خير الله خير الله يكتب:

تحولات البعث السوري بين 1963 و2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا. طويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة واستُخدمت شعاراته المضحكة المبكية في البلدين من أجل البقاء في السلطة من جهة وخدمة إسرائيل ومشروعها من جهة أخرى.

ما بدأ في سوريا في الثامن من آذار – مارس 1963، عن طريق انقلاب عسكري، انتهى في الثامن من كانون الأوّل – ديسمبر 2024 بطريقة لا تليق سوى بالبعث الذي لم يكن في يوم من الأيام سوى وسيلة من أجل تبرير عملية تستهدف ترييف المدينة والمجتمع وإزالة كل مظهر حضاري فيهما أكان ذلك في سوريا أو العراق.

يدفع ما حصل في سوريا إلى استعادة جانب من تاريخ الحزب في هذا البلد بالذات، بدءا من الثامن من آذار – مارس 1963 والانقلاب العسكري الذي نفذته مجموعة من الضباط، أكثريتهم من البعثيين. قضى الانقلاب على فرصة أخيرة لعودة الحياة إلى سوريا وإنقاذ المجتمع الحيّ والمتنوع فيها، خصوصا في المدن الكبرى مثل دمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقيّة.

كانت أمام سوريا فرصة حقيقيّة للتخلّص من البؤس المتمثل في قيام نظام أمني أسست له الوحدة مع مصر، وهي وحدة استمرت ثلاث سنوات وانتهت في 28 أيلول – سبتمبر 1961.

ذهب البعث غير مأسوف عليه إلى غير رجعة وتبرز حاليا السنّية السياسية في سوريا، فهل يكون حظها أفضل من حظ الشيعية السياسية في العراق… حتّى لا نقول في لبنان أيضا؟

كانت نهاية الوحدة فأل خير على سوريا التي تخلصت من عبء التجربة الناصرية، نسبة إلى جمال عبدالناصر، الذي لم يجد أفضل من ضابط دموي اسمه عبدالحميد السراج يوليه على السوريين. كانت نهاية الوحدة بزوغا لفجر جديد يحرّكه الأمل باستعادة سوريا تجربة ديمقراطية، نسبيا، يحكم فيها البلد مدنيون يعرفون الكثير عن كلّ ما هو حضاري في العالم. انتخب وقتذاك ناظم القدسي رئيسا للجمهوريّة، على سبيل المثال وليس الحصر. جاء الضباط البعثيون وقتذاك لإطاحة التجربة المفعمة بالأمل التي كانت سوريا على موعد معها. قضى هؤلاء عمليا على سوريا وعلى كلّ ما هو راق فيها.

كان انقلاب الثامن من آذار مارس 1963 بداية تحولات كبيرة أوصلت سوريا إلى ما وصلت إليه حاليا. أخذت التحولات السورية، في ظلّ البعث، البلد إلى مكان آخر. في الواقع، أخذته إلى المجهول.

انتقل البعث السوري بعد انقلاب الثامن من آذار1963 إلى حزب راح يسيطر عليه الضباط العلويون شيئا فشيئا. كانت نقطة التحوّل في 23 شباط – فبراير1966 عندما تخلّص العلويون من أي ضابط آخر ذي حيثية لا تنتمي إلى الطائفة. أُبعد ضباط مثل السني أمين الحافظ مع آخرين. شمل ذلك التخلص من الضباط الدروز والإسماعيليين. كان في الواجهة ثلاثة من كبار العسكريين العلويين هم محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد، وزير الدفاع الذي أعلن في حزيران – يونيو 1967 سقوط الجولان قبل سقوطه. كوفئ الأسد الأب على ذلك في 16 تشرين الثاني – نوفمبر 1970 يوم نفّذ انقلابه تحت شعار “الحركة التصحيحيّة” مستفيدا إلى أبعد الحدود من غباء منافسيه ومحيطا نفسه بمجموعة من السنّة الريفيين من نوع مصطفى طلاس وعبدالحليم خدام وحكمت الشهابي وغيرهم.

