سمير عادل يكتب لـ(اليوم الثامن):
العراق.. لا حطب لإشعال نار الطائفية
يغيّر محور المقاومة والممانعة في العراق بوصلته من شعار تحرير فلسطين وإلحاق الهزيمة بـالشيطان الأكبر والأصغر إلى التباكي على الشيعة. بعبارة أخرى، يجري تسخين الخطاب الطائفي في زمن لم يعد فيه من حطب لإعادة إشعال نار الطائفية.
في مقال سابق، "المأزق الفكري والسياسي لمحور المقاومة والممانعة"، تحدثنا عن أصوله الفكرية والسياسية، التي تعود في منبعها الأصلي إلى المشروع القومي البرجوازي ونظام ولاية الفقيه في إيران.
في العراق، يبدو ان هذا المشروع، المقاومة والممانعة، بعد تداعيات السابع من أكتوبر 2023، يتيماً بلا أبوين، إذ لا يمتلك جذوراً اجتماعية أو سياسية في البلاد. لقد حاول فرض وجوده قسراً في المشهد السياسي، خاصة بعد اغتيال قاسم سليماني، مسؤول الجناح العسكري للمشروع القومي (محور المقاومة والممانعة) في الخارج، في محيط مطار بغداد في مطلع عام 2021.
وللحديث بدقة، لم يبرز شعار محور المقاومة والممانعة في العراق إلا بعد عام من اندلاع انتفاضة تشرين – أكتوبر 2019، التي انطلقت في المدن الجنوبية المصنفة “شيعية”، والتي كانت تُعدّ قلاعاً محصنة للميليشيات المدعومة من الاستخبارات الإيرانية. جاءت هذه الانتفاضة كرد فعل جماهيري واسع ضد الفساد المستشري لسلطة الأحزاب الإسلامية وميليشياتها الحاكمة، حيث شهدت إحراق مقرات تلك الأحزاب في مدن مثل بابل، الديوانية، الناصرية، والبصرة. في مواجهة ذلك، هرب قادة المليشيات وقناصاتها الى ايران، المتورطون في استهداف التظاهرات السلمية وقتل أكثر من 800 متظاهر ومتظاهرة.
وكما يحدث في جميع الانتفاضات والثورات، وُجّهت اتهامات جاهزة وجائرة للانتفاضة، حيث زُعم أنها مدفوعة من السفارة الأمريكية، في محاولة لتبرير القمع الوحشي بحق المتظاهرين. وبعد اغتيال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، وأبو مهدي المهندس، قائد المليشيات العراقية، على يد القوات الأمريكية، سارعت هذه المليشيات إلى طمس جرائمها بحق الشباب في ساحات التظاهرات، الذين حصدت قناصتها أرواحهم بدم بارد، إضافة إلى الهجمات الاجرامية الليلية والنهارية على تلك الساحات. فجاء رفع شعار "محور المقاومة والممانعة" كمحاولة للتغطية على تلك الجرائم، ومساعي فاشلة لاعادة إنتاجها سياسيا واجتماعيا بعد تصفية عرابها سليماني. أي بشكل آخر نقول لم يكن لشعار محور المقاومة والممانعة من وجود على الساحة السياسية العراقية ولم يدخل الخطاب السياسي لتلك المليشيات، الذي كان يراوح بين الزعيق الطائفي عندما أرسلت عناصرها الى سورية للدفاع عن نظام بشار الأسد تحت شعار الدفاع عن المقدسات الدينية ولا تسبى زينب مرتين، وبين صيحات الحرب على الإرهاب بعد انهيار الجيش العراقي أمام ثلة من عناصر داعش واجتياحها لثلث مساحة العراق مستغلة فتوى الجهاد الكفائي للمرجعية الدينية في النجف للتعبئة العسكرية للدفاع على بقية أجزاء العراق. بالمجمل، هذه نبذة موجزة عن الخلفية التاريخية التي جاء في سياقها شعار المقاومة والممانعة.
اليوم، وفي ظل تصدع جدار مشروع المحور المقاومة والممانعة في المنطقة ، يظهر بأن أصحاب المشروع يعزفون على وتر واحد ولحن واحد وكأن ما يحركهم ويجمعهم ودون سابق اتفاق هو غريزة البقاء في السلطة، وعلى رأسهم نوري المالكي رئيس الوزراء السابق والأمين العام الحالي لحزب الدعوة الإسلامي وعزت الشابندر الذي حاول عبثا بتسويق نفسه بأنه فوق الطائفية- وهو الذي يشبه لاعبي كرة القدم في تنقلهم بين الأندية في المواسم، إذ ينتقل من حزب إلى آخر، ومن تحالف إلى آخر، وحسب اسعار بورصة شراء وبيع الذمم- والا به بعد ما حدث في سورية، ظهر قبل أيام على قناة (سكاي نيوز العربية)، ليتحدث بلغة طائفية مقيتة زاعمًا أن "الشيعة في المنطقة في خطر"، في السياق نفسه، تعزف القنوات العراقية التابعة للميليشيات، مثل قناة (العهد) الفضائية الناطقة باسم عصائب أهل الحق، على الوتر ذاته. هذه العصائب، بقيادة قيس الخزعلي، سبق أن رفعت شعار "زينب لن تُسبى مرتين" في محاولة لتعبئة أنصارها وتجنيدهم للقتال ضد القوى الإسلامية السنية المدعومة من تركيا، حين كانت تتقدم نحو دمشق قبل سقوط الأسد بأيام. كل هؤلاء، ومعهم العديد من الشخصيات والجهات، أنزلوا يافطة "محور المقاومة والممانعة" ورفعوا بدلاً منها راية الطائفية، وخير ما عبّر عنه السياسي عزت الشابندر بوضوح ودون أي لف ودوران.
