أحمد صدقي اليماني يكتب لـ(اليوم الثامن):
الفاشر ومأزق الدولة العربية الحديثة
ما يحدث اليوم في الفاشر ليس مجرد جولة أخرى من الصراع السوداني، بل فصل جديد من حكاية فقدان الدولة لسيطرتها على أطرافها. المدينة التي كانت لسنوات رمزاً للتعايش في دارفور تحولت الآن إلى مسرح مفتوح للدمار، بعد أن أحكمت قوات الدعم السريع قبضتها على معظم أحيائها، فيما انسحب الجيش أو تراجع إلى مواقع محدودة وسط ارتباك كامل في الموقف السياسي والعسكري. التقارير الواردة من هناك تتحدث عن حصار خانق، انقطاع شبه تام للغذاء والدواء، وقصف متواصل طال الأسواق والمستشفيات ومخيمات النازحين، حتى صار المدنيون بين نار الجوع ونار الرصاص.
اللافت في مشهد الفاشر أنه يختصر أزمة الدولة السودانية بكل تناقضاتها. فالصراع لم يعد بين جيش نظامي ومجموعة متمردة على الهامش، بل بين مؤسستين تتنازعان الشرعية داخل جسد واحد. الدعم السريع يمثل نموذج القوة التي خرجت من رحم النظام لتتحول إلى كيان مستقل، يملك المال والسلاح والولاءات الخاصة. والجيش، الذي يفترض أنه حامي الدولة، صار محاصراً داخل جغرافيا محدودة، يعجز عن حماية المدن الكبرى، ناهيك عن الأرياف والمناطق النائية. هذه المعادلة أنتجت حالة من التفتت وفقدان السيطرة المركزية، جعلت الفاشر أشبه بعاصمة بديلة في غرب البلاد، تحت سلطة أمر واقع لا يعترف بالدولة إلا حين يحتاجها.
حين أتابع ما يجري في دارفور، أرى أمامي مرآة أخرى تعكس بعض ملامح ما عاشه اليمن في السنوات الأخيرة. هناك أيضاً سلطة مركزية فقدت زمام السيطرة، وجماعة مسلحة صعدت من الهوامش لتفرض واقعاً جديداً باسم “الثورة” أو “الحق الإلهي”، ثم وجدت نفسها تدير دولة بلا مؤسسات. في اليمن كما في السودان، تحوّل النزاع من مواجهة سياسية إلى صراع وجود، تُستخدم فيه أدوات الحصار والتجويع والقصف العشوائي لإخضاع السكان. المدنيون في الحالتين هم الخاسر الأكبر، يتحملون عبء الحرب وعجز الدولة وانشغال العالم بصراعاته.
التشابه بين الدعم السريع وجماعة أنصار الله لا يقف عند البنية العسكرية، بل يمتد إلى الفكرة نفسها: كلاهما يمثل محاولة للاستيلاء على الدولة من خارج مؤسساتها، وتوظيف معاناة الناس لتبرير مشروع سلطوي يقوم على القوة والسلاح. وكما عملت جماعة أنصار الله في فرض أمر واقع شمال اليمن، يحاول الدعم السريع أن يصنع من دارفور قاعدة نفوذ تفرض نفسها على مستقبل السودان. في الحالتين هناك شعور عام بأن البلاد تتفتت، وأن السلطة لم تعد قادرة على تموضعها الصحيح بين حماية مواطنيها وبين الدفاع عن شرعيتها.
النزوح الجماعي الذي يشهده غرب السودان يعيد إلى الأذهان موجات النزوح اليمني خلال ذروة الحرب. ملايين اضطروا إلى ترك بيوتهم بحثاً عن الأمان، وتحولت المخيمات إلى مدن منسية داخل أوطانها. هذه التحركات السكانية لا تمثل مجرد أزمة إنسانية، بل تعيد تشكيل الخريطة الديموغرافية والسياسية للمنطقة. فحين يترك الناس أرضهم، تفقد الدولة أحد أهم مقوماتها: الاستقرار الاجتماعي. وفي ظل غياب خطة وطنية أو إقليمية لاستيعاب هذه الكارثة، يتحول النزوح إلى وقود جديد لصراعات مستقبلية.
ما يحدث في الفاشر إذن ليس حدثاً سودانياً محضاً، بل جزء من نمط أوسع يضرب دول الإقليم. هناك حالة عامة من التآكل المؤسسي، ومن عجز الأنظمة عن استيعاب قواها الصاعدة أو احتواء انقساماتها الداخلية. في السودان، كما في اليمن، تتقاطع عوامل الهوية والاقتصاد والسياسة في إنتاج حروب بلا أفق، تنتهي غالباً بتمدد القوى المسلحة على حساب الدولة والمجتمع معاً. الفاعلون الجدد يتغذون على فراغ السلطة، والسلطة المركزية تزداد ضعفاً لأنها لم تعد قادرة على إدارة توازنها الداخلي.
بوصفي باحثاً في الشأن الوطني والشرق أفريقي، أرى أن أخطر ما تكشفه الفاشر اليوم هو أن مفهوم الدولة في منطقتنا ينهار عند أول اختبار جدي. ليست المشكلة في وجود جماعة مسلحة أو قوة متمردة، بل في هشاشة البنية التي تسمح لها بأن تملأ الفراغ بسهولة. الدولة التي لا تحمي مواطنيها، ولا توزع مواردها بعدالة، ولا تملك جيشاً مهنياً موحداً، هي دولة مؤجلة الانهيار. وفي غياب مشروع وطني جامع، تتحول كل منطقة مهمشة إلى مرشح طبيعي لحمل السلاح، وكل مظلمة محلية إلى مبرر لانفجار جديد.
من هذا المنظور، يبدو أن الفاشر واليمن تنطقان بلغة واحدة: لغة الانقسام، والتعب، وفقدان البوصلة. في كليهما، يتراجع صوت الدولة ويعلو صوت البنادق، ويتحول المواطن من غاية إلى وسيلة، من شريك في الوطن إلى رقم في قائمة نزوح أو شهيد مجهول. هذه ليست أزمات معزولة، بل حلقات في سلسلة طويلة من سقوط فكرة الدولة الحديثة في منطقتنا، واستبدالها بكيانات طارئة تعيش على الولاء لا على القانون.
وربما الدرس الأهم الذي يمكن أن نتعلمه من الفاشر هو أن الفراغ لا يبقى فارغاً. حين تغيب الدولة، يأتي من يملأها، لكنه لا يملأها بالعدل ولا بالسلام، بل بالخوف وبالدم. وهذا بالضبط ما يهدد أن يتكرر في أكثر من مكان، ما لم نبدأ بإعادة تعريف السلطة بوصفها مسؤولية، لا غنيمة.
 
            
         
                                                     
                                     
                                    

