مختار الدبابي يكتب:
قيس سعيد والعهدة الثانية: استراتيجيات جديدة لتعزيز الحكم
كان فوز قيس سعيد بولاية رئاسية جديدة أمرا متوقعا من البداية حتى لو لم تكابر هيئة الانتخابات وسمحت بترشح بعض المحسوبين على المعارضة. المؤشرات كانت واضحة، والشارع لم ينس بعد ما جرى في العقد الأخير من فوضى وإرباك للدولة وفتح الأبواب للفساد، وهو ما يفسر تمسكه بقيس سعيد حتى وإن كانت نتائج الولاية الأولى غير مكتملة.
من المهم الآن أن يغلق الرئيس سعيد قوس المرحلة الماضية ويتفرغ للمستقبل. حكم النهضة ونداء تونس وبرلمان 2014 و2019 صار كله من الماضي، واكتشف الرئيس التونسي أن الناخبين قد حسموا أمر تلك المرحلة، وأنها لم تعد تمثل تهديدا للدولة، فلا داعي إلى العودة إليها بالخطابات، فهي لا تستحق.
ما يستحق هو استمرار الظواهر التي ارتبطت بتلك الفترة، مثل تمدد ظاهرة الفساد واللوبيات لتطال مختلف القطاعات والمستويات الإدارية في مؤسسات الدولة، ومن المهم استمرار الحرب على تلك الظواهر بنفس القوة والحماس، لكن من دون أن تأسر المرحلة الجديدة، التي يفترض أن يكون عنوانها اقتصاديا واجتماعيا من أجل الوصول إلى وضع يجعل حياة الناس أفضل من ذي قبل.
الدولة الاجتماعية، التي يريد الرئيس سعيد تركيزها، يُفترض أن تقوم على قاعدة تطوير الخدمات في النقل والصحة والتعليم وتوسيع دائرة المستفيدين منها بدلا من ترك المجال للقطاع الخاص ليعوضها
المعارك السياسية تهم الطبقة السياسية، ولا شك أن الصراع سيتواصل بين أنصار قيس سعيد وخصومه ويمكن أن تحمل نتائج الانتخابات الرئاسية جدل العادة، من بيانات وشكاوى واستدعاء بيانات أو مواقف من جمعيات ومنظمات خارجية، وهذا تخصص من تخصصات المعارضة التونسية، والمحاذير في هذا أنها يمكن أن تجر قيس سعيد إلى ملعبها فيصبح الشغل الشاغل للرئيس التونسي هو الحديث عن الجمعيات والاختراق الخارجي والعمالة واستعادة خطاب المرحلة الماضية.
المعادلة معروفة؛ وهي أن المعارضة بأغلب أطيافها تعيش على انتقاد النظام وتتبع الأخطاء وافتعال المعارك والتظلم لغرب لا يستمع لها أصلا، والأفضل بالنسبة إلى مؤسسات الدولة أن تتعامل مع الوضع على أنه أمر عادي، وقد اكتشفت بنفسها حجم القطيعة بين المعارضة والشعب الذي يهتم بقضاياه بدرجة أولى وأخيرة.
وهناك فرصة أمام مؤسسات الدولة، وخاصة الحكومة التي تشكلت قبل الانتخابات بفترة واستوعبت الملفات وصارت جاهزة لقيادة المرحلة الجديدة، لتتولى الوقوف على ما تحقق وما لم يتحقق، واستكمال ما تبقى من ملفات لم تتم معالجتها، لكن من الضروري أن يرتب مشروع العهدة الثانية أولوياته وأن يتحرك بسرعة.
مشاريع كثيرة فتحتها الدولة في السنوات الأخيرة، بما في ذلك مشاريع ما قبل 2021 التي تتعلق خاصة بالنقل والبنية التحتية، سيكون من الضروري المضي فيها بشكل أكثر حماسا وجدية لأن عدم إتمامها يمثل في نظر الناس إشارة إلى عجز الدولة وعدم قدرتها على السيطرة على المشاريع وتوفير التمويلات.
وسبق أن وُضعت خطط لاستكمال كهربة قطارات الأحياء المحيطة بالعاصمة، لكن أغلب المشاريع تعطلت في ظل الفوضى الحكومية ورغبة السياسيين في إنجاز كل شيء في نفس الوقت، وخاصة سياسة استرضاء المطلبيات النقابية والشعبية بالزيادات في الرواتب وإغراق القطاع العام بموظفين جدد تحت الضغط مثلما حصل في موضوع الآلاف من عمال الحضائر.
هناك معضلة التوقف عن إنجاز الطرقات السريعة التي تربط الوسط والجنوب الغربي من اتجاه العاصمة تونس أو مدينة صفاقس. ورغم أهمية هذه المشاريع بالنسبة إلى سكان المناطق الداخلية والمستثمرين، إلا أن البطء والتردد يسيطران على المشاريع. الفرصة الآنية مواتية لتضغط الحكومة، المسنودة بزخم شعبي انتخابي وبمناخ يسيطر عليه التفاؤل، على كل الجهات المعنية لاستكمال مشاريع الطرقات السريعة، تماما مثل بعض الطرقات التي تربط بين مدن الداخل وقراه، والوقوف على نوعية الإنجاز، فهناك إخلالات كثيرة وتجاوزات ومؤشرات واضحة على الفساد.
