نصرالدين عبدالباري يكتب:

سلطات الأمر الواقع السودانية ضد الإمارات العربية المتحدة.. نفاق مؤسسة إبادة جماعية

في الخامس من مارس 2025، تقدمت سلطات الأمر الواقع السودانية بطلب ضد دولة الإمارات العربية المتحدة أمام محكمة العدل الدولية، متهمةً إياها بانتهاك التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وذلك من خلال تقديم دعم عسكري ومالي مستمر لقوات الدعم السريع. ويزعم السودان—الذي تمثله بحكم الأمر الواقع القوات المسلحة السودانية أو مؤسسات الدولة التي تسيطر عليها القوات المسلحة السودانية بصورة غير شرعية—أن هذا الدعم ساهم في حملة إبادة جماعية ضد إثنية المساليت في غرب دارفور.

ورغم أن هذه القضية تمثل سابقة بارزة في اللجوء إلى الآليات القانونية الدولية، إلا أنها مليئة بالتناقضات القانونية والسياسية والأخلاقية. فالإضافة إلى العوائق المتعلقة بالاختصاص، والتي يصعب تجاوزها، تكشف هذه القضية عن محاولة ساخرة بامتياز من قبل القوات المسلحة السودانية لتلميع صورتها من خلال التظاهر بأنها تدافع عن حقوق الإنسان. إن المؤسسة ذاتها التي أشرفت على سبعة عقود من القتل الجماعي والتطهير العرقي والإبادة الجماعية والإرهاب الذي ترعاه الدولة، تسعى اليوم إلى إعادة تقديم نفسها كحامية للقانون الدولي—وهو تحول فج ومغرض سياسياً.

قضية مليئة بالتناقضات

إن لجوء سلطات الأمر الواقع السودانية إلى محكمة العدل الدولية يحمل في طياته أهمية رمزية، حيث يشير ظاهرياً إلى رغبة في تسوية النزاعات عبر الوسائل القانونية الدولية بدلاً من استخدام القوة—بغض النظر عن عن القدرات العسكرية. لكن هوية الجهة التي رفعت القضية—نظام عسكري غير شرعي تهيمن عليه القوات المسلحة السودانية—تجعلها منعدمة القيمة من الناحية الأخلاقية. من الصعب تصور مثال أكثر فجاجة للنفاق: مؤسسة ارتكبت الإبادة الجماعية تلو الأخرى تتحدث الآن باسم ضحايا الإبادة.

هذه هي نفس القوات المسلحة السودانية التي ارتكبت أو ساهمت في ارتكاب فظائع جماعية في جنوب السودان ودارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق. وهي ذات المؤسسة والدولة التي كانت ترفض آليات حقوق الإنسان الدولية بوصفها منحازة ومسيّسة، لكنها اليوم تلجأ إلى نفس النظام القانوني الدولي، الذي طالما ازدرته وانتهكته. إن التناقض صارخ والدوافع السياسية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.

الأساس القانوني: غير مسبوق لكنه ضعيف

تستند الدعوى، التي رفعتها سلطات الأمر الواقع السودانية، إلى اتهام الإمارات بتقديم دعم مادي ومعنوي لحملة إبادة جماعية تزعم السلطات أن قوات الدعم السريع نفذتها ضد شعب المساليت. وتشمل الاتهامات تزويد القوات بالأسلحة والذخائر والطائرات المسيّرة وتحويلات مالية عبر وسطاء، وذلك رغم ظهور تقارير موثوقة توثق ارتكاب فظائع، وفقاً لزعم هذه السلطات. وتدعي سلطات الأمر الواقع السودانية أن هذا الدعم يشكل خرقاً لالتزامات الإمارات بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، لا سيما التزامها بعدم المساعدة أو التواطؤ في ارتكاب جريمة الإبادة.

ولتعزيز موقفها، قدمت سلطات الأمر الواقع السودانية طائفة من الأدلة، بما في ذلك تقارير لمنظمات حقوق إنسان دولية توثق فظائع  تزعم أن قوات الدعم السريع قد ارتكبتها، وصور أقمار صناعية تظهر تكتيكات الأرض المحروقة وتدمير القرى في دارفور، وشهادات شهود عيان تصف عمليات قتل جماعي وعنفاً ذا دوافع إثنية.