ما لبث حافظ الأسد أن صار في 1971 أوّل علوي يتولى موقع رئيس الجمهورية في سوريا. كان كلّ ما قام به على أرض الواقع نقل السلطة من عند مجموعة من الضباط العلويين إلى العائلة وإلى ضباط علويين تربطهم مصالح بالعائلة المتحدرة من القرداحة.

من انقلاب بعثي في 1963 إلى انقلاب بعثي – علوي في 1966… إلى انقلاب بعثي آخر ذي طابع عائلي في 1970، شهدت سوريا تغييرات صبّت في اتجاه واحد. يتمثل هذا الاتجاه في حصر النفوذ السياسي والأمني والاقتصادي في يد آل الأسد وأقربائهم. على رأس هؤلاء كان محمّد مخلوف (خال بشّار) وأولاده الذين سيطروا في مرحلة معيّنة على جزء كبير من الاقتصاد السوري.

كانت أمام سوريا فرصة حقيقيّة للتخلّص من البؤس المتمثل في قيام نظام أمني أسست له الوحدة مع مصر، وهي وحدة استمرت ثلاث سنوات وانتهت في 28 أيلول – سبتمبر 1961

بلغ نفوذ العائلة حدّا تمكن فيه حافظ الأسد، في السنة 2000،  من توريث ابنه بشّار السلطة بعد مقتل ابنه الأكبر باسل في حادث سير مطلع العام 1994. لم تكن لدى بشّار أي ثقافة سياسيّة، خلافا لوالده الذي عرف كيف يجعل البعثي الآخر صدّام حسين (في العراق) في خدمته وكيف يؤسس لعلاقة مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران من دون الرضوخ لمشيئتها نهائيا. ابتزّ العرب الآخرين طويلا بواسطة هذه العلاقة لكنه لا يمكن القول إنّه كان يذعن للإيراني في كلّ وقت على الرغم من وقوفه ضد العراق في حرب السنوات الثماني مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” بين  1980 و1988 وعلى الرغم من إخضاع “حزب الله” لحليفه اللبناني نبيه برّي في حرب إقليم التفاح أواخر ثمانينات القرن الماضي.

استطاع حافظ الأسد، الذي سيطر على لبنان منذ العام 1976، لعب دور إقليمي يتجاوز سوريا. تحكّم طويلا بالورقة الفلسطينية وطمأن إسرائيل في كلّ وقت بأن ليست لديه أي نيّة لاستعادة الجولان، مثلما استعاد الرئيس أنور السادات سيناء.

ورث بشار الأسد البعث العائلي. حصر مصالح العائلة الواسعة التي كانت تضمّ آل مخلوف وآخرين، بعائلته الصغيرة. الأخطر من ذلك تحوّله إلى تابع لإيران ووقوعه تحت تأثير شخص مثل حسن نصرالله الأمين العام الراحل لـ”حزب الله” الذي لا يعرف الكثير عن المنطقة وعن العالم.

لم يكن مستغربا سقوط بشّار الأسد بعيد سقوط “حزب الله”. لم يعد في استطاعة إيران إنقاذه، كذلك روسيا التي تعاني من الغرق في الوحول الأوكرانيّة. بدأت الآن مرحلة جديدة من التاريخ السوري. تبحث سوريا، في ظلّ هيمنة تركيّة، عن نظام جديد بديل من نظام البعث العائلي. يحصل ذلك في وقت لم يستطع العراق سوى التحول إلى دولة فاشلة منذ هيمنة الشيعية السياسيّة، بمباركة إيران، على البلد منذ العام 2003.

ذهب البعث، غير مأسوف عليه، إلى غير رجعة. تبرز حاليا السنّية السياسية في سوريا. هل يكون حظها أفضل من حظ الشيعية السياسية في العراق… حتّى لا نقول في لبنان أيضا؟