جيرار ديب يكتب:

معركة الرمزية والردع بين الحوثيين وإسرائيل

في مشهد يعكس تعقيد الصراع في المنطقة، أقدم الحوثيون في اليمن على إطلاق صاروخ باتجاه إسرائيل، في خطوة أعادت تسليط الضوء على الدور الذي باتت تلعبه الجماعة المدعومة من إيران في معادلة الحرب المفتوحة بعد السابع من أكتوبر 2023. لم يكن إطلاق الصاروخ مجرد حدث عسكري عابر، بل تطور حمل معه أبعادًا سياسية وأمنية، وطرح أسئلة حول طبيعة التهديدات المتبادلة ومستقبل الصراع في الإقليم.

فمنذ بدء الحرب في غزة، سعى الحوثيون إلى إظهار أنفسهم جزءًا من محور المواجهة مع إسرائيل، عبر استهداف السفن في البحر الأحمر أو إطلاق الطائرات المسيّرة والصواريخ بعيدة المدى. غير أن الصاروخ الأخير كان أكثر رمزية، إذ مثّل محاولة لتجاوز المنظومات الدفاعية الأميركية والإسرائيلية، وهو ما أثار ضجة إعلامية وعسكرية في تل أبيب. إلا أن المسألة لم تتوقف عند حدود المحاولة الهجومية، فالتجارب السابقة أظهرت أن كل هجوم حوثي يقابله رد إسرائيلي واسع النطاق، يستهدف مواقع اقتصادية وعسكرية في صنعاء والحديدة وصعدة، بل وصل إلى حد استهداف اجتماعات الحكومة غير المعترف بها، وقتل عدد من قياداتها.

الواقع أن ميزان القوة بين الطرفين لا يميل لصالح الحوثيين، مهما كانت قدرتهم على إطلاق الصواريخ أو الطائرات المسيّرة. فإسرائيل، رغم أزماتها الداخلية، ما زالت تمتلك تفوقًا عسكريًا نوعيًا، وأذرعًا استخباراتية قادرة على الوصول إلى أهداف بعيدة. الردود التي أعقبت الهجمات الحوثية كانت دائمًا موجعة وقاصمة، إذ لم تقتصر على تدمير منصات الإطلاق أو المواقع العسكرية، بل امتدت إلى البنية الاقتصادية التي يعتمد عليها الحوثيون في تمويل نشاطهم، مثل موانئ النفط والاتصالات والمخازن التجارية. هذه الضربات تركت أثرًا يتجاوز البعد العسكري، لتصيب مباشرة قدرة الجماعة على الاستمرار وإدارة مناطق سيطرتها.

لكن في المقابل، يظل إطلاق الصواريخ الحوثية على إسرائيل مؤشرًا على تطور المعركة من بعدها المحلي إلى بعدها الإقليمي. فالجماعة التي تخوض حربًا طويلة داخل اليمن، وتفرض سيطرتها بالقوة على العاصمة صنعاء ومؤسسات الدولة، باتت اليوم طرفًا في مواجهة أوسع تستهدف إسرائيل بشكل مباشر. هذا الدور لا ينفصل عن النفوذ الإيراني، الذي يسعى إلى توظيف الحوثيين ضمن شبكة من الوكلاء في المنطقة، من لبنان إلى العراق وسوريا وغزة. ومع ذلك، فإن هذه الهجمات، رغم رمزيتها، لم تغير كثيرًا في ميزان القوة، بل استجلبت على الحوثيين ضربات مؤلمة من تل أبيب.

التحليل العسكري في إسرائيل يذهب باتجاه التشكيك في قدرة الحوثيين على الاستمرار في إطلاق صواريخ متطورة، نظرًا لاعتمادهم الكبير على الدعم الإيراني في التدريب والتقنيات. وفي كل مرة يُعلن فيها الحوثيون عن استخدام سلاح جديد، يرد الجيش الإسرائيلي بتكثيف الضربات التي تستهدف مخازن السلاح ومراكز الاتصالات والرادارات، وهو ما يعكس حرص تل أبيب على منع الجماعة من تثبيت قواعد اشتباك جديدة. من هنا يمكن القول إن كل محاولة حوثية لتوسيع دائرة المواجهة تقابلها سياسة إسرائيلية تهدف إلى إعادة ضبط ميزان الردع عبر ضربات نوعية.

على الصعيد السياسي، ألقى الصاروخ الحوثي بظلاله على النقاش داخل إسرائيل حول مستقبل الحرب. فبينما يصرّ رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو على توسيع العمليات والظهور بمظهر الصلب في مواجهة المحاور المعادية، فإن المؤسسة العسكرية تحذّر من الانزلاق إلى جبهات متعددة قد تستنزف قدرات الجيش. التقديرات داخل تل أبيب تشير إلى أن استمرار الهجمات من اليمن، حتى وإن كانت محدودة الأثر، يفاقم الضغط النفسي على المجتمع الإسرائيلي ويعمّق الإحساس بالعزلة. غير أن الردود الإسرائيلية العنيفة تحمل في طياتها رسالة واضحة: أن أي تهديد من الحوثيين سيُواجَه بضربات أكثر إيلامًا، وأن إسرائيل لا تنوي التساهل مع جبهة جديدة في الجنوب.

