الحبيب الأسود يكتب:

محمد بن زايد في البيت الأبيض: لغة العقل ورسالة السلام

شكلت زيارة رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى واشنطن حدثًا مهمًا، سواء من حيث توقيتها قبيل موعد الحسم الانتخابي في الولايات المتحدة، وفي ظل اتساع دائرة الصراع في منطقة الشرق الأوسط، أو من حيث الملفات التي ناقشها الزعيم العربي مع الرئيس الأميركي جو بايدن ونائبته كامالا هاريس، والتي تمحورت بالأساس حول جوانب إستراتيجية في العلاقات الثنائية بين البلدين، وحول قضايا سياسية وإنسانية تلامس الواقع المعيش في منطقة الشرق الأوسط والقرن الأفريقي مثل الحرب في غزة ولبنان والأزمة في السودان.

صدق بايدن عندما أشاد بدولة الإمارات العربية المتحدة وقيادتها وشعبها ووصفهم بأنهم رواد يقومون دائمًا بمراهنات كبيرة، فتلك الصفات باتت جزءًا من هوية التميز الإماراتي، ومن قدرة الدولة الفتية في منطقة الخليج العربي على أن تتجاوز حدود المستحيل بامتلاك آليات التأثير في الأحداث الإقليمية والدولية، والانطلاق في تشكيل ملامح دور ثقافي وحضاري وإنساني وسياسي على مستوى العالم، وهو ما يبرز من خلال المؤشرات التي تفرزها الإحصائيات والأحداث والتجارب على أكثر من صعيد، ومن خلال اعتراف القوى الكبرى بمختلف مواقعها الجغرافية وهوياتها الثقافية وعقائدها الأيديولوجية ومساحات نفوذها الجيوسياسي بموقع الإمارات كدولة صاعدة وبدورها كقوة تأثير واقتراح وإدارة للتحولات الإيجابية على صعيد المنطقة والعالم.

 زيارة محمد بن زايد إلى البيت الأبيض مثلت فرصة ملائمة استمع من خلالها القادة الأميركيون إلى حديث العقل في زمن العاصفة، وإلى حديث الحكمة في مواجهة خطاب الفوضى

بحث الشيخ محمد بن زايد مع الرئيس بايدن فرص توسيع الشراكة الإستراتيجية بين البلدين، بما في ذلك في مجالات التجارة والاستثمار والاقتصاد والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والفضاء والطاقة والعمل المناخي. كانت المحادثات صريحة وعميقة وحاسمة في اتجاه أهدافها المرسومة سلفًا سواء في أبوظبي أو في واشنطن، وأكدت أن الجانب الأميركي متمسك بتطوير علاقاته مع الإمارات بالشكل الذي يناسب مصالح الطرفين. هناك قناعة باتت راسخة لدى الكثير من العواصم الغربية ومنها واشنطن، وهي أن علاقاتها مع الإمارات يمكن أن تفيدها كثيرًا ليس فقط من حيث المبادلات التجارية والاستثمارات المشتركة والتعاون المالي والاقتصادي، وإنما من حيث الاستفادة من وجهات نظر الإماراتيين ومن قراءتهم الواقعية للأحداث. في الكثير من المناسبات تبين أن أبوظبي قادرة على أن تعطي دروسًا للعواصم الغربية في قراءة الأحداث وتحليل المتغيرات ورسم خرائط التحولات الجيوسياسية.

خلال لقائه مع نائبة الرئيس والمرشحة للسباق الرئاسي كامالا هاريس، أكد الزعيم العربي أن الإمارات تؤمن بأن السلام في المنطقة يصب في مصلحة الجميع، وهو الطريق نحو تحقيق التنمية والتقدم لشعوبها كافة، وقال إن الإمارات تدعم أي جهد أو تحرك في هذا الخصوص. وهو بذلك ينطلق من عقيدة فكرية ثابتة وواضحة انبنت عليها مدرسة الشيخ زايد، وأخذها الابن عن الوالد ليجعل منها منطلقًا أساسيّا لتجربته السياسية، ولرؤيته للعلاقات الدولية والإنسانية، وللمبادئ والقيم التي يستند إليها مشروعه الريادي في الزعامة والقيادة وإدارة شؤون الحكم من مختلف المواقع التي تبوأها وصولًا إلى منصب رئيس الدولة الذي تولاه في 14 مايو 2022.

