قصي الدميسي يكتب لـ(اليوم الثامن):

وهم القوة في طهران

 كيف يتجاهل النظام زلزالاً داخلياً بينما يلعب الشطرنج على حافة الهاوية

  في مسرح السياسة الدولية المعقد؛ يبرع نظام الملالي في لعب دور اللاعب الاستراتيجي الذي يمسك بزمام المبادرة محركاً بيادقه من لبنان إلى اليمن، ومن القوقاز إلى باكستان في لعبة "عض أصابع" متقنة مع الولايات المتحدة، وإن التصريحات التي يطلقها مسؤولوه مثل كاظم غريب آبادي عن "الدبلوماسية" و"الحلول المفيدة للطرفين"، والتحركات التي يقوم بها قادته مثل زيارة لاريجاني للبنان أو زيارة الرئيس بزشكيان لأرمينيا لتهدف جميعها إلى رسم صورة لنظام قوي، ومتماسك يملك "رفاهية التفاوض" ويتحكم في مصيره.. لكن هذه الصورة التي قد تبدو مقنعة للوهلة الأولى ليست سوى سراب.. سراب يخفي خلفه حقيقة مرة ومرعبة للنظام.. إنه يقف على فوهة بركان شعبي على وشك الانفجار، وكل هذه المناورات الخارجية ليست سوى محاولات يائسة لإلهاء العالم عن الزلزال الداخلي الذي يهدد بابتلاعه.

مسرح القوة الخارجي: أوراق محترقة في مهب الريح

لا شك أن النظام يحاول بجد ترتيب أوراقه الإقليمية لتحسين موقفه التفاوضي.. ففي لبنان يسارع لإطلاق "صدمة إيجابية" عبر حزب الله بمليار دولار لإعادة الإعمار، في محاولة استباقية لقطع الطريق على الخطة الأمريكية لسحب سلاح الحزب، وفي اليمن يستخدم الحوثي كمنصة لإطلاق صواريخ متطورة تحمل رسائل مباشرة إلى إسرائيل وأمريكا، وفي آسيا الوسطى والقوقاز يعمل على تمتين علاقاته مع باكستان وفتح ممرات اقتصادية مع أرمينيا لمقاومة التطويق الأمريكي.. وتبدو هذه التحركات وكأنها خطط لاعب شطرنج ماهر.

لكن ما يتجاهله النظام هو أن هذه الأوراق لم تعد تملك نفس القيمة؛ فحزب الله الذي خرج من حرب مدمرة مع إسرائيل يواجه ضغطاً داخلياً ودولياً غير مسبوق، والحوثي رغم قدراته الصاروخية يظل لاعباً محلياً لا يغير المعادلات الكبرى، والعلاقات مع روسيا وباكستان لا يمكنها أن تعوض عن العزلة الاقتصادية والمالية الخانقة التي تفرضها العقوبات.. إنها معارك جانبية تستهلك موارد النظام وتشتت انتباهه.. لكنها لا تعالج المرض الأساسي الذي ينهش جسده.

الحقيقة المرة: الزلزال الداخلي الذي لا يمكن تجاهله

المرض الأساسي يكمن في الداخل.. فبينما يتفاوض غريب آبادي في جنيف هناك ملايين الإيرانيين الذين لم يعودوا يملكون رفاهية التفكير في الغد.. هناك 30 مليون إنسان يعيشون تحت خط الفقر، ومواطنون يضطرون لبيع أعضائهم لتأمين لقمة العيش، ومجتمع يغلي تحت وطأة التضخم والبطالة والقمع.. إن لعبة "عض الأصابع" مع واشنطن تصبح بلا معنى عندما تكون أصابع الشعب الإيراني نفسه هي التي تضغط على عنق النظام.

إن كل المناورات الخارجية، وكل الصواريخ التي تُطلق، وكل الاتفاقيات التي تُبرم لا يمكنها أن تخفي هذه الحقيقة: النظام فقد شرعيته بالكامل في الداخل، والشعب الإيراني لم يعد يرى في "المقاومة" الخارجية سوى ذريعة لفقره وقمعه.. إنها المفارقة القاتلة: النظام الذي يدعي مقاومة "الاستكبار العالمي" هو نفسه الذي يمارس أبشع أنواع الاستكبار ضد شعبه.

بروكسل 6 سبتمبر: حيث تتكشف الحقيقة

وهنا يأتي دور مظاهرة السادس من سبتمبر في بروكسل لتكشف هذا الوهم وتضع الأمور في نصابها الصحيح.. إن هذا الحدث العالمي ليس مجرد تجمع للمعارضة.. بل هو اللحظة التي يتم فيها فضح هذه الازدواجية.. إنه يقول للعالم: لا تنشغلوا بلعبة الشطرنج الخارجية بل انظروا إلى بركان الغضب الداخلي الذي سيغير كل قواعد اللعبة.

إن مظاهرة بروكسل هي المنصة التي سيعلن فيها الشعب الإيراني عبر مقاومته المنظمة، وأن "رفاهية التفاوض" الحقيقية ليست بيد النظام بل بيد الشعب الذي يطالب بحقه في تقرير مصيره.. إنها ستقدم للعالم رؤية بديلة تتجاوز لعبة "عض الأصابع" العقيمة؛ وهذه الرؤية تتجسد في خطة السيدة مريم رجوي ذات العشر نقاط، وهي خطة لا تركز على كيفية مناورة القوى الخارجية بل على كيفية بناء دولة ديمقراطية تلبي احتياجات شعبها أولاً.

الرسالة التي ستنطلق من بروكسل ستكون قوية وواضحة، وإن السؤال الحقيقي ليس ما إذا كان النظام سيخضع للتفاوض المشروط أو سيذهب إلى الحرب.. وإنما السؤال الحقيقي هو متى سينفجر البركان الداخلي، ومظاهرة السادس من سبتمبر هي الإعلان الرسمي بأن هذه اللحظة باتت أقرب بكثير مما يتصور الجميع، وأن على العالم أن يستعد لدعم البديل الديمقراطي الذي سيولد من رحم هذه الثورة الحتمية.

د. قصي الدميسي - نائب برلماني أردني سابق