وطلبت سلطات الأمر الواقع السودانية كذلك إصدار تدابير مؤقتة، تحث المحكمة على مطالبة الإمارات بوقف كل أشكال الدعم المزعوم  لقوات الدعم السريع، وحماية المدنيين—خاصة المساليت—والحفاظ على الأدلة المتعلقة بالجرائم المزعومة.

الجدار القضائي: تحفظ المادة التاسعة

إن العقبة القانونية الأساسية التي تواجه الدعوى السودانية تتمثل في اختصاص محكمة العدل الدولية—أو بالأحرى غياب هذا الاختصاص. إذ تمنح المادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية المحكمة اختصاصاً بالنظر في النزاعات المتعلقة بتفسير الاتفاقية أو تطبيقها أو تنفيذها، لكن هذه المادة خاضعة للتحفظات.

وعند انضمامها إلى الاتفاقية، أبدت الإمارات تحفظاً يستثني اختصاص المحكمة بموجب المادة التاسعة. وهذا التحفظ حاسم. فقد أقرت المحكمة مراراً وتكراراً بصحة مثل هذه التحفظات واعتبرتها ملزمة، كما في قضايا مثل شرعية استخدام القوة (يوغوسلافيا ضد إسبانيا وآخرين) والكونغو الديمقراطية ضد رواندا.

وتقر سلطات الأمر الواقع السودانية في طلبها بوجود هذا التحفظ، لكنها تفشل في تقديم أساس قانوني مقنع لتجاوزه. فلا يوجد اتفاق خاص بين الطرفين، ولا توجد مادة في اتفاقية أخرى تمنح المحكمة الاختصاص، ولم يُستند إلى أي أساس قانوني بديل. هذا الغياب في حد ذاته دلالة على أن القضية لم تُصمم لتحقيق نصر قضائي، بل لتحقيق مكاسب سياسية.

من المرجح أن ترفض المحكمة الدعوى لعدم الاختصاص، ربما في مرحلة التدابير المؤقتة. وإذا حدث ذلك، فستنتهي القضية بحذفها من قائمة المحكمة العامة، ما يكشف عن طابعها الاستعراضي أكثر من كونها محاولة قانونية جادة.

مدّعٍ عديم الأخلاق

المفارقة الأكبر في هذه القضية ليست قانونية، بل أخلاقية. إذ تزعم القوات المسلحة السودانية—المسؤولة عن عدد من الفظائع يفوق ما ارتكبته معظم الجيوش في إفريقيا—أنها مدافعة عن حقوق الإنسان وحامية لشعب المساليت.

دعونا نتذكر أنه خلال ذروة الإبادة الجماعية في دارفور بين عامي 2003 و2004، كانت القوات المسلحة السودانية وميليشيات الجنجويد المتحالفة معها بقيادة موسى هلال، الذي لا يزال يتلقى دعماً من القوات المسلحة حتى اليوم، هي التي قادت حملة القتل والإرهاب ضد المساليت والفور والزغاوة. وقد تم قصف القرى (بما في ذلك قرية والدي) من قبل طائرات القوات المسلحة الحربية، وتم إعدام المدنيين واغتصاب النساء وتشريد الملايين، غالباً تحت إشراف مباشر من القوات المسلحة أو عبر قصفها الجوي.

وفي جبال النوبة، ظلت القوات المسلحة السودانية على مدى أربعين عاماً تشن غارات جوية عشوائية، وجوّعت السكان المدنيين، واستهدفت المجتمعات على أساس ديني وإثني. وفي جنوب السودان، أدت حملاتها المضادة للتمرد إلى مقتل أو المساهمة في مقتل نحو ثلاثة ملايين إنسان. وفي هوامش السودان كافة، لطالما تعاملت القوات المسلحة مع المدنيين لا كمواطنين، بل كأعداء يجب إخضاعهم أو إبادتهم.

لذلك، فإن وقوف مثل هذه المؤسسة أمام المحكمة الدولية متحدثة بلغة حقوق الإنسان والإبادة الجماعية يُعد تشويهاً بشعاً للعدالة. إنه أشبه برجل أشعل الحريق بنفسه، ثم اتصل بالإطفاء طالباً النجدة.

