محمد الصوافي يكتب:
العرب ومعضلة مواجهة الذات
قرار الرئيس الفلسطيني محمود عباس بفصل ناصر القدوة من مركزية حركة فتح عقوبة له لأنه أراد أن يشكل كتلة فلسطينية تنافسه في الانتخابات القادمة، ومثله أيضا قرار عبدالإله بنكيران الأمين العام لحزب العدالة والتنمية المغربي بتجميد عضويته في الحزب كنوع من الضغط على حكومة سعدالدين العثماني لأسباب سياسية شخصية تخص مستقبله السياسي، يسلطان الضوء على ظاهرة سياسية ويطرحان أسئلة مهمّة تتعلق بمدى حيوية الأنظمة السياسية العربية وفاعليتها ومدى اهتمامها بمستقبل شعوبها وسعادتها.
ومع أن النظم الغربية لم تعد بعيدة عن ظاهرة الجمود الفكري السياسي، بعد أن اتضح أن الإدارة الأميركية تدور هي الأخرى حول نفس الأفكار والسياسات رغم تغيّر الزمن، إلا أن الظاهرة في عالمنا العربي تبدو أكثر وضوحا ومكشوفة بشكل أكبر، ما يعطي انطباعا على أنه رغم كل الدروس التي مرّت علينا لا يوجد من يستفيد منها ويستخلص العبر.
مواقف بعض السياسيين العرب الذين يفكرون في اتجاه واحد أدّت إلى كوارث حقيقية ودمّرت قصص نجاح عربية تنموية كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر العراق وسوريا. فبعد أن كانت تحكى عنهما قصص في المدنية، واعتُبر كلاهما مرجعا للكثير من دول العالم في الثقافة، نجدهما اليوم وكأنما يبدآن الآن بالتعرف على عمليات التنمية.
الفرق بين دولة وأخرى أو حزب وآخر، في مجال استمرارية الوهج التنموي وتحقيق النهوض الحضاري، هو قبول وتبني المرونة الفكرية باعتبار أن التاريخ لا يثبت في مكانه، وبالتالي فالأجيال والظروف المحيطة تختلف وتتبدل، وهذا يتطلب مراجعات للقناعات والأدوات المستخدمة. أمّا التعنت والاقتناع ببقاء الفكر السياسي الذي يؤمن به على مدى عقود جامدا دون حراك، فهو بمثابة الدوران في حلقة مفرغة والعيش على اجترار الماضي، حتى وإن كان هذا الماضي إرثا غنيا.
البقاء على فكر سياسي جامد لفترة زمنية طويلة نتيجته الحتمية الاندثار فقد ثبت أن نتائج مثل هذه السياسة أو الفكر لا تحقق ما تطمح إليه الأجيال ولا تتماشى مع ضرورات الزمن
واحدة من الدول، غير العربية، ولكنها تمثل نموذجا مهمّا في إقليمنا لحالة الجمود الفكري والأيديولوجي، هي دولة الملالي في إيران، فرغم أن إرث الحضارة الفارسية مليء بقصص ملهمة للسياسيين والمثقفين، إلا أن المشهد، منذ مجيئهم عام 1979 إلى اليوم، يكاد لا يخرج عن كونه نظاما يحكمه العناد والفوضى المدمرة؛ نظاما يقنع نفسه بأنه يملك إرثا تاريخيا يتغنى به دون أن يتغير. ولكن التاريخ يؤكد أن العناد الفكري والتعنت هما بداية النهاية لكل نظام. هذا ما حصل في العراق في ظل نظام البعث، وما حصل في مصر في عهد جمال عبدالناصر. واليوم ربما يكرر التاريخ نفسه مع حركة فتح وجماعة الإخوان المسلمين في المغرب، الدولة العربية التي سمحت لهم بتشكيل حكومة “إخوان”. ولكن الجمود الأيديولوجي يعجل بالقضاء على صاحبه.
البقاء على فكر سياسي جامد دون حراك لفترة زمنية طويلة، نتيجته الحتمية هي “الموت السياسي” والاندثار. فقد ثبت أن نتائج مثل هذه السياسة أو الفكر لا تحقق ما تطمح إليه الأجيال ولا تتماشى مع ضرورات الزمن. أمّا ما ينعش الأفعال ويجعلها قابلة للاستمرار والحياة، فهو مواجهة الذات ومراجعتها من حين إلى آخر.
لهذا، رغم أهمية القناعات الأيديولوجية، باعتبارها الوقود المحفز على الإيمان بالشيء، إلا أن بقاء القناعات في حالة جمود لا تقبل المساس بها نتيجته كارثية دائما، كما هو الحال اليوم في إيران؛ فالنظام يقضي على نفسه وعلى شعبه تدريجيا دون أن يدري. وهذا ما حصل أيضا في الاتحاد السوفييتي وأدّى إلى انهياره.
المراجعة الدورية سلوك حضاري في كل مرحلة من مراحل الحياة، قبل أن تكون أحد اشتراطات التفاعل مع الآخرين. وتصبح أكثر أهمية في العمل السياسي، لأنها تضمن بقاء الدولة بكامل حيويتها خدمة لإنسانها. لهذا نجد الدول التي تراجع سياساتها بين الحين والآخر تعرف ماذا تريد تحقيقه في المستقبل، وتكون خططها وأهدافها واضحة ومعلنة، وتتصرف بهدوء وثقة دون ارتباك. دولة الإمارات واحدة من تلك الدول التي تكاد تكون استثناء في الحالة العربية.
العنصر الأساسي للحكم على نجاح أي تجربة سياسية قديمة أو جديدة هو مواجهة الذات، من خلال المراجعة وتقييم المسار لتعديله إن احتاج الأمر ذلك. بينما التصلب والاعتقاد أنك الأفضل والأكثر عراقة، فهذه وصفة تهدد أي مشروع تنموي بالفشل، وبالتالي تقود إلى الانهيار. وهذا للأسف ما نلاحظ إصرار بعض السياسيين العرب على ممارسته رغم كل العبر والدروس من تجارب مرّت علينا.