أمين اليافعي يكتب:
مجلس حضرموت الوطني: أحد أرواح القطة السبعة
عاد ما يُسمى بـ“مجلس حضرموت الوطني” إلى الظهور مجدداً بعد مُضي أكثر من عام على تأسيسه. والمجلس الذي استضافت اجتماعاته العاصمة السعودية الرياض في منتصف العام الماضي، وحضر حفل إشهاره السفير السعودي، كان أحد إفرازات التحولات العديدة التي طرأت على مشهد الصراع اليمني.
لقد شَهِد الملف اليمني في العام 2023 تحركات كثيفة، إقليمية ودولية، لعقد اتفاقية (سلام) بين السعودية والميليشيات الحوثية وبرعاية سلطنة عمان. عارضت أطرافٌ محلية عديدة بنود هذه الاتفاقية التي وجدتها تَصُب في مصلحة تمكين الحوثي من السيطرة على البلد، ومنحه امتيازات لم يكن يحلم بها. وبحكم الحجم الكبير الذي يتمتع به المجلس الانتقالي الجنوبي في معادلة موازين القوى المحلية، فقد كانت معارضته للاتفاقية حاسمة لتُشكِّل حجر عثرة في طريق تنفيذها.
وكعادة أي تحوّل مفاجئ يَطرأ على مشهد الصراع اليمني، تكون وتيرة التداعيات سريعة بإعادة صياغة الأولويات، وترتيب قائمة الخصوم، وتغيير شبكة التحالفات، وعليها تجد الكثير من المصالح المتعارضة طريقها صوب نقطة سانحة لتتقاطع فيها. لهذا لم يكن غريباً أو مُستبعداً أن ينتمي مُعظم الأعضاء المؤسسين لمجلس حضرموت الوطني إلى حزب الإصلاح (فرع الإخوان في اليمن)، الحركة المُدرجة على قائمة الإرهاب في الكثير من البلدان العربية ويُمنع التعامل معها.
ومن خلال إلقاء نظرة على مسرح التدافعات في اليمن منذ العام 2015، يمكن ملاحظة بسهولة أن حزب الإصلاح وضع المجلس الانتقالي الجنوبي كخصم ثابت في أعلى القائمة، وأدار معه المعركة بطريقة أرواح القطة السبعة. فكانت السيطرة على القرار الرسمي/الشرعي في مؤسسات الدولة واحتكار تمثيل الأطراف المناوئة للحوثي وصولاً إلى “اتفاق ستوكهولم” الكارثة، بالتوازي مع تشكيل مكونات جنوبية تدّعي أو تزاحم تمثيل المحافظات الجنوبية، من جهة. ومن جهة أخرى، تسليم الجبهات التي يشرف عليها إصلاحيون للحوثي تزامناً مع التقدم الذي تحرزه القوات الجنوبية خلال هذه الفترة، وحرب إعلامية شعواء على مدار الساعة ومن خلال منابر رسمية وغير رسمية تتكاثر كالبكتيريا، وليس انتهاءً بحرف المعركة كلياً في العام 2019 صوب معاقل المجلس الانتقالي، إلا مؤشرات واضحة على إستراتيجية الحزب الإخواني.