الإبادة الجماعية ومسؤولية الدولة: معايير عالية للإثبات

حتى في حال تمكّن سلطات الأمر الواقع السودانية من تجاوز عقبة الاختصاص—وهو أمر غير محتمل—فإن الحواجز الموضوعية تبقى ضخمة. إذ يتطلب القانون الدولي إثبات وجود نية خاصة (dolus specialis) لتدمير جماعة محمية، كلياً أو جزئياً، لاعتبار الفعل إبادة جماعية. أما التواطؤ، فيستلزم إثبات علم الدولة بالنية، وتقديم دعم له تأثير كبير في تنفيذ الجريمة.

ففي قضية البوسنة ضد صربيا، اعتمدت المحكمة معياراً صارماً للإثبات. فقد كان على الدولة المدعية إثبات وقوع أفعال إبادة جماعية، ووجود النية الخاصة، ومعرفة الدولة المتهمة بهذه النية، ودورها في تسهيل تنفيذها.

وبالاستناد إلى هذا السوابق، فإن نجاح السودان في هذه القضية يبدو مستبعداً. حتى لو قررت المحكمة أن قوات الدعم السريع ارتكبت إبادة جماعية ضد المساليت، فإن إثبات النية الخاصة أمر بالغ الصعوبة. أما إثبات علم الإمارات بهذه النية، وأن دعمها المزعوم ساهم بشكل كبير في تنفيذ الجريمة، فذلك أمر أكثر صعوبة.

إن المواد التي قدمتها سلطات الأمر الواقع السودانية غير الشرعية لا ترقى إلى مستوى الإثبات القانوني المطلوب.

استخدام القانون كسلاح

تُظهر هذه القضية الاتجاه المتزايد نحو استخدام المنابر القانونية الدولية ليس لتحقيق العدالة، بل لتعزيز أهداف سياسية. ففي هذه الحالة، تسعى القوات المسلحة السودانية إلى نزع الشرعية عن قوات الدعم السريع، التي أنشأتها هي ذاتها—ليس من خلال الاعتراف بجرائمها هي، بل عبر غسل صورتها من خلال مسرحية قانونية.

هذا ليس سعياً من أجل العدالة، بل مناورة محسوبة ضمن لعبة شطرنج جيوسياسية أوسع. إذ تسعى القوات المسلحة إلى تقديم نفسها للمجتمع الدولي باعتبارها السلطة الشرعية، والفاعل المسؤول، وضحية التدخلات الخارجية. وتأمل في كسب التعاطف والاعتراف وربما الدعم العسكري—ليس من أجل شعوب السودان، بل لتعزيز قبضة نخبها على السلطة.

لحسن الحظ، فإن القانون الدولي لا يمكن التلاعب به بهذه البساطة. فالمبدأ الجوهري في القانون الإنجليزي: "من يطلب الإنصاف يجب أن يأتي بيد نظيفة" قد لا يكون منصوصاً عليه في أحكام محكمة العدل الدولية، لكنه يتناغم بعمق مع روح العدالة. فلا يمكن لمؤسسة عسكرية ملطخة بدماء مواطنيها أن تمثل المدّعي أمام أعلى محكمة في العالم.

تشكل قضية سلطات الأمر الواقع السودانية ضد الإمارات العربية المتحدة مثالاً صارخاً على النفاق القانوني. وهي تسلط الضوء على مخاطر السماح لجهات ملوثة بماضيها أن تستغل أدوات القانون الدولي لتحقيق مكاسب سياسية. ورغم أن مزاعم الإبادة ضد المساليت تستحق التحقيق الجاد، إلا أن الجهة التي طرحتها، وهي النظام العسكري السوداني، تقوّض مصداقية الادعاءات من أساسها.
وفي نهاية المطاف، من غير المرجح أن تتجاوز القضية عقبة الاختصاص بنجاح، ناهيك عن أن تحقق حكماً لصالح سلطات الأمر الواقع السودانية. كما أنها ستفشل في تحقيق هدفها الأساسي: خلق رواية عن الضحايا، والتستر على فظائع القوات المسلحة، وصرف الأنظار عن الحاجة الملحة إلى المحاسبة الشاملة لجميع أطراف النزاع السوداني.

إن العدالة الحقيقية لشعوب السودان المضيمة لن تتحقق من خلال محاكمات انتقائية أو اتهامات انتقائية لأغراض سياسية. بل ستتحقق فقط من خلال عملية شاملة، جامعة، وذات مصداقية لمواجهة الماضي—عملية تُحاسب فيها كل الأطراف على جرائمها، بصرف النظر عن رتبهم، أو انتماءاتهم، أو الملاءمة الدبلوماسية.