مختار الدبابي يكتب:
قيس سعيد: لا سلطة خارج سلطتي
وجّه الرئيس التونسي قيس سعيد الاثنين في لقائه مع رئيسة الحكومة نجلاء بودن رسائل واضحة في اتجاهات مختلفة تلتقي عند نقطة واحدة، وهي أنه لا سلطة فوق سلطته، وأن عمل مختلف المؤسسات والوزارات يجب أن يسير وفق السياسة التي يرسمها رئيس الجمهورية.
جاء هذا الكلام بعد إقالة وزيرة الصناعة والمناجم والطاقة نائلة نويرة القنجي بعد تصريحات قالت فيها إن الحكومة شارفت على الانتهاء من إعداد برنامج توجيه الدعم إلى مستحقيه وخاصّة في ما يتعلق بالمحروقات.
وهذا يعني أن حكومة بودن تستعد للاتفاق مع صندوق النقد من خلال سلسلة من الخطوات التي يطلب تنفيذها بشكل واضح، وعلى رأسها موضوع رفع الدعم، بما يتنافى بشكل صريح مع ما يقوله قيس سعيد وما يقرره.
ومن الواضح أن المشكلة بالأساس ليست في الاستعداد مع صندوق النقد الدولي، ولكن في تصريح الوزيرة خاصة أن لا أحد كلّفها بأن تقول هذا الكلام وتتحدث عن موضوع ليس من صلاحيات وزارتها، وهو موضوع حساس يحتاج إلى أن تتحدث فيه جهة وازنة وضمن رؤية واضحة وتوقيت محدد.
وكانت إقالة وزيرة الصناعة رسالة دقيقة من قيس سعيد مفادها أن مهمة الوزراء والمسؤولين هو العمل والتطوير وليس الحديث ونشر خطط الحكومة وبرامجها ومشاريع أفكارها للعموم من دون سبب. والوزيرة التي قد تكون تحدثت بهدف إظهار أن الحكومة تعمل وتنجز، وأن صمتها لا يعني أنها سلبية، كان دفاعا عن الحكومة لكنه مسّ مجالا حيويا وحساسا ما تزال الدولة لم تحسم أمره وتأثيراته وطريقة التعامل معه.
قدمت الوزيرة بحديثها دليل إحراج للحكومة أكثر منه دفاعا عنها. وهذا التناقض سيتم توظيفه من المعارضة على أنه تناقض بين ما يقوله الرئيس سعيد، وما تتهيأ الحكومة لتنفيذه، ما يعني أن الحكومة تتصرف في واد والرئيس سعيد في واد آخر، أو أن هناك تنسيقا وتفاهما على أن يتم الإعلان عنه لاحقا في سياق رؤية واضحة من قيس سعيد.
وقالت الوزيرة المُقالة “الحكومة منكبّة على دراسة فرضيات منظومة الدعم وفرضيات توجيهها بصفة محكمة ونحن في مراحلها الأخيرة وخلال الأيام القليلة القادمة سننهي العمل وعندها ستتوضح تواريخ الزيادات التي قد يتم إقرارها على المحروقات”.
وفي الوقت الذي يقول فيه الرئيس سعيد إن تونس تتصرف وفق قرارها الداخلي وظروفها ولا أحد يفرض عليها شروطه من الخارج بما في ذلك صندوق النقد، تأتي الوزيرة لتقول إن الحكومة جهزت الآليات الضرورية لتنفيذ ما يريده الصندوق بما يعطي الفرصة للمعارضة واتحاد الشغل للمزايدة على الرئيس وإظهاره في صورة من يخطط للتخلي عن الدعم الذي تعيشه به الآلاف من الأسر التونسية من الفقراء وضعاف الحال إلى الفئة المتوسطة، والتي يعني رفع الدعم إلحاقها بالفقراء والمحتاجين.
تسريب الخطة قبل وقتها وإحراج قيس سعيد سيعنيان التشكيك في شعاراته المنحازة إلى الفئات الفقيرة وحديثه المستمر عن أن “تونس لن تقبل بأيّ إملاءات من أيّ جهة كانت، فالحلول يجب أن تنبع من الإرادة الشعبية التونسية وأن تكون تونسية خالصة وفي خدمة الأغلبية المفقرة التي عانت ولا تزال تعاني من البؤس والفقر”.
فقيس سعيد ينظر إلى موضوع صندوق النقد من جوانبه المختلفة، وهو لا يعارض الإصلاحات التي تحسّن وضع الاقتصاد، لكنه يرفض أن تكون تلك الإصلاحات على حساب الفئات الفقيرة والمتوسطة، حيث أن التخلي عن الدعم سيدفع إلى ارتفاع الأسعار بشكل لا يقدر فيه الناس على توفير حاجياتهم.
وقال الرئيس سعيد للصحافيين خلال إحيائه في مدينة المنستير ذكرى وفاة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة باني دولة الاستقلال “بالنسبة إلى صندوق النقد الدولي، الإملاءات التي تأتي من الخارج وتؤدي إلى مزيد التفقير هي مرفوضة”.
ليس هناك شك في أن توجهات قيس سعيد منحازة إلى الفئات الفقيرة، ولا يريد أن يتخذ إجراءات تزيد من معاناتها، لكن ذلك لا يعني أن الحكومة لن تسير في تنفيذ مجموعة من الإصلاحات من بينها الرفع التدريجي للدعم عن المحروقات، أو التوجه بجدية لإصلاح المؤسسات الحكومية التي تعاني من مصاعب بسبب البيروقراطية والفساد.
كما وجه قيس سعيد في كلامه الخميس رسائل خاصة إلى من يعملون في مؤسسات الدولة، وهواهم وانتماؤهم ما يزالان لمنظومة ما قبل 25 يوليو 2021 ليقول لهم “من لا يزال في ذهنه أنه يعمل في ظل الدستور السابق فهو مخطئ في التاريخ، ومن يريد الجلوس على مقعدين اثنين فخير له ألا يتحمّل أيّ مسؤولية”.
والرسالة هنا واضحة، ومفادها أنه لا مجال لمن ينتمي إلى منظومة ما قبل 25 يوليو أن يستمر في ما بعدها، سواء أكان وزيرا أو مسؤولا في إدارة كبيرة أو متوسطة، وهذا مهم لأن الإدارة التنفيذية أيّا كانت خطط موظفيها ووزنهم تحتاج إلى توحيد الآليات وإلى قلب رجل واحد من أجل تنفيذ البرنامج الذي يصدر من رئيس الجمهورية سواء اقتنعوا به أم لم يقتنعوا. ومن يرفض أن ينفذ الخطة الحكومية لأنها لا تتلاءم مع أفكاره والتزامه السياسي فمن الأولى أن يستقيل وإن لم يفعل ذلك فمن واجب الحكومة أن تقيله وتبحث عمّن ينفذ الخطة بحماس.
من الواضح أن الرئيس سعيد قد استفاد من أخطاء منظومة ما قبل 25 يوليو، ومن أبرز هذا الأخطاء وجود وزراء في حكومة واحدة لا يشتركون في شيء، وكل يشتغل لأجندته السياسية وبشكل علني، وهو الوضع الذي عرقل كل شيء في البلاد وساهم بشكل مباشر في الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد حاليا.
ولأجل هذا يتوقع أن تحدث إقالات وتغييرات تطال مختلف المسؤوليات في الدولة بالتخلي عمّن أسماهم الرئيس سعيد “من يسعون للجلوس على مقعدين في نفس الوقت”، مقعد الولاء للمنظومة السابقة ومقعده في الدولة مع منظومة 25 يوليو.