د. نعيمة عبدالجواد تكتب لـ(اليوم الثامن):
أنتون تشيخوف وتقديم النموذج المحبب للسيكوباتي
عندما سألوا القاص الروسي الشهير "أنتون تشيخوف" عن سبب ارتداؤه ملابس سوداء طوال الوقت، أجابهم بهدوء: "لأني أقيم الحداد على حياتي". اخترق البؤس حياة "تشيخوف" منذ نعومة أظافره، وإن كان ذاك البؤس عينه ما صنع منه اسم لامع في عالم الأدب. فلو كان "ليو تولستوي هو الأب الروحي للرواية في روسياٍ"، فإن "أنتون تشيخوف" يماريه نفس المكانة محليًا و عالميًا، لكن في فن القصة القصيرة، الذي جعل منه مرآة جريئة تعكس الواقع بكل مآسيه، وإن غلَّف الواقعية التي تدمي القلوب بطبقة سميكة من الأسلوب الساخر الذي قد يثير الضحك، لكنه في نفس الوقت يجعل عقل القارئ يفكِّر بعمق فيما يطرحه "تشيخوف" من قضايا اجتماعية وإنسانية عميقة، وكأنه يفعل ذلك عن قصد حتى يثر حفيظة القارئ ويشحذ فكره.
والغريب أن الأدباء العالميين كانوا لا يعاملون "تشيخوف"، في بداية الأمر، بجدية؛ بسبب هذا اللون المستحدث من القصة القصيرة التي يقدمها، بل وكان الكثير منهم يتهكمون عليها. ومع ظهور أجيال جديدة ذات فكر واعي عميق، مثل "تي أس إليوت" T. S. Eliott و"جورج برنارد شو" George Bernard Show، أدركوا مدى العمق الذي يتناول به قضايا اجتماعية شديدة التعقيد، بأسلوب ممتع يسيل بسلاسة كالماء. فلقد كان ذكاء "تشيخوف" المتَّقد وتركيزه الشديد على أي أمر يشعر بأنه شديد الأهمية ويجب معرفة المزيد عنه وكذلك عرض التجربة للقارئ بشكل لائق مؤتِّر، كان يشابه إلى حد كبير أسلوب السيكوباتيين في معالجة الأمور محلّ اهتمامهم.
ولقد عالج عالم الطب النفسي الإنجليزي "كيفين داتون" Kevin Dutton (1967- ) في كتابه "حكمة السيكوباتيين" The Wisdom of Psychopaths ذاك الجانب من النفس البشرية. فالمعروف عن الأشخاص السيكوباتية أنهم أعداء المجتمع؛ فهم طائفة من المجانين بلا جنون، وذوي عقل إجرامي منظَّم، وعند اقتراف أيٍّ من جرائمهم يفعلون ذلك بأكثر الطرق وحشية، وكذلك بتركيز لضمان التلذذ والاستمتاع. وباستقصاء الأمر من جميع الجوانب، وجد "كيفين داتون" أن أعراض الإصابة بالسيكوباتية متفشية بين العديد من البشر؛ فليس بالضرورة أن يكون السيكوباتي عنيفًا أو تفكيره إجرامي بنفس الصورة المتعارف عليها. والعجيب أن الأفراد السيكوباتية غالبًا ما تعتلي أكبر المناصب في المجتمع سواء أكانوا من العلماء أو كبار المدراء والتنفيذين وكذلك الساسة. ويشترك كل هؤلاء مع النموذج التقليدي للسفاحين السيكوباتيين في خصال الشعور بالذات والقدرة على الإقناع والشعور بالعظمة والفتنة وعدم الرحمة والتلاعب بالآخرين، ومن الواضح أن قادة العالم وكبار السياسيين كلما تعاظمت لديهم كل هذه القدرات، كلَّما تم اعتبارهم عقليات منظمة فذَّة قادرة على صنع التاريخ.
