أمجد إسماعيل الآغا يكتب:
الشرع بين خطاب الاعتدال واستمرارية صراع الأيديولوجيات
في تحليل المشهد السياسي السوري الراهن، يمكننا التأمل في التداخل العميق بين الطروحات السياسية الجديدة ومحاولة إعادة تشكيل هوية الدولة السورية ضمن شبكة علاقات دولية وإقليمية متداخلة. في هذا السياق برز في وقت سابق خطاب أحمد الشرع كإستراتيجية سياسية تسعى إلى إعادة بناء الشرعية والمكانة السورية عبر طرح بديل يبدو منحازًا إلى تثبيت الاستقرار وضبط المجال السياسي بما يخدم مصالح النظام أو قوى محلية تتقاطع مع مشروع الدولة العميقة. هذا الخطاب يعمل على إعادة تعريف الهوية السياسية السورية بعيدًا عن رموز التطرف التي شاعت في مراحل سابقة من الصراع، سواء عبر التنظيمات الجهادية أو الحركات الإخوانية، أو حتى موجات الحراك الثوري التي تجسدت في “الربيع العربي”.
مع ذلك، الفصل المعلن بين الخطاب الجديد وأيديولوجيات التطرف لا ينبغي أن يُنظر إليه كحقيقة قاطعة تثبت أن سوريا قد تجاوزت جذور الأفكار المتطرفة. فعلى مستوى التحليل السياسي الداخلي لا يخلو الخطاب السياسي الجديد من مخاطر الاستمرارية غير المباشرة لنفس الأيديولوجيات، بل قد يكون تعبيرًا متجددًا عنها بملامح جديدة، إذ أن محاولات الفصل غالبًا ما تكون تكتيكية لإضفاء شرعية جديدة على النظام، ولحجب عيوب استمرار الانغلاق السياسي، وهو أمر يعيد إنتاج حالة من الاستقطاب والقطيعة مع الفئات المعارضة، بل قد يعزز نمط الحكم الذي يفضي إلى ديمومة السيطرة الأيديولوجية في صورة مغايرة.
المراقب الدولي للملف السوري ينظر إلى هذه التحولات بعين الشّك، مدركًا أن الخطاب الجديد لا يضمن، بهذه العوامل الذاتية أو الشكلية، قدرة النظام السياسي في سوريا على التحرر من الأيديولوجيات التي غذّت الصراع، بحيث قد يظل مثقلاً بها، أو يستخدمها بطرق أيديولوجية ونفعية بدلًا من التخلص منها. وهذا يشكل تحديًا أكبر في إمكانية بناء نظام سياسي مستقر يفسح المجال للفاعلين الاجتماعيين كافة، وهو ما يقتضي رؤية أعمق لهذه التحولات، وليس مجرد تأمل في تغييرات الخطاب، بل ضرورة تفكيك البناء الاجتماعي والسياسي الذي يستند إليه هذا الخطاب.
إعلان الشرع براءته من التنظيمات الجهادية وجماعات الإخوان وحتى موجات "الربيع العربي" هو محاولة سياسية تبدو كخطوة تمهيدية أو رمزية تهدف إلى تقديم صورة جديدة للنظام أو للفكر السياسي السائد
تصريح الشرع في هذا الإطار يمثل انعكاسًا بالغ التعقيد لما يمكن تسميته بالتحولات الشكلية داخل منظومة الحكم السورية، إذ تؤكد المؤشرات التي تنبع من هذا التصريح بروز تناقضات جوهرية تمس عمق النظام السياسي الجديد برمته. فعلى الرغم من أن الشرع لا يشكل امتدادًا مباشرًا أو صريحًا لمخططات التنظيمات الجهادية أو الحركات الإخوانية البارزة، إلا أنه لا يخلق انفصالًا حاسمًا عن الفضاء الأيديولوجي الذي ظل يغذي مشاعر الرفض للسيرورة المدنية للدولة وللنظام السياسي الدستوري الحديث. هذه الأيديولوجيات، التي لا تزال متجذرة، لا تعمل فقط على رفض بناء الدولة المدنية، بل توظف الخطاب السياسي عبر أدوات ديماغوجية مستوحاة من شعارات تحلق فوق مستوى الواقع السياسي والاجتماعي، مما يساهم في استمرار حالة الاحتقان الطائفية التي تندفع بها الخطابات الإعلامية المتحيزة في إدارة الصراع السياسي الداخلي.
