مختار الدبابي يكتب:
قرار هيئة الانتخابات في تونس: تعزيز موقف قيس سعيد أم دعم المعارضة؟
وضعت هيئة الانتخابات المشرفة على الانتخابات التونسية نفسها في وضع صعب برفضها قرار المحكمة الإدارية القاضي بإرجاع ثلاثة مرشحين إلى السابق الرئاسي. الهيئة وجدت نفسها في مواجهة الجميع من مرشحين وأحزاب سياسية ومنظمات مدنية واجتماعية، وخاصة رجال القضاء، الذين لزم الكثير منهم الحياد في الخلافات الناشئة عن الانتقال الذي حصل في 25 يوليو 2021.
ما الذي تريده الهيئة؟ هل إظهار نفسها في موقع قوة، وأنها صاحبة القرار الأخير بشأن الانتخابات، أم أنها تعمل على إظهار نفسها كواجهة سياسية مناوئة للمنظومة القديمة التي يهاجمها الرئيس قيس سعيد باستمرار ويتهمها بعرقلة مسار الإصلاح الذي يخطط له؟
رغم الحرص على الظهور في موقع قوة، فإن الهيئة ارتبكت في موضوع الرفض، فمرة تقول إن المحكمة الإدارية لم ترسل إليها الأحكام عبر القنوات الرسمية إلا بعد فوات الوقت، وإنها ملزمة بغلق قائمة المرشحين في وقت مضبوط، ومرة أخرى تقول إن المحكمة أرسلت “مكتوب منطوق الحكم” وليس نسخ الأحكام، ثم لاحقا عادت لتثير مآخذ أخرى من بينها أن المرشحين المعنيين لم يضمّنوا ملفاتهم بطاقة السوابق العدلية، بعد أن كانت هي نفسها قد قالت إنها لم تسقط أيّ مرشح لهذا الاعتبار.
المراقبون لن ينظروا للشأن التونسي إلى تفسير التأويلات القانونية ولا صراع الإرادات والمؤسسات، فهو لا يعدو أن يكون تفسيرا ضمن جدل الداخل. سينظرون إلى الأمر على أنه تدخل من السلطة ضد إرادة القضاء
الأمر خرج عن صراع الصلاحيات والتنافس بين المؤسسات إلى الهز من صورة الانتخابات وصورة تونس، وبذلك الخروج عمّا هو قانوني إلى ما هو سياسي. الهيئة إذن حرّكت عش الدبابير بحركة واحدة غير مدروسة.
السؤال: ما الذي ستجنيه الهيئة من هذا التشدد في التأويلات ومنطق “خالف تعرف”، وأي تأثير لخطوتها على مسار الانتخابات وصورتها في الداخل والخارج؟
لا يبدو أن ثمة مكاسب يمكن أن تحصل عليها هيئة الانتخابات بشكل مباشر من وراء موقفها بمنع ترشح ثلاثة معارضين لقيس سعيد. لم تقدم الهيئة بهذا خدمة للرئيس المنتهية ولايته، والذي يعتقد على نطاق واسع أنه المرشح للفوز. على العكس، فالتأويلات في أغلبها تقول إن الهيئة تنفذ أجندة السلطة بمنع المناوئين من الترشح وتجنب منافسة غير مضمونة، والاكتفاء بمنافسين صغار.
وبالتأكيد فإن قيس سعيد ليس في حاجة إلى خدمة تضع فوزه بولاية ثانية مثار شكوك وانتقادات، وتقدم خدمة مجانية للمعارضة وللجمعيات المدنية والحقوقية وتعطيها ورقة تزايد بها عليه.
هل كان قيس سعيد يخاف من ترشيح خصوم مشتتين قادمين من منظومة ما يزال الناس غاضبين عليها ويرمونها بكل التهم، من فساد وسوء إدارة وصراع على المصالح واستهانة بالدولة ومؤسساتها؟
قرار الهيئة سمح بتوحيد المعارضة بمختلف أطيافها، إسلاميين ويسار ومنظمات مدنية وقضاة ومحامين وإعلاميين، خاصة أنها أقامت نقطة إعلامية دون استدعاء الصحافيين. الجميع صار ضد السلطة في سفينة واحدة اسمها هيئة الانتخابات.
اتحاد الشغل الذي اختفى لأشهر وسكت عن البيانات أطل من جديد ببيان يقول فيه إن قرار الهيئة “تجاوز خطير للقانون وتكريس لقرار سياسي”.
وأكد في البيان رفضه “لهذا القرار الخارج على القانون واعتباره توجيها ممنهجا ومنحازا وإقصائيا وتأثيرا مسبقا على النتائج”، مضيفا أنه “ضرب صارخ للسلطة القضائية ولأحكامها”.
هيئة الانتخابات أعادت الاتحاد إلى الواجهة، وأعادت الحرارة إلى علاقة الإسلاميين بخصومهم من أحزاب الوسط ممن يصفون أنفسهم بالديمقراطيين، وجلبت المترددين، الذين كانوا ضد المنظومة السابقة واصطفوا إلى جانب مسار 25 يوليو 2021 ثم بدأوا بالتراجع شيئا فشيئا ووقفوا على الربوة. الهيئة أخذت بأيديهم وأعادتهم إلى صف المعارضة.