فالسيكوباتية تدرور في فلك أربعة أبعاد: بُعْد العلاقة مع الآخرين، والبُعْد العاطفي، وبُعْد أسلوب الحياة، وأخيرًا بُعْد مُعاداة المجتمع. وبالتأكيد، يندرج تحت كل بُعْد درجات كثيرة وصفات أكثر، وتظهر الشخصية السيكوباتية كمزيج من كل الأبعاد. ولهذا، لا يجب أن نختصرها جميعًا في بُعْد واحد وهو معاداة المجتمع، ونُطلق جُزافًا أن جميع السيكوباتيين يقترفون جرائم بشعة بدم بارد. وهؤلاء هم السيكوباتيين الناجحين والذين نجدهم في مجالات عديدة مثل القانون والطب والسياسة والمحاسبة. فأهم ما يميِّز السيكوباتي الناجح هو القدرة على إتخاذ القرارات بتصميم دون تردد، فهو كالجرَّاح الماهر الذي يتَّخذ القرارات الحاسمة في الأوقات الحرجة. ولعل أشهر نموذج وقريب من الأذهان هو شخصية على ذلك أبطال السينما في أفلام الحركة الذين يجابهون الأعداء بدم بارد ولا يهابون المغامرة، حتى ولو كانت إلقاء أنفسهم من طائرة أو مبنى، فهم لا يكترثون بالعواقب السلبية؛ لأن تركيزهم فقط على ما قد يحققونه من نفع لو أثمرت المجازفة.
ولقد أحيط "أنتون تشخوف" ( 1860-1904) منذ الصغر بجميع الظروف التي قد تصنع منه سيكوباتيًا عنيفًا عتيدًا في الإجرام. فلقد ولد في الريف في أسرة فقيرة محاطًا بالفقراء والكلاب الضَّالة والحيوانات. وأمَّا والده، فكان سكِّيرًا يتفنن في ضربه وتعنيفه، حتى ولو على أتفه الأمور. وعندما أفلس والده تمامًا وأصبح غارقًا في الديون، لم يجد بُدًّا سوى أن يترك القرية التي عاش فيها وينتقل إلى مكان آخر، فما كان من "تشيخوف" إلَّا وأن اجتهد وعمل منذ الصغر حتى يعيل عائلته، وكذلك يكتب القصص القصيرة ويبيعها للصحف والمجلات حتى تتوافر لديه النقود. فلقد كان يعمل بأكثر من طاقته بصبر وإصرار وتركيز دون أن تحيل تقلُّب الظروف بينه وبين غايته في كسب المال وإشباع هوايته الأدبية وفي نفس الوقت تحقيق ذاته في الحياة العملية؛ فلقد استطاع في خضم ظروفه الصعبة تلك أن يصير طبيبًا ناجحًا، وفي نفس الوقت كان أديبًا متميِّزًا.
وأمَّا القرار الأكثر سيكوباتية في حياة "تشيخوف" الذي أثار إعجاب الكاتب الأمريكي الشهير "روبرت جرين" Robert Greene (1959 - ) صاحب كتب تطوير الذَّات الأكثر مبيعًا، ومن أهمها: "قوانين القوَّة ال48" The 48 Laws of Power و"فن الإغواء" The Art of Seduction – هو قدرة "تشيخوف" على أن يُسامح والده على ما اقترفه في حقه من تعذيب نفسي وجسدي عندما كان طفلًا، وإرهاقًا نفسيًا وماديًا عندما كان يافعًا عندما أجبره لأن يصبح عائل الأسرة. قد يظن البعض أن قدرة "تشيخوف" على التسامح مصدرها الرَّحمة أو القلب الرقيق، لكن العكس هو الصحيح. فلقد كان مثل طبيب جرَّاح ماهر اختار أن يزيل سرطان الشعور بالقهر والحقد من البُعْد العاطفي لديه عندما حلل الموقف بعقلانية واستخلص أن إساءات والده له وإدمانه الشراب مصدرهما ما ذاقه هو نفسه من والده من معاملة سيئة في صغره، وكذلك أدرك أن الفقر المدقع والحظ السيئ الذي أحاط بوالده منذ طفولته قد ساهم في ذلك. لقد سامح "تشخوف" والده بسبب أنه أدرك أن الشعور بالحقد سوف يكون عائقًا له في مواصلة تحقيق أحلامه، وأنه قد يعمل على تشويش عقلانيته وذكائه، وأهم من كل ذاك نجاحاته التي كانت تضخم لديه الشعور بالأهمية وسمو الذَّات.
