الحبيب الأسود يكتب:
أطفال القدس في ضيافة مولاي الحسن: رسالة مغربية لمن يقرأ السطور وما وراءها
لن ينسى أطفال القدس تلك اللحظات المؤثرة التي استقبلهم فيها ولي العهد المغربي الأمير الحسن الثالث بالقصر الملكي في مدينة تطوان، والتي حملت كل معاني التضامن والتكافل والإخاء القومي والديني والإنساني، وشكلت واحدة من أبرز نماذج العطاء العلوي الشريف تجاه الأشقاء الفلسطينيين الذين يدركون ما للمملكة من صدق الشعور وروح الإيثار وشجاعة الموقف وحكمة الرأي وصلابة القرار في دفاعها عن حقوقهم المسلوبة وأرضهم المغصوبة.
وحفل الاستقبال كان بأمر من الملك محمد السادس، رئيس لجنة القدس، وفي سياق مبادرة المخيم الصيفي التي تشرف عليها وكالة بيت مال القدس الشريف، وانتظمت هذا العام خلال الفترة ما بين 9 و26 أغسطس الجاري، حيث استقبلت المملكة 50 طفلا مقدسيا من الجنسين تتراوح أعمارهم ما بين 11 و14 سنة، يرافقهم 5 مشرفين من المدينة المقدسة. وأطلق عليها اسم يعقوب المنصور الموحدي في إشارة إلى السلطان أبي يوسف يعقوب بن يوسف المنصور بالله (1160 – 23 يناير 1199) ثالث خلفاء الموحدين ببلاد المغرب، وكان أقوى شخصية في تاريخ دولة الموحدين، ومن أعظم الشخصيات في تاريخ المسلمين بصفة عامة، وقد عُدَّ عصره في دولة الموحدين بالعصر الذهبي، حيث تميز عهده بالمشاريع الكبيرة لاسيما في العمارة والجيش، فأنشأ مدينة الرباط، وسماها رباط الفتح، وأنشأ المستشفيات، واهتم بالبيئة، ووطد الأوضاع في الأندلس بشدة، وقوّى الثغور، وكان يقاتل هناك بنفسه.
وكما هو معلوم، فإن المملكة المغربية تترأس في شخص الملك، لجنة القدس التي تأسست بتوصية من المؤتمر السادس لوزراء خارجية البلدان الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في جدة بالمملكة العربية السعودية في 1975، قبل أن يقرر المؤتمر العاشر المنعقد بمدينة فاس إسناد رئاستها إلى الملك الحسن الثاني الذي حفظ الأمانة إلى حين وفاته في يوليو 1999، قبل أن تؤول رئاسة اللجنة إلى خليفته الملك محمد السادس الذي لا يزال يتولى مسؤولية المدينة المقدسة عبر تبني جملة من الأهداف من أهمها دراسة الوضع في القدس، ومتابعة تنفيذ القرارات المصادق عليها والتي ستصادق عليها مستقبلا مؤتمرات وزراء الخارجية للبلدان الإسلامية، ومتابعة القرارات المصادق عليها حول القدس من مختلف الهيئات والمحافل الدولية، والاتصال بالمنظمات الدولية الأخرى التي قد تساعد على حماية القدس، وتقديم مقترحات للبلدان الأعضاء ولكل المنظمات المعنية بالأمر تتعلق بالخطوات المناسبة التي يجب اتخاذها لضمان تنفيذ القرارات لمجابهة التطورات الجديدة.
لعل استقبال ولي العهد الأمير مولاي الحسن للأطفال المقدسيين، كان امتدادا للدور الكبير والتاريخي الذي يقوم به والده الملك محمد السادس في نصرة القدس والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، ولمواقف جده الملك الحسن الثاني
وفي العام 1998 أعلن عن إنشاء وكالة بيت مال القدس الشريف كمؤسسة غير ربحية، بمبادرة من الملك الحسن الثاني، رئيس لجنة القدس التي تبنت هذه المبادرة الهادفة إلى الحفاظ على الحقوق العربية والإسلامية للمدينة المقدسة وتراثها الثقافي والمساهمة في تحسين الظروف المعيشية لسكانها من خلال تمويل برامج في مجال الصحة والتعليم وتعبئة الموارد المالية للوكالة حتى تتمكن من تنفيذ مهامها.