المعضلة الكبرى التي تواجه الميليشيات والأحزاب الإسلامية في العراق، وعلى رأسها حزب الدعوة بزعامة نوري المالكي، هي افتقادها لأي مشروع سياسي حقيقي في البلاد. لقد تمزقت هويتها الإسلامية، وباتت في مأزق وجودي؛ فلا هي قادرة على إصدار "بدل تالف" لهويتها السياسية، ولا "بدل ضائع"، ولا حتى إصدار هوية جديدة تعبر عن ماهيتها الفكرية والسياسية.
وفضلا على ذلك تضاف معضلة أخرى لتثقل كاهلهم، في أن الهوية الطائفية والخطاب الطائفي، إلى جانب ما سُمّي بـالصحوة الإسلامية التي دعمتها إدارة أوباما، لم تعد تمتلك أي زخم الذي شهدته بين 2011 و2014. آنذاك، إذ جرى إجهاض الثورتين المصرية والتونسية وتفريغها من محتواهما، بل وحتى تغيير تسميتها إلى"الربيع العربي"، عبر إطلاق العنان للعصابات والجماعات الإسلامية واستدعاء أشباح الماضي المنقرضة من أعماق التاريخ. لكن ذلك السيناريو لن يتكرر مجددًا.
التحولات العميقة التي عصفت بـمحور المقاومة في المنطقة، وخاصة بعد سقوط نظام بشار الأسد، أفقدت هذه الأحزاب الإسلامية توازنها، وجعلت قادتها يتخبطون في خطاباتهم السياسية. ومن الواضح أنهم عاجزون عن إيجاد مسار جديد؛ فلا هم قادرون على طلب الانتماء والاندماج بالمحيط العربي، كما يسعى إليه عدوهم اللدود أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، الذي حظي بدعم من أهم دول المنطقة، ولا هم قادرون على الاستمرار في رفع شعارهم القديم "المقاومة والممانعة"، خاصة بعد تقويض النفوذ الإيراني والسعي إلى إرساء شرق أوسط جديد بقيادة بنيامين نتنياهو، الذي يحاول تشييده على جماجم الشعب الفلسطيني، بدعم من الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة دونالد ترامب واجندته العنصرية.
في ظل هذا الانسداد السياسي، لم يبقَ أمام هذه الجماعات سوى العودة إلى جذورها الحقيقية، ونزع قناعها المزيّف، وإعادة تلميع خطابها الطائفي كملاذ أخير.
لم يعد ممكنًا إحياء خطابات المالكي في الناصرية والبصرة في عام ٢٠١٣ حول أن "الحرب اليوم هي بين الحسين ويزيد"، ولا يمكن استعادة زمن "لا تُسبى زينب مرتين" عندما أُرسلت الميليشيات للقتال في سوريا دفاعًا عن نظام بشار الأسد. لقد ولّى ذلك الخطاب الطائفي إلى غير رجعة، لأن الظروف التي أوجدته قد تغيرت جذريًا. ورغم ذلك، لا تزال الأحزاب الإسلامية الشيعية في العراق، وقادة الميليشيات المسلحة، يسعون لتصوير سيطرة الجولاني وجماعته على دمشق على أنها عودة لروح الدولة الأموية، في محاولة لربطها برواية "قتلة الحسين وأهل البيت".
في المقابل، لم يقف التيار القومي العروبي الملتحف بالغطاء الطائفي السني وشخصياته مكتوفي الأيدي، بل راحوا يمجّدون ويباركون الحكام الجدد في دمشق ومن زاوية طائفية ايضا. غير أنهم، أي كلا الطرفين وبحماقة، نسوا أن التاريخ اذا أعاد نفسه، اذا كانت في المرة الأولى كمأساة، وفي الثانية تكون مهزلة"، كما قال كارل ماركس. وهو توصيف ينطبق تمامًا على خطابهم وشعاراتهم الطائفية في هذه المرحلة، التي لم تعد سوى مهزلة سياسية وفكرية.
إن العويل والبكاء على الشيعة في المنطقة ليس سوى عويل على النفوذ والسلطة والامتيازات التي تتمتع بها الأحزاب الإسلامية الشيعية وميليشياتها. والمفارقة أن أكثر المناطق التي تعاني من الظلم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي هي تلك المدن الجنوبية في العراق الخاضعة لسيطرة هذه الأحزاب والميليشيات. وتشهد هذه المدن احتجاجات وتظاهرات يومية تندد بـغياب الخدمات، واستشراء الفساد، وتفشي البطالة، وتلوث البيئة، وعمليات الخطف والاغتيالات، ما يكشف الهوة العميقة بين سكان تلك المناطق وهذه الأحزاب.
إن فضح هذا الخطاب الطائفي المقيت وكشف الأجندات السياسية التي تقف خلفه، من شأنه تجريد هذه الأحزاب والجماعات من سلاحها الأساسي في دق اسفين في صفوف الطبقة العاملة وبث التفرقة بين الجماهير التواقة للتحرر من الفقر والتمتع بالرفاه والحرية وتحريف نصال نضالها عن عدوها الحقيقي. فالمهمة لا تتقوم في عدم منحهم الفرصة لإعادة تسخين المستنقع الطائفي فحسب، بل في إغراقهم فيه ليواجهوا حقيقتهم التي جاؤوا منها.