في هذا السياق يمكن القول إن الأيديولوجيات المتطرفة لم تتعرض لهزيمة تعيد تشكيل المشهد السياسي بشكل يقطع مع الصراعات الدامية التي مرت بها البلاد. بل على العكس، قد تمارس هذه الأيديولوجيات ضغوطًا مركبة لإعادة تكييف خطابها السياسي بما يمكنها من تقديم صورة أكثر اعتدالًا على المستويين الدولي والإقليمي، محاولة بذلك استعادة موطئ قدم في إعادة صياغة قواعد اللعبة السياسية التي باتت مضطربة بفعل التدخلات المشتركة والتحالفات الإستراتيجية. إن هذه المحاولات ذات الطابع البراغماتي تكشف عن قدرة الأيديولوجيات على استغلال هشاشة النظام السياسي، ليصبح خطابه ليس فقط أداة للحفاظ على النفوذ الداخلي، بل وسيلة للتفاوض الدولي ومحاولة كسب تعاطف القوى الإقليمية والدولية المختلفة، رغم استمرار جذورها الأيديولوجية في بعض جوانبها التي تعيق بناء دولة تعددية مدنية.
وهنا يظهر بوضوح أن الوضع السوري السياسي ليس في حالة تحرر حقيقي من إرث التطرف، بل ربما هو شكل جديد من التعايش المؤقت الذي يفرضه الواقع القائم، مما يفرض على الأيديولوجيات المتطرفة تعديل صورتها ومصطلحاتها بما يتواءم مع متطلبات البقاء السياسي والإستراتيجي، دون التخلي الكامل عن جوهرها. لذلك، لا يمكن استنتاج أن تصريح الشرع يعبر عن تحول جذري أو انفصال عميق، وإنما هو جزء من عملية تكييف تحاول جعل النظام الجديد يبدو أكثر قابلية للقبول العالمي، وهو ما يفرض على المراقب السياسي قراءة هذا الخطاب في إطار تناقضاته البنيوية ومحاولة فهم كيف يمكن أن تعيش أيديولوجيات التطرف في ظل تحولات سطحية تعبر عن واقع سياسي معقد وديناميكي يشهد صراعًا بين إرادات متعددة ومتضاربة على إعادة تشكيل الهوية السياسية.
متاهة المشهد السياسي السوري تتبدى بوضوح من خلال استحالة الفصل الحاسم بين البعد السياسي والبعد الأيديولوجي ضمن صيغة حكمية تلتقي فيها أنماط مختلفة من السلطة والمشروع السياسي في آن واحد. هذا التقاطع لا يُنظر إليه كتجريد نظري، بل كممارسة يومية تتشكل عبر استعمال دقيق للغاية للغة الدين والعقيدة في خدمة السياسة والسلطة، بحيث يصبح الدين أداة سياسية تُستخدم لتقنين الصراع وترسيخ شرعية الحكم بغض النظر عن خلفياته الحقيقية أو نزعاته الأيديولوجية. وعليه، فإن البنية الوطنية السورية تتعرض لهشاشة بنيوية مزمنة بسبب تعددية مكونات المجتمع السوري وتاريخ النزاعات الإثنية والمذهبية التي تشكل حاضنة لهذا النوع من الاستغلال السياسي، حيث تنامى هذا التداخل ليعيد تدوير صراعات السلطة ويعززها من خلال خلق دوامات لا تنتهي، تحول النزاعات الرمزية والدينية إلى أدوات للمنافسة على النفوذ داخل الفضاء السياسي.
عملية “تصفير المشاكل” أو محاولة نفي وجود تعقيدات سياسية وأيديولوجية تعتبر عمليًا أمرًا مستحيلًا في سياق الواقع السوري الراهن، إذ إن هذه الفرضية لم تعد متوافقة مع طبيعة الصراع أو مع مصالح الفاعلين المتعددين. فبدلًا من الحسم في القضايا الشائكة، يتم اللجوء إلى رهان متجدد على استمرار وإعادة إنتاج التوازنات القائمة من خلال أدوات وخطابات جديدة تُصنّف غالبًا تحت مسمى “تخفيف الحدة”، وهي خطابات مصممة لتبدو كأنها تصحيح أو تلطيف لحدة الخلافات، لكنها في العمق تعكس صراعات كامنة ذات أصول تاريخية تستمد قوتها من استمرار تنازع المصالح والأجندات المتشابكة.