وتحت إشراف مباشر من الملك محمد السادس وبتوجيهات منه، أطلقت الوكالة في عام 2006 برنامج المنح الدراسية للطلاب الفلسطينيين في القدس. ويهدف هذا البرنامج إلى تشجيع التميز الأكاديمي ودعم الطلاب الذين يواجهون صعوبات مالية، وأقرّت في عامي 2011 و2012 مشاريع نوعية في مجالات التعليم والصحة وترميم مساجد البلدة القديمة والمقابر والزاوية المغربية بميزانية فاقت 12 مليون دولار أميركي، ثم تتالت القرارات والمشاريع على مختلف الأصعدة بما يخدم السكان المحليين ويحمي التراث الثقافي والحضاري ويعزز ثقافة الصمود في وجه كل محاولات تهويد المدينة المقدسة، ويحصن المعالم العربية والإسلامية والمسيحية من الخطط الإجرامية للمتطرفين الصهاينة.
وموقف الملك محمد السادس لنصرة فلسطين لا يقف عند أسوار القدس، وإنما يشمل كل الأراضي المحتلة. فقد أكد في أوائل مايو الماضي أن “الحديث الرائج عن مستقبل قطاع غزة لا يستقيم إلا في ظل وقف الاعتداءات، ورفع كافة أشكال المعاناة عن الشعب الفلسطيني، فقطاع غزة شأن فلسطيني وجزء من الأراضي الفلسطينية الموحدة، التي يجب أن تنعم بالسلم والاستقلال ضمن رؤية حل الدولتين ووفقا للقرارات الدولية ذات الصلة”. وطالب بـ”وضع حد لأيّ عمل استفزازي من شأنه تأجيج الصراع”، داعيا إلى “وقف الإجراءات الإسرائيلية الأحادية غير الشرعية، التي تطال الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك، بهدف تغيير الوضع القانوني والحضاري لمدينة القدس الشريف”. وأمر بتأمين إيصال كميات مهمة من المساعدات إلى الأشقاء الفلسطينيين، مباشرة إلى غزة والقدس، وعن طريق معبر رفح، بتنسيق مع السلطات المصرية. وأكد أنه بالرغم من الصعوبات، فإنه يعزز العمل الميداني الذي تضطلع به وكالة بيت مال القدس، بتوجيهات منه وتحت إشرافه لإنجاز مشاريع اجتماعية واقتصادية لفائدة السكان المقدسيين، وتقديم الدعم لبعض المستشفيات.
وقد أعطى في 24 يونيو 2024 تعليماته لإطلاق عملية إنسانية من ماله الخاص تهدف إلى توجيه مساعدات طبية لسكان قطاع غزة.
وفي 30 يوليو الماضي، خصص العاهل المغربي الجانب الأكبر من خطاب الذكرى الخامسة والعشرين لعيد العرش للقضية الفلسطينية والوضع في غزة حيث أبرز أن المملكة كانت سباقة لتقديم دعم مادي لضحايا العدوان، وتم فتح المستشفيات المغربية أمام الجرحى والمصابين منهم، وذلك إسهاما في التخفيف من معاناتهم في هذا الظرف العصيب، وأكد دعمه لجميع المبادرات الدولية البناءة من أجل التوصل إلى سلام عادل ودائم، على أساس حل الدولتين، وذكر بجهوده باعتباره رئيسا للجنة القدس في دعم مفاوضات السلام، والحفاظ على الهوية الروحية والحضارية للقدس، من الانتهاكات الإسرائيلية غير المشروعة.