أشادت هاريس بقيادة الإمارات وشراكتها مع الولايات المتحدة في مجال التكنولوجيا المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي وتنويع سلاسل التوريد واستكشاف الفضاء، وهو ما يعني اقتناع واشنطن الكامل بشرعية ومشروعية تطلع الإمارات للانضمام إلى نادي الكبار في مجالات علمية وتكنولوجية كانت حكرًا على القوى العلمية التقليدية، قبل أن تكسر الدولة العربية الناهضة القاعدة بالانطلاق في اتجاهات المشاركة في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي عبر العديد من المبادرات والمنجزات المخبرية والأكاديمية والتصنيعية، وفي استكشاف الفضاء وفق منظومة عملية متقدمة ومنسجمة مع بقية أركان مشروعها الحضاري الكبير.

 الشيخ محمد نجح في تكريس أبعادها الفكرية والمعرفية وحوّلها إلى عقيدة سياسية مرشحة لأن تكون بوابة العالم نحو تحقيق قيم العدالة والسلام لكل الشعوب

أثبتت أحداث المنطقة خلال العقود الماضية أن الولايات المتحدة كانت في أغلب الأحيان عنوانًا للفشل الذريع في قراءة المستجدات، وذلك نتيجة تعاملها مع مؤشرات السطح وجهلها أو تجاهلها لما يدور في العمق، واعتقادها أنها قادرة على استغلال الفرص لنشر مبادئها وترويج شعاراتها سواء عن طريق التدخل المباشر أو غير المباشر، وأنها يمكن أن تجعل من الشرق غربًا، في حين أن مقولة “الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا” لا تزال تعبّر عن طبيعة العلاقة بين الشرق والغرب منذ أن أطلقها الشاعر الإنجليزي روديارد كبلنغ في نهاية القرن التاسع عشر، والتي يمكن تفسيرها من منطلق إصرار الغرب على منطق الهيمنة مقابل تمسك الشرق بخصوصياته الثقافية التي لا يمكن التفاعل معها من دون احترامها حتى لا تتحول إلى قنابل موقوتة قابلة للانفجار تلقائيًا في أي حين كما حدث في مناسبات عدة ومؤهل لأن يحدث في أي وقت قادم.

لقد فشلت الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق وليبيا وتبين أن اندفاعها لتبني شعارات ما يسمى بالربيع العربي، ولدعم تيار الإسلام السياسي، وتجاهلها في مناسبات عدة لصوت العقل، ورطها في الكثير من المشاكل والقضايا، وكلفها العديد من الخسائر والخيبات، وجعل المنطقة تدفع من ورائها ملايين القتلى والجرحى والنازحين، وأكثر من تريليون دولار من ثروات الشعوب، مع انهيار الدولة الوطنية في أكثر من بلد، لتستفيد من ذلك الجماعات العقائدية المتشددة والميليشيات المسلحة الخارجة على  القانون.

ولو عدنا قليلًا إلى الوراء لاكتشفنا أن قيادة الإمارات كانت دائمًا سباقة لتحليل اتجاهات العاصفة، ولمعرفة ما قد ينجر عنها من نتائج مأساوية من الصعب تلافيها أو تعويضها، لكن عواصم الغرب لم تكن لتعترف بأنها على خطأ، أو بأنها يمكن أن تقع ضحية خداع تتعرض له من حكومات أو منظمات أو شخصيات أو تقارير إعلامية يتم حبكها بإتقان كما حدث في الكثير من المناسبات منذ أوائل العام 2011، أو بأن الفساد يمكن أن يعشش في داخلها من خلال منظومة تجد في منطقتنا الفضاء الأمثل للارتزاق كما حدث من خلال الصفقات التي أبرمت مع أمراء الحرب وقادة الميليشيات وجماعات المعارضة التي عادة ما تجيد العزف على وتر الشعارات التي يطرب الغرب لسماعها.