على الرغم من أن الشرع لا يشكل امتدادًا مباشرًا أو صريحًا لمخططات التنظيمات الجهادية أو الحركات الإخوانية البارزة، إلا أنه لا يخلق انفصالًا حاسمًا عن الفضاء الأيديولوجي
هذا الاندماج بين السياسي والأيديولوجي يستدعي فهمًا دقيقًا للاستخدام المتعمد للخطاب السياسي والديني كوسيلة لخلق مساحات تفاوضية ضمن الصراعات على السلطة، حيث تتحول الرموز والأفكار القديمة إلى وسائل تسير في نفس الاتجاه مع تلك التي تحاول استغلال هشاشة بنية الدولة الوطنية بصياغة مشروع سياسي رسمي يعزز التحكم والسيطرة. لذلك من الضروري النظر إلى هذا التعقيد ليس بوصفه مجرد حالة سلبية أو عائق أمام التغيير، بل كعملية إستراتيجية تستند إلى ضرورة تقنين الصراعات وجعلها ضمن حدود محددة، مما يبرز بشكل أوضح كيفية استمرارية النظام السياسي عبر استثمار ديناميكيات الصراع الرمزية وتوظيفها لتكريس نفوذ الحلقات الحاكمة، حتى وإن بدا أن الخطاب يتجه نحو تخفيف التوتر لتفادي تفجرات أكبر. هذا التوازن الهش يوضح الطبيعة الزائلة للسلام السياسي، التي تظل مشروطة جدًا بمسارات تقاسم السلطة التي لا تزال عالقة بين القديم والجديد، وبين السياسي والمرمز، في بيئة تضيّق خيارات التحول الديمقراطي أو إعادة بناء الدولة الوطنية على أسس مدنية تستوعب التنوع والاختلاف الاجتماعي.
إعلان الشرع براءته من التنظيمات الجهادية وجماعات الإخوان وحتى موجات “الربيع العربي” هو محاولة سياسية تبدو كخطوة تمهيدية أو رمزية تهدف إلى تقديم صورة جديدة للنظام أو للفكر السياسي السائد، لكنها في العمق لا تستطيع أن تمثل قطيعة حقيقية مع الأيديولوجيات والممارسات التي هيمنت على المشهد السوري خلال العقد الماضي. إذ إن مثل هذا الإعلان يظل محاطًا بسياقات متعددة الأبعاد تتحكم في طبيعة التحول السياسي، ويصعب من خلالها استجلاء حقيقة التحول أو حتى تقييمه بموضوعية دون الانزلاق إلى سطحية الفهم أو المظاهر الخطابية. فالنظام السياسي السوري اليوم لا يعيش حالة تصادم ساذج أو انتصار أيديولوجي واضح، بل هو مشدود بين متغيرات داخلية معقدة تتضمن هشاشة الدولة الوطنية نفسها، وبين عوالم إقليمية ودولية يشكل فيها النفوذ والمصالح المشتركة أو المتعارضة عاملين محددين في رسم ملامح التحول.
هذا المشهد المعقد يفضي إلى توليد واقع سياسي جديد لا يعيد ببساطة نسخ المبادئ القديمة على واجهات ظاهرية جديدة، بمعنى أن النظام السياسي في سوريا الآن يوظف إستراتيجيات دقيقة في إدارة الصراع والتنافس على السلطة، وذلك عبر تركيب شبكة علاقات نفوذ مستحدثة تراكمت عبر السنوات وتلتف حول الخطاب السياسي الذي يتبنى “تصفير المشاكل” أو الحد من تجليات التوتر الصريح، بحكم أنها توفر مجالًا لاحتواء الانقسامات بدل التصارع المفتوح. لكنها، في الجوهر، تقوم على تجيير مصالح متشابكة وتطوير أدوات السيطرة، مما يعكس قدرة النظام على إعادة تشكيل ذاته، لا على التخلي عن موروثاته القديمة.
هذا الوضع يفرض قراءة معقدة للواقع السوري، لا تقتصر على فَكّي العقدة الأيديولوجية أو السياسية، بل تضع في عين الاعتبار حقيقة أن ما يحدث ليس فقط صراعًا بين رؤى متناقضة أو صراعًا على السلطة، بل هو أيضًا لعبة إستراتيجيات تتعامل معها القوى السياسية والإقليمية بمهارة، بحيث تولّد نماذج جديدة من الحكم، متنوعة في أدواتها لكنها مترابطة في غاياتها. وهذه النماذج تعكس التحديات الكبرى في بناء سوريا ما بعد الصراع، إذ من البديهي أن التغيير الحقيقي لا يمكن أن يتم عبر مجرد إعادة صياغة الخطابات أو تبني شعارات جديدة، بل يتطلب تحولات جوهرية في بنية السلطة وفي نمط العلاقات الاجتماعية والسياسية.
لذلك، يظل إعلان الشرع مؤشرًا ضمن مشهد يتسم بالغموض، ويرسم حدود بعض التطلعات دون أن يكون مؤشرًا جازمًا على قدرة النظام على تجاوز إرث الصراع الأيديولوجي والصيغ القديمة للحكم والسيطرة.
- * نقلا عن العرب