المغرب هو البلد المؤهل دائما للعب دور أساسي في حل القضية وفك عقدتها، وربما سيأتي اليوم الذي يدرك فيه العرب أن حكمة المغرب هي القادرة على تحقيق الاختراق العملي في جدار الصراع
وأما الحكمة من تكليف مولاي الحسن باستقبال ضيوف الملك الوالد من أطفال القدس، فهي التأكيد على أن القضية الفلسطينية شأن مغربي غير قابل للمساومة من أيّ جهة كانت، تنتقل مسؤولية تبنيها والدفاع عنها من الآباء إلى الأبناء، حتى إن الملك محمد السادس أكد أن “المغرب يضع دائما القضية الفلسطينية في مرتبة قضية الصحراء المغربية، وأن عمل المغرب من أجل ترسيخ مغربيتها لن يكون أبدا، لا اليوم ولا في المستقبل، على حساب نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه المشروعة”، مشيرا إلى أن “المغرب الذي يضع القضية الفلسطينية في صدارة انشغالاته، لن يتخلى أبدا عن دوره في الدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وأنه سيظل كما كان دائما، ملكا وحكومة وشعبا، إلى جانب الأشقاء الفلسطينيين، وسيواصل انخراطه البنّاء من أجل إقرار سلام عادل ودائم بمنطقة الشرق الأوسط”.
وقد كان الملك الراحل محمد الخامس أول زعيم عربي يدعو إلى تحرير فلسطين والدفاع عن القضية الفلسطينية باعتبارها قضية المسلمين الأولى، عندما أدى في العام 1956 زيارة إلى القدس تم النظر إليها آنذاك على أنها خطوة عربية جريئة. ومن بعده جاء الملك الحسن الثاني ليؤكد على موقف بلاده الحازم والحاسم والعقلاني في قراءة القضية من مختلف أبعادها، حيث اعتبر أن قضية القدس الشريف ليست قضية داخلة في الصراع العربي – الإسرائيلي، بل قضية دولية، إسلامية، مسيحية ويهودية، لأن أيّ اعتداء من أيّ طرف في هذه القضية يشكل مساسا ليس فقط بمشاعر المسلمين، ولكن بمشاعر المسيحيين واليهود كذلك. وأكد أن قضية القدس ليست قضية صراع عربي – إسرائيلي، بل هي قضية صراع إسلامي – نصراني – صهيوني، وهي إذن قضية تميز بين الحق والباطل، قضية من أقدس القضايا، مشيرا إلى أن قضية القدس لا تنبني على عنصرية بالنسبة إلى الجلد، ولا على عنصرية بالنسبة إلى اللغة، ولا على عنصرية بالنسبة إلى الدين، وإنما هي قضية لا أرضية لها إلا القيم الروحية والرجوع إلى مناهل العقيدة.
لعل استقبال ولي العهد الأمير مولاي الحسن للأطفال المقدسيين، كان امتدادا للدور الكبير والتاريخي الذي يقوم به والده الملك محمد السادس في نصرة القدس والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، ولمواقف جده الملك الحسن الثاني الذي لم يدخر جهدا من أجل تبني القضية العربية الأولى والبحث لها عن حلول مبتكرة من خارج دائرة الخيارات السائدة زمن الأنظمة المتشددة التي كانت ترفع شعارات القومية السياسية دون أن تدرك أن أيّ مشروع قومي حقيقي يجب أن ينطلق من عروبة الضمير والوجدان ومن وحدة المواقف والرؤى ومن القراءة الواقعية للظروف والمستجدات والتعامل معها بمنطق العقل ومنهج الحكمة لا بسياسة الاندفاع الأيديولوجي التي طالما كانت خير حليف لإسرائيل عندما كانت تمكنها في كل مناسبة من المزيد من الأراضي العربية ومن تحقيق التفوق على العرب بأسلحة العلم والتكنولوجيا والثروة والتحالفات النافذة مع القوى المسيطرة على القرار العالمي.
وسيذكر أطفال القدس الحفاوة التي استقبلتهم بها المملكة المغربية، وسيذكرون دائما أن هذا البلد الناهض في أقصى مغرب الوطن العربي، كان دائما النصير الصادق والظهير المخلص لوطنهم وشعبهم، كما أنه المؤهل دائما للعب دور أساسي في حل القضية وفك عقدتها بما يمتاز به من سلطة معنوية وثقافية وروحية وسياسية على أغلب الفاعلين في خارطة الصراع، وربما سيأتي اليوم الذي يدرك فيه العرب أن حكمة المغرب هي القادرة على تحقيق الاختراق العملي في جدار الصراع. لقد كان استقبال أطفال القدس من قبل ولي العهد رسالة شديدة الوضوح لمن يجيد قراءة السطور وما وراءها.