محمد الصوافي يكتب:
خارطة إقليمية جديدة
باتفاق الأغلبية، منطقة الشرق الأوسط دائماً تفاجئ العالم كل فترة بتطورات ومنعطفات تاريخية.
وقد جاء عام 2024 الذي يلملم أوراقه بحمولة ثقيلة من تلك النوعية التاريخية من التطورات، كل منها كفيل بتغيير التاريخ حتى إن بعضها سيغير الجغرافيا، بل بدأ في ذلك بالفعل.
فقد دخلت إسرائيل سوريا وتجاوزت الجولان والمنطقة العازلة واحتلت أراضي سورية جديدة، وتقول إنها لن تغادرها. وفي فلسطين تغيرت أيضاً الجغرافيا بل والديمغرافيا، بعد تشريد الغالبية العظمى من سكان قطاع غزة، ونزوحهم جميعاً خارج مناطقهم الأصلية. وتعرض القطاع إلى دمار شامل جعل منه بالفعل أرضاً لا تصلح للحياة. كما ليس من المتوقع استمرار قطاع غزة تحت سيطرة حركة حماس، بعد انكسارها عسكرياً.
وبدأت في اليمن أيضاً تغييرات مفصلية في الوضع هناك، خاصة ما يتعلق بمصير "الحوثيين" ومدى قدرتهم على إحكام السيطرة على المناطق الخاضعة لهم. وذلك بعد الضربات المتتالية والمتصاعدة التي وجهتها لهم، ولا تزال، إسرائيل.
وفي السودان، الصراع لا يزال جارياً وكل الاحتمالات قائمة، وهو ما يسري أيضاً على ليبيا وربما أيضاً على سوريا التي يبدو أن أوضاعها لن تستقر كما تبدو في الظاهر. بسبب تعدد القوى المسلحة المنظمة معظمها تحت لواء "هيئة تحرير الشام" وربما قرب انتهاء شهر العسل فيما بينها، على وقع المطالب والضغوط الخارجية بضرورة التخلي عن السمتين الأساسيتين المميزتين لتلك القوى والمجموعات، وهما الصبغة الإسلامية، وامتلاك السلاح.
هذا فضلاً عن وجود بعض فصائل أخرى مسلحة خارج نطاق تلك المنظومة وأهمها قوات سوريا الديمقراطية "قسد". بل إن بقايا تنظيم "داعش" لا تزال متناثرة في بعض النقاط بسوريا. وكل هذه المعطيات تجعل القادم في سوريا غامضاً، ليس فقط سياسياً وأمنياً، لكن أيضاً عسكرياً وجيوسياسياً.
في ظل هذه الخارطة الملتهبة، تعرضت بعض القوى الإقليمية لخسائر وانتكاسات، بينما خرجت أخرى منها بمكاسب ومراكز أفضل في الصورة العامة. تشمل الأطراف الخاسرة وفي المرتبة الأولى نظام بشار الأسد الذي أخطأ الحسابات وأساء التقدير.
لكن في المدى المتوسط تأتي إيران في مقدمة الدول والأطراف الخاسرة من تحولات عام 2024 وتبعاتها. فقد أطيح بحليفها الأول في المنطقة الذي سمح لها بالوجود وزرع نقاط نفوذ مجتمعي وتمركز عسكري داخل سوريا.
كما نزعت منها ورقة التنظيمات التابعة والكيانات الموالية، بضرب "حزب الله" اللبناني بقوة غاشمة، وكسر شوكة حركة "حماس" وتقليم أظافر الحوثيين في اليمن. وبالطبع هذه الأطراف نفسها تتشارك الخسارة مع طهران. وبعد ذلك تأتي روسيا التي تبحث حالياً عن موطئ قدم على ضفاف المياه الدافئة بديلاً لطرطوس.
قد يبدو من هذا الاستعراض، أن إسرائيل هي الرابح الوحيد من كل ما جرى، وهي بالفعل الرابح الأكبر حتى الآن. لكن ليست وحدها، فهناك تركيا الشريكة في إسقاط الأسد والراعية "لهيئة تحرير الشام"، وهناك أيضاً الشعب السوري الذي استعاد حريته وتخلص من القمع ولو إلى حين.
وأخيراً هناك مكاسب إقليمية، ستستفيد منها المنطقة ككل دولاً وشعوباً. فالكل كان متضرراً من تدخلات إيران وتحركاتها المؤذية، التي جسدها بفجاجة عناد وغطرسة "حزب الله"، وشطحات الحوثيين. وفي الدائرة الأوسع من إيران كانت هناك مناوشات الفصائل السورية المسلحة، ومغامرات "حماس".
والمؤكد أن هذه الأوضاع الجديدة لم تتبلور في صورة نهائية، ولم تستقر بعد. ولذا لا يجب التعامل معها كواقع ثابت ومستمر. فالمنطقة لا تزال مفتوحة على احتمالات كثيرة في المستقبل القريب. وهو ما يتطلب الاستعداد والتجهيز جيداً، ليس فقط للتعامل مع هذه الخارطة غير المستقرة. لكن أيضاً بالتفكير في كل الاحتمالات وتوقع إمكانية تغير تلك المعطيات على نحو مفاجئ أيضاً.