وبنفس الأسلوب، تعامل "تشيخوف" مع المادة الأدبية التي كان يُقدِّمها لجمهور القرَّاء؛ فعلى عكس كبار الأدباء السالفين له والمعاصرين الذين ينتمون للطبقات العُليا أو المتوسِّطة، ويكتبون عن حياة تلك الطبقات، عالج "تشيخوف" في أعماله تفاصيل حياة الطبقات الفقيرة وخاض في حياة المزارعين والقرويين. وعلى نقيض سالفيه أيضًا، لم يقدِّم القروي محاطًا بهالة من حسن النوايا وطيبة القلب وحب الخير للآخرين، بل جعل أعماله مرآة تعكس الواقع بكل مساوئه أو إيجابياته؛ فأبطاله منهم الطيب أو الخبيث أو المُتلاعب أو الشرير، وكل هذه كانت نماذج تخالف الأعراف المتبعة حينها التي تقدِّم مجتمع الريف في إطار رومانسي.
لقد أثار أسلوبه الواقعي حفيظة الأدباء في بداية الأمر، لكن استمتاعهم بالمحتوى وإقبال القرَّاء على أعماله كان خير دليل على أن "تشيخوف" عبقرية أدبية. وظهر نفس ذاك الحسم في القالب الفنِّي الذي قدَّم فيه أعماله الأدبية أيضًا؛ عندما أصرّ أن تكون أعماله مباشرة وشديدة التكثيف ولا تجنح للاستطراد وكثرة الوصف مثل الروايات، فكان يردد أن الفلَّاح ليس لديه الوقت لقراءة عمل طويل، أو القدرة الذهنية على استيعاب جماليات ووصف لا يضيف للحبكة الدرامية، حتى ولو كان مكتوبًا بلغة شديدة الرُّقي ورائعة من النَّاحية الفنِّية.
وبذلك وضع "تشيخوف" قوانين جديدة لفن الكتابة القصصية، وأهمها نظرية "بندقية تشيخوف". وتقتضي نظرية "البندقية" إقصاء كل ما لا يكون له علاقة أو استخدام في النص أو البناء الدرامي، فلكل أمر يُذكر في سياق الكلام أهمية ودور، حتى ولو كان بندقية معلَّقة على الحائط. فنّ التكثيف الشديد هو من أهم صفات السيكوباتي الرَّاغب عن إضاعة الوقت في ترَّاهات تعمل على تشوِيش عقليته المنظمة وتجعله لا يستمتع استمتاع كامل بنتيجة العمل الذي يضَّلع به؛ فكل أمر بالنسبة له يخضع للتحليل والمنطق، وهو لا ينساق وراء التعاطف الحار، بل لديه مخزون من التعاطف البارد الذي يدفعه لطريق التفوُّق؛ لأنه لا يأخذ الأمور على محمل شخصي.
لقد كان "تشيخوف" سيكوباتيًا؛ لأنه استطاع الفصل بين التعاطف الحسِّي البارد والتعاطف الانفعالي الحار؛ فهو لم يترك أمرًا ليسير وفق أهواء الظروف، بل رغب في أن يكون العليم والمسيطر حتى على مسار حياته. ونجح في كبت الرَّحمة في المواقف التي تتطلَّب الحسم، واستطاع أن يصفِّي ذهنه ويصبح شديد التركيز حتى في أحلك المواقف. وأمَّا صلابته الذهنية جعلته لا يبالي بآراء الآخرين في شخصه أو في اللون الأدبي الجديد الذي يقدِّمه، وكان يضلِّع بكل هذه المخاطر دون تردد ويقظة تامة لكل ما يدور من حوله، ولم ينقصه في كل هذا أن يضفي عامل الفتنة والجذب على شخصيته الكاريزمية أو على أعماله التي تَعْلق رسالتها في الأذهان بسهولة. والأهم من كل هذا، أنه لم يبالي بماضيه وكل مآسيه، ولم يكترث لما سوف يحدث له في المستقبل؛ فلقد حصر نفسه وأفعاله في الحاضر فقط، وما يستطيع أن يحققه من إنجاز لحظي يشبع نهمه الآني.
قدَّم "تشيخوف" للبشرية أنموذجًا مُحببًا للأشخاص السيكوباتية. ولا يعني ذلك أن الهموم وأسوأ أنواع الشعور كانت لا تصيب نفسه بالسأم، لكنه تميَّز بأنه في لحظة واحدة له القدرة على أن ينفصل عن الواقع ويسعى في تحقيق أي هدف، حتى ولو كان آني تافه، بإصرار وتصميم أو بالأحرى "مع سبق الإصرار والترصُّد".