إقليميًا، يجد الحوثيون في استهداف إسرائيل فرصة لتعزيز خطابهم السياسي داخليًا وخارجيًا. ففي الداخل اليمني، يسعون إلى الظهور كحركة مقاومة تتجاوز حدود الصراع المحلي، وتربط نفسها بالقضية الفلسطينية. لكن هذا الخطاب يصطدم بحقيقة أن هذه العمليات تجلب على اليمنيين مزيدًا من الأعباء، سواء من خلال الضربات الجوية الإسرائيلية أو عبر العقوبات الدولية التي تتصاعد ضد الجماعة. أما خارجيًا، فإن الهجمات الحوثية توفّر لإيران ورقة ضغط إضافية في مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل، إلا أنها في الوقت ذاته تكشف هشاشة المحور الذي تقوده طهران، لأن كل ضربة حوثية غير محسوبة تؤدي إلى ردّ موجع يضعف الجماعة على المدى الطويل.

المجتمع الدولي يتابع هذه التطورات بقلق متزايد، إذ إن البحر الأحمر وباب المندب يمثّلان شريانًا حيويًا للتجارة العالمية. أي تصعيد من الحوثيين ضد السفن أو عبر إطلاق الصواريخ يزيد من احتمالات التدخلات الدولية، وهو ما قد يفاقم عزلة الجماعة. كما أن استمرار إسرائيل في توجيه ضربات موجعة يعيد خلط الأوراق بالنسبة لحلفاء الحوثيين، الذين قد يجدون أنفسهم في موقف حرج أمام الرأي العام العالمي إذا ارتبط اسمهم بهجمات تفتقر للشرعية الدولية وتؤدي إلى تداعيات كارثية.

من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل البعد الإنساني. فاليمن يعاني أصلًا من أزمة إنسانية هي الأشد في العالم، ومع كل جولة تصعيد يزداد الوضع سوءًا. الضربات الإسرائيلية التي تستهدف مواقع اقتصادية أو بنى تحتية، حتى لو كانت تحت سيطرة الحوثيين، تنعكس مباشرة على حياة المدنيين الذين يعانون من الفقر والحرمان. وهنا يبرز سؤال جوهري: هل يسهم انخراط الحوثيين في حرب إقليمية في خدمة الشعب اليمني، أم أنه يضاعف من معاناته ويفاقم عزلته؟

في هذا السياق، يبدو أن مستقبل الصراع مرهون بعدة عوامل. الأول، قدرة الحوثيين على الاستمرار في تلقي الدعم الإيراني وتطوير وسائل هجومية جديدة. الثاني، مدى استعداد إسرائيل لتوسيع ردودها لتشمل أهدافًا أكثر حساسية داخل اليمن. الثالث، الموقف الدولي الذي بدأ يتململ من تصرفات الجماعة في البحر الأحمر ويربطها بالتهديد للأمن العالمي. هذه العناصر مجتمعة تشير إلى أن أي هجوم حوثي مقبل على إسرائيل لن يمرّ دون ثمن، وأن الردود الإسرائيلية ستظل أكثر إيلامًا، ربما تصل إلى ضربات تغيّر قواعد اللعبة بشكل جذري.

إسرائيل من جانبها تعيش واحدة من أعقد مراحلها السياسية. الانقسامات الداخلية، والانتقادات الدولية، وتراجع التعاطف الغربي التقليدي معها كلها عوامل تضعف موقفها. لكن هذه التحديات لا تعني تهاونها في مواجهة الحوثيين. على العكس، يرى بعض المحللين أن تل أبيب تجد في ضرب الحوثيين وسيلة لتأكيد قوتها وإعادة بناء صورة الردع في المنطقة. الضربات التي استهدفت الحكومة الحوثية غير المعترف بها، وأسفرت عن مقتل رئيسها وعدد من الوزراء، تعكس بوضوح أن إسرائيل مستعدة لتجاوز الأهداف العسكرية إلى السياسية والاقتصادية، إذا ما شعرت بتهديد مباشر.

في النهاية، يتضح أن الصاروخ الحوثي على إسرائيل لم يكن مجرد فعل عسكري، بل حلقة في سلسلة صراع أوسع يتشابك فيه المحلي بالإقليمي والدولي. غير أن النتيجة المباشرة تبقى أن كل محاولة حوثية لفرض معادلات جديدة تنتهي برد إسرائيلي أقسى، يضاعف خسائر الجماعة، ويضع اليمنيين أمام معادلة مكلفة. وبينما يستمر الجدل داخل إسرائيل حول مستقبل الحرب، فإن الحقيقة الواضحة أن الصراع دخل مرحلة جديدة، عنوانها الأساسي أن المبادرات الهجومية من الحوثيين قد تحمل رمزية سياسية، لكنها تُقابل دائمًا بردود موجعة تقوّض قدرتهم على جني أي مكاسب إستراتيجية حقيقية.