المجلس الذي استضافت اجتماعاته العاصمة السعودية الرياض في منتصف العام الماضي، وحضر حفل إشهاره السفير السعودي، كان أحد إفرازات التحولات العديدة التي طرأت على مشهد الصراع اليمني
وفي سياق هذه الإستراتيجية ذات الأرواح السبعة، تم تأسيس المجلس الحضرمي، حيث سارعت قيادات إصلاحية حضرمية إلى عقد مشاورات في الرياض بعد أيام قليلة من انعقاد الجمعية الوطنية التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي في دورتها السادسة بمدينة المكلا – عاصمة حضرموت، وتحدث فيها رئيس المجلس الانتقالي عن ضرورة إخراج “المنطقة العسكرية الأولى” من وادي حضرموت وإرسالها إلى جبهات القتال. ومن المفارقات الكبيرة في المشهد اليمني الزاخر بالعجائب، أن الفرقة العسكرية الأولى التي كانت في العام 2015 أكبر قوة نظامية داخل معسكر الشرعية بعد هيمنة الحوثيين على معظم المؤسسات العسكرية والأمنية، وتنتمي الغالبية الساحقة من أفرادها إلى مناطق سيطرة الحوثيين وفق خطة الهيمنة على الجنوب التي اتبعها نظام صنعاء منذ 1994 لم تُشارك ولو بطلقة واحدة في هذا الصراع، ولم تبذل أي جهد في سبيل تحرير بعض مناطق حضرموت بعد سيطرة التنظيمات الإرهابية عليها، وتكتفي بتأدية مهمتها الوحيدة المتمثلة بحماية مصالح المتنفذين (الشماليين) على آبار النفط، ومعظم هؤلاء ينتمون إلى شبكة حزب الإصلاح الأخطبوطية، وإدارة العديد من الأنشطة التي تحوم حولها شبهات الارتباط بالتنظيمات الإرهابية وشبكات التهريب مع الجماعة الحوثية.
كان على المجلس الحضرمي اللجوء إلى أجندة مراوغة (تمثيل أبناء حضرموت، والتعبير عن تطلعاتهم) ليجد صيغة ملتوية يستطيع من خلالها إعادة التموضع في إستراتيجيته الثابتة لمجابهة المجلس الانتقالي الجنوبي، ومحاولة استهدافه بخطاب إعلامي شديد العدائية، وتحت إشاعة وترويج الكثير من التوجسات والمخاوف غير الواقعية أو المبالغ فيها. مع أنه في واقع الحال، كان لظهور المجلس الانتقالي دور كبير في تعزيز وتقوية الأطراف الحضرمية – حتى تلك التي تختلف معه قليلاً أو كثيراً – ضمن معادلة موازين القوى الحالية في اليمن. وفي المُقابل، يُقدّم المجلس الحضرمي خطاباً ودّياً للغاية تجاه القوى الشمالية المتنفذة التي ما زالت تُسيطر على أجزاء كبيرة من حضرموت، وتحتكر ثرواتها، وترفض رفضاً قاطعاً تسليم القرار لأبناء المحافظة.
وجد القائمون على الملف اليمني في السعودية بالمجلس الحضرمي ضالتهم للضغط على المجلس الانتقالي للقبول بالاتفاقية مع الحوثي من جهة، ومن جهة أخرى استمراراً لسياسة عمياء تهدف إلى إضعاف المجلس الانتقالي وفق توجسات ومخاوف تبدو ساذجة للغاية فيما لو تمت مقاربتها إستراتيجياً وعلى ضوء التحولات الكلية في مسار الصراع اليمني والصراعات في المنطقة. فمن السذاجة الاعتقاد بأنه يمكن احتواء الحوثي الذي لا يؤمن إلا بمنطق القوة، وكبح جماح طموحاته الشرهة، من خلال تقديم بعض المساعدات. فضلاً عن أن القراءة في مآلات التطورات في المنطقة، واستشراف تداعياتها المختلفة، تشي بمشهد قد يكون أقرب أو شبيهاً بلحظة انتهاء مهمة “المجاهدين العرب” في أفغانستان وعودتهم إلى ديارهم بكل الحمولات والتجارب الفكرية والنفسية، حيث شكّل اليمن مأوى لهم، وقلعة حصينة للأنشطة الإرهابية التي ما زلنا نعاني منها حتى اللحظة.
وإذا لم تكن هناك إستراتيجية تتخفف من الذاتية والمصلحة الأنانية الضيقة والقاتلة، وتضع مقاربات استباقية متكاملة للتعامل مع هكذا تداعيات، سنجد أنفسنا أمام هاوية بعد أخرى بفعل عبقرية “حليمة” التي تأبى إلا أن تُمارس “عادتها القديمة”!