب ودب لرئاسة الجمهورية، وهو ما يمثل استهانة بالمنصب وبالديمقراطية ذاتها.
الترشيحات يجب أن تكون واقعية وأن تفسح المجال للأحزاب ذات الخبرة والحضور الشعبي، أو للسياسيين الذين لديهم تجربة في الدولة أو نضال سياسي في المعارضة، ويعرفه الناس كما ينبغي.
لا يكفي لمرشح أن يركز جهده على انتقاد حزب أو رئيس الدولة. انتقاد الآخرين ليس برنامجا يمكن أن يتقدم به مرشح لرئاسة الجمهورية. كل الناس قادرون على النقد، لكن ما يفرّق بين مرشح وآخر هو أفكاره لخدمة البلاد. انتقاد رئيس الدولة أو رئيس البرلمان أو وزير من الوزراء المؤثرين عنصر داعم لكنه ليس بديلا عن البرنامج.
ومنذ 2011 صعدت أحزاب وشخصيات مختلفة إلى البرلمان أو إلى مواقع أخرى مهمة في الدولة من دون أن تملك برامج ولا أفكارا واضحة بشأن التغيير، ومع ذلك فقد لقي هؤلاء اهتماما في الساحة السياسية وحظوة إعلامية، وتحولوا إلى نجوم، ثم خرجوا من المشهد بعد أن اكتشف الناس أن لا قيمة لما يقولونه.
سيكون من المهم لهيئة الانتخابات أن توجه الجهد لتنظيم الحملات الانتخابية لمن بقي من المرشحين وتضع صيغا للظهور الإعلامي تجعل المرشح لا يتكلم سوى عن برنامجه وخططه، وليس عن انتقاد الرئيس الحالي أو العودة إلى امتداح العشرية الماضية أو الهجوم عليها، فهذا أمر لا يهم الناس، ولا يجلب أصواتهم بما يكفي ليصعد بمرشح إلى سدة الحكم.
وهذه فرصة للمرشحين أيضا ليتجهزوا للظهور الإعلامي في أحسن صورة، ليس من حيث اللباس، ولا التفاف الأنصار، ولكن بتقديم أفكار تفصيلية عن شكل الدور الذي يرتئيه لرئيس الدولة، سياسته الداخلية والخارجية. الفرصة مهمة حتى يتجاوز مرشح مثل زهير المغزاوي أمين عان حركة الشعب مرحلة الشعارات العامة التي تطرحها الحركة بشأن البعد الاجتماعي للدولة، ماذا يعني وكيف يمكن تحويله إلى خطط تفصيلية.
هل البعد الاجتماعي يعني أن تتولى الدولة استيعاب آلاف جديدة من الموظفين وأن تنهض بأعباء خدمات الصحة والتعليم وتوفير السلع والتحكم في الأسعار ومحاربة الفساد. إذا كان الأمر كذلك فلمَ البحث عن مرشح جديد، أليس الأجدى أن يستمر قيس سعيد في نفس موقعه؟
من باب موقعها على الربوة، تعمد المعارضات إلى رفع سقف شعاراتها خاصة ما تعلق بمسألة القروض من الخارج، والعلاقة مع صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات المالية الدولية. فهل سيستمر المغزاوي على موقف قيس سعيد من المسالة، وكيف تقيم حركة الشعب تجربة الاستغناء عن قرض صندوق النقد والرهان على مؤسسات مالية أخرى مثل البنك الدولي.
هناك فارق بين الموقف الأيديولوجي الحزبي أو الشخصي وتجربة الفكرة على الأرض حين يصعد المرشح ليكون على رأس السلطة. أم أن المهم هو أن يبدو المرشح ثوريا وحالما خلال الحملة الانتخابية ثم حين يصل إلى السلطة وقتها سيتدبر أمر التنازلات والتكتيك والمناورة.