من المهم الآن أن يغلق الرئيس سعيد قوس المرحلة الماضية ويتفرغ للمستقبل. حكم النهضة ونداء تونس وبرلمان 2014 و2019 صار كله من الماضي
ويقف الكثير من الناس الذين يعودون إلى المناطق الداخلية على حجم التلاعب في الطرقات الرابطة بين المدن وكيف تظهر عليها العيوب سريعا لأنها لا تنفذ وفق المقاييس المتفق عليها، ما يضطر الجهات الحكومية (وزارة التجهيز وإداراتها المختلفة) إلى ضخ الأموال للترقيع والاستصلاح الموضعي، وتكليف نفس المقاولين بالمهمة، ليعود الوضع كما كان عليه بعد أشهر قليلة.
أموال الدولة تنفق في حلقة مفرغة ولا تقدر على وقف النزيف، وهو ما يشير إليه الرئيس سعيد باستمرار من خلال الحديث عن اللوبيات وكارتلات الفساد.
وزاد هذا بشكل خاص في فترة ضعف الدولة بعد 2011 في ظل ضعف المراقبة والمحاسبة وتدنّي الشعور بوجود دولة قوية يمكن أن تضرب بقوة في أي لحظة دفاعا عن المال العام.
وبالإضافة إلى مشكلة النقل والبنية التحتية المرتبطة به، يمكن أن نشير إلى مشكلة الخدمات بمختلف أوجهها، خاصة موضوع الخدمات الصحية، وهو ملف شائك ومعقد. في المرحلة السابقة، بما في ذلك ما بعد 2021، اكتفت الحكومات بمجاراة الوضع، أي التدخل المحدود لتمكين المستشفيات الصحية الحكومية من الاستمرار من دون أن تعيد تنظيم القطاع بشكل يحل مشكلاته ولو على مراحل.
ويعيش القطاع الصحي الحكومي منافسة غير متكافئة مع القطاع الصحي الخاص الذي توسع بشكل كبير، ونجح في استقطاب أغلب الكفاءات والاعتماد على أجهزة حديثة ما جعل خدماته أفضل واستفاد من محدودية الخدمات التي تقدمها مستشفيات الحكومة ليفرض أسعارا باهظة لا تقدر عليها الشرائح الاجتماعية محدودة الدخل أو الفقيرة، التي تجد نفسها مجبرة على الذهاب إلى المستشفيات الحكومية بالرغم من نقص الأجهزة والأدوية والمزاج السلبي الذي يطبع أداء مسدي الخدمات. وهو مزاج مرتبط بأمرين؛ الأول الشعور بوجود فوارق في الرواتب والمزايا مع نظرائهم في القطاع الخاص، والثاني سيطرة البيروقراطية على الأداء كلما تعلق الأمر بالخدمات المسداة للمواطن واستشراء المحسوبية والتدخلات في الحصول على هذه الخدمات.
الأزمة هيكلية وقديمة ومعقدة، لكن يمكن التعاطي معها بعقلية جديدة تعيد الأضواء للقطاع الحكومي بالاستثمار فيه فعليا وشراء أجهزة جديدة متطورة وتعميمها على مستشفيات المدن الداخلية وكسر منظومة التركيز على المدن الكبرى، حيث تعاني مستشفيات سوسة وصفاقس والعاصمة من ضغوط كثيرة بسبب افتقاد مستشفيات الداخل للإمكانيات، خاصة ما تعلق بالعمليات الجراحية وأطباء الاختصاص.
هناك فرصة أمام مؤسسات الدولة، وخاصة الحكومة التي تشكلت قبل الانتخابات بفترة واستوعبت الملفات وصارت جاهزة لقيادة المرحلة الجديدة، لتتولى الوقوف على ما تحقق وما لم يتحقق
إن الدولة الاجتماعية، التي يريد الرئيس سعيد تركيزها، يُفترض أن تقوم على قاعدة تطوير الخدمات في النقل والصحة والتعليم وتوسيع دائرة المستفيدين منها بدلا من ترك المجال للقطاع الخاص ليعوضها ثم توجيه الاتهامات له، دون أن ننسى تطوير الإدارة وتفكيك المنظومة البيروقراطية المرضية.
كما أن هذه الدولة لا يمكن أن تقوم على فكرة شراء ود المواطنين بتركيز منظومة تقوم على استسهال الدعم المالي وتقديم المنح والمساعدات، فهي تخلق مجتمعا كسولا يظل يطالب بالدعم دون مراعاة وضع الدولة وظروفها، مثل التي تعيشها الآن، وهي في أمس الحاجة إلى توظيف الأموال التي تحصل عليها في إحياء المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتحريك دواليب الاقتصاد، وهي خطوة ضرورية لخلق الثروة وتمكين الدولة من عائدات تستثمرها في تحسين الخدمات.
وهناك مشكلات كثيرة تحتاج إلى خطط حكومية في العهدة الجديدة، وبالتأكيد سيكون على رأسها وضع إستراتيجية لتطوير الزراعة وتحسين أدائها لتحقيق نسبة عالية من الاكتفاء الذاتي، خاصة في ما يتعلق بالحبوب وتلافي الأزمات التي شهدتها المنطقة في ظل مخلفات الحرب في أوكرانيا.
وتحتاج الإستراتيجية الزراعية للحكومة إلى التعامل مع المياه كقضية مصيرية؛ وذلك بأن تستثمر فيها بطرق مختلفة، مثل إقامة السدود على الأودية ومنع الهدر المجاني لها بتركها تنساب إلى البحر دون أي استغلال، في وقت تواجه فيه البلاد نقصا كبيرا في الموارد المائية. ولا يُعرف لماذا تخلت الدولة بعد الثورة عن مهمة إقامة السدود وأوقفت خططا سابقة لتجميع مياه الأمطار وتخزينها للشرب والسقي.