 الشيخ محمد بن زايد بحث مع الرئيس بايدن فرص توسيع الشراكة الإستراتيجية بين البلدين، بما في ذلك في مجالات التجارة والاستثمار والاقتصاد والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والفضاء والطاقة والعمل المناخي

تدرك الإدارة الأميركية أن محمد بن زايد ليس فقط صاحب جملة من الثوابت الفكرية والسياسية والثقافية المتميزة في محيطه الإقليمي والدولي، وإنما يمتلك مقومات القوة والتأثير التي تجعله قادرًا على تكريس تلك الثوابت، والتبشير بها، وذلك من خلال قانون فرض الإرادة عبر التفعيل المنهجي بالاعتماد على آليات السيادة على الأرض والقدرة على ملامسة أبجديات الواقع والتعامل معها، ليس فقط بما يجعل المستحيل ممكنًا، ولكن بتغيير اتجاهات التاريخ عبر قراءة عميقة وعقلانية لحسابات الجغرافيا السياسية والاجتماعية والثقافية، واستباق الأحداث بقراءة رؤيوية واثقة من أدواتها سرعان ما يتم تحويلها إلى تغيير جذري على الأرض. فالشيخ محمد بن زايد يؤمن بأن المبادرة هي طريق النجاح، والاستشراف هو أساس التميز، كما أن المستقبل يبدأ الآن، والأمن القومي موجود حيث للدولة مصالح تحتاج إلى الحماية.

ومن علامات قوة الدولة وفق ما يتبين من فكر محمد بن زايد، أن تعتمد على قوتها في تحديد مسارات علاقاتها الإستراتيجية، وأن تفرض مكانتها على الأرض بما يشكّل دورها الذي تنطلق منه في الحوار مع الدول الكبرى والفضاءات الإقليمية والتحالفات الجيوسياسية واسعة التأثير، وهو ما أعطى لدولة الإمارات مجالًا رحبًا للتحرر من أيّ ضغوط قد تواجه الدول الأخرى بخصوص تنويع علاقاتها وتحالفاتها وفق مصالحها. اليوم تبدو الإمارات بمشروعها الوازن وقد تحولت إلى قوة فعل ليس فقط في منطقة الخليج والشرق الأوسط، وإنما على صعيد العالم بأسره، وهي تمتلك سلسلة مفاتيح لحل الكثير من القضايا والملفات، كما أن لديها علاقات قوية ومتكافئة مع كل دول العالم تقريبًا، وليس لها عداء مع أي طرف، ويمكنها أن تكون على الدوام قوة مبادرة بضمان الحلول المنطقية وفق القيم المرجعية التي تأسست عليها ركائز الدولة وفي مقدمتها الحوار والتضامن والتسامح والسلام وتوفير الظروف الملائمة لتحقيق الرفاه والتقدم للإنسانية جمعاء.

يمكن القول إن زيارة محمد بن زايد إلى البيت الأبيض مثلت فرصة ملائمة استمع من خلالها القادة الأميركيون إلى حديث العقل في زمن العاصفة، وإلى حديث الحكمة في مواجهة خطاب الفوضى الذي تم الترويج له خلال الفترة الماضية على أكثر من صعيد، وحديث السلام بأبعاده الإنسانية التي طالما كانت الإمارات حاضنة لها وفق المنهجية التي تأسست عليها مدرسة زايد والتي نجح الشيخ محمد في تكريس أبعادها الفكرية والمعرفية وحوّلها إلى عقيدة سياسية مرشحة لأن تكون بوابة العالم نحو تحقيق قيم العدالة والسلام لكل الشعوب في ظل قيم التسامح والحوار التي تبشر بها أبوظبي على نطاق واسع بعد أن جعلت منها رسالتها إلى العالمين.