هيئة الانتخابات تبدو وكأن مهمتها هي الوصول إلى انتخابات بلا مصداقية من خلال فتح جبهات كانت نائمة فأيقظتها ضد السلطة، وضد الهيئة نفسها
النهضة بدورها تراجعت وانكمشت وفشلت في بناء جبهة “إنقاذ” خاصة بها من بوابة جبهة “الخلاص” وتسللت الخلافات والاستقالات إلى صفوفها. الهيئة أعادتها المرة الأولى حين رفضت ترشيحات الكثيرين بسبب التزكيات، ثم من خلال رفض قرار المحكمة الإدارية.
كانت الحركة تتجه إلى سبات طويل في غياب قادتها، وفشلها في إيجاد موقع يتيح لها إرباك قيس سعيد. الهيئة خلقت لها الفرصة الذهبية لتعيد تموقعها في المشهد وترتيب بيتها الداخلي والتهيؤ للمناكفة.
يقول أنصار قيس سعيد إن المعارضة وإن اتحدت يمينها ويسارها ووسطها فهي لا وزن لها، وإن سعيد تكفيه شعبيته الكبيرة التي حصل عليها من 2019 ليفوز من الدور الأول.
هذه مصادرة فيها الكثير من المبالغة لاعتبارات منها أن قيس سعيد فاز في 2019 ضمن خيار التصويت المفيد، حيث اصطف إلى جانبه أنصار الأحزاب والمجموعات السياسية لقطع الطريق على نبيل القروي، بما في ذلك جمهور النهضة. الجميع كان يراهن على أن دعمه لشخصية غير حزبية سيخدمه، ويمكن أن يجعل الرئيس الجديد في صفه.
كما أن حماس الشعب لأيّ شخصية سياسية أو حزب ليس ثابتا، فهو يتعلق باللحظة السياسية. الحملات الإعلامية على القروي خدمت قيس سعيد في الشارع، فصوت له الناس بحماس. والحملات الحالية على هيئة الانتخابات وربطها بأجندة سياسية لتطويع الديمقراطية قد تمس من صورة قيس سعيد، وقد تدفع الناخبين غير الحزبيين إلى التردد، وهو ما يهدد بتكرار نتائج المناسبات الانتخابية الماضية بدءا بالاستفتاء على الدستور والانتخابات البرلمانية ثم المحليات، وكانت نتائجها في حدود 12 في المئة وأقل.
ولا ننسى أيضا أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي سيكون محددا في الإقبال على التصويت. الناس يتحمسون للانتخابات في حال كان لديهم دافع، ويسيطر عليهم التردد حين يشعرون بأن الانتخابات لا تقدم ولا تؤخر. فهل أن واقع الناس حاليا مريح؟ بالتأكيد لا في ظل ارتفاع الأسعار وفشل الحكومة في التحكم بحركة السوق وتأمين المنتجات بشكل منتظم.
الأمر خرج عن صراع الصلاحيات والتنافس بين المؤسسات إلى الهز من صورة الانتخابات وصورة تونس، وبذلك الخروج عمّا هو قانوني إلى ما هو سياسي. الهيئة إذن حرّكت عش الدبابير بحركة واحدة غير مدروسة
ليس مهمّا السبب، إنْ كان ناجما عن مؤامرة ولعبة اللوبيات في عرقلة السلطة، أو ناتجا عن ندرة في السلع، أو ارتفاع تكاليف المنتجات، أو أن الأمر يتعلق برغبة القشارة (الوسطاء بين المنتج والمستهلك) في فرض أسعار مرتفعة على الناس لإثارة غضبهم. النتيجة واحدة، وإن اختلفت الأسباب والقراءات، وهي أن الحكومة عجزت عن تأمين أسعار في متناول الناس.
هناك مناخ عام بدأ ينتقل نحو التفاعل الإيجابي مع الوضع السياسي بعد قرار المحكمة الإدارية إرجاع مرشحي المعارضة إلى السباق. الحيوية السياسية تغير مزاج الناس وترفع منسوب التفاؤل وتعيد للناخب الرغبة في التصويت والذهاب إلى صناديق الاقتراع على أمل تغيير المعادلة لصالح المعارضة أو تثبيتها لصالح قيس سعيد أو لشخص “محايد” يضع ساقا هنا وأخرى هناك.
وبقطع النظر عن صراع الإرادات القضائية الذي يظهر في جانب منه أن القضاء ما يزال قوة مؤثرة، وأن لا صحة لاتهامه بأنه بات تحت قبضة السلطة، فإن العودة عن ترشيح من يحسبون على المعارضة بشقيها الإسلامي (حركة النهضة وتفرعاتها) والدستوري (نسبة إلى الحزب المؤسس للدولة الوطنية وتفريعاته المختلفة) ستمثل انتكاسة ليس فقط بالنسبة إلى صورة الانتخابات، ولكن أيضا لصورة تونس الخارجية.
لن ينظر المراقبون للشأن التونسي إلى تفسير التأويلات القانونية ولا صراع الإرادات والمؤسسات، فهو لا يعدو أن يكون تفسيرا ضمن جدل الداخل. سينظرون إلى الأمر على أنه تدخل من السلطة ضد إرادة القضاء خاصة في ظل ما بات يحيط من شكوك بشأن هيئة الانتخابات ومدى استقلاليتها عن السلطة.
وبالنتيجة، فإن هيئة الانتخابات تبدو وكأن مهمتها هي الوصول إلى انتخابات بلا مصداقية من خلال فتح جبهات كانت نائمة فأيقظتها ضد السلطة، وضد الهيئة نفسها.