ماريا هاشم يكتب لـ(اليوم الثامن):

محمد بن سلمان و«السعودية الجديدة».. تكرار الحداثة بوسائل الماضي

منذ أن وقّعت السعودية «صفقة اليمامة» في ثمانينيات القرن الماضي، كانت تؤسّس، دون أن تدري، لنسخة سعودية خالصة من فلسفة الفساد المنظّم المغلّف بالهيبة والجاسوية والسرية،  لم تكن تلك الصفقة الكبرى التي تجاوزت قيمتها ثمانين مليار دولار حدثاً عابراً في تاريخ التسلّح، بل كانت لحظة انكشافٍ عميقة لعقل السلطة في المملكة،  عقلٍ يرى أن المال يحمي، وأن الولاء يُشترى، وأن النفوذ يُبنى بالعقود لا بالكفاءة،  كانت «اليمامة» فصلاً أول من رواية طويلة عنوانها ..  كيف تُدار الدولة كصفقة، ويُختزل الوطن في ميزانية الدفاع.

الصحافة البريطانية وصفتها بفضيحة العمولات، أما الرياض فوصفتها بـ«الإنجاز الوطني»،  والفرق بين الفضيحة والإنجاز هو زاوية الرؤية فقط،  الغرب رآها كجريمة فساد، أما السعوديون فاعتبروها دهاءً سياسياً، نموذجاً على “قدرة الأمير سلطان بن عبدالعزيز” على جلب الأموال إلى الداخل عبر بوابة الإنفاق العسكري،  لم يكن الفساد في هذه العقلية انحرافاً، بل مهارة،  كانت تلك هي المعادلة الأولى التي صاغت الذهنية السعودية لعقود ..  السلاح غطاء الشرعية، والمال طريق الولاء.

منذ تلك اللحظة لم تعد السعودية تشتري السلاح لتدافع عن حدودها، بل لتؤكد لنفسها أنها دولة عظيمة،  ومنذ ذلك التاريخ، أصبح الإنفاق العسكري جزءاً من طقوس السلطة، كالألقاب والمراسم،  الطائرة لا تُشترى لأنها ضرورة، بل لأنها إعلان هيبة،  الصفقات لا تُوقّع لأن الخطر قائم، بل لأن الرغبة في التفاخر قائمة،  وهكذا ترسّخ في الوعي السعودي أن الدولة الحديثة ليست التي تبني الإنسان، بل التي تكدّس الأسلحة وتعرضها على شاشات التلفزيون.

حين تولّى الملك عبدالله الحكم، حاول أن يكسر هذه الدائر،  آمن أن الأمن يبدأ من المدرسة لا من المطار العسكري، وأن البنية التحتية أهم من الطائرات الحربية،  كانت إصلاحاته محاولة جادّة لبناء مفهوم «الدولة المتعايشة»، دولة ترى في التنمية دفاعاً حقيقياً ضد الانهيار،  لكنه مات، ومات معه الحلم القصير، عادت السعودية سريعاً إلى ذهنيتها القديمة ..  الترشيد ضعف، والإصلاح ترف، والسلاح وحده يصنع الكرامة والمال يشتري الذمم،  ومع صعود محمد بن سلمان، اكتملت الدائرة.

محمد بن سلمان لم يكتفِ بإعادة إنتاج تلك الذهنية، بل صاغها بلغة أكثر حداثة ووقاحة في الوقت نفسه،  فبينما يرفع شعار «السعودية الجديدة»، أعاد تدوير أدوات السعودية القديمة.. شراء الولاءات، وتبييض السمعة، وتلميع الزعامة، لكن مع تحديث أدوات العرض،  فبدل السرّية، صار الفساد علنياً، وبدل الخطاب الديني، جاءت لغة الشركات والمهرجانات والاستعراض،  الإنفاق العسكري اليوم لم يعد أسراراً في دهاليز وزارة الدفاع، بل عناوينَ في مؤتمرات «مستقبل الاستثمار» وبياناتٍ في بورصات الغرب.

كانت جريمة اغتيال جمال خاشقجي لحظة اختبار قاسية للنظام،  غير أن الرد السعودي على الفضيحة لم يكن بالتراجع أو المحاسبة، بل بزيادة الإنفاق،  أُغرق العالم بعقودٍ جديدة، وصورٍ جديدة، ومشاريع ترفيهية عملاقة، وإعلانات عن رؤية اقتصادية تصنع «مملكة المستقبل»، كانت تلك هي الطريقة السعودية في غسيل السمعة .. بالسلاح والضوء لا بالاعتذار والضمير والتغيير.

لكن كل هذا البريق تهاوى في أول مواجهة حقيقية حين قررت السعودية خوض حرب اليمن،  دخلت الحرب بعتادها الضخم، لكنها خرجت منها مهزومة بلا كرامة،  فشلت في تحقيق أي هدف معلن، لا عادت الشرعية إلى صنعاء، ولا انكسرت شوكة الحوثيين،  على العكس، انكشفت منظومة الدفاع السعودية، وظهرت هشاشتها الفاضحة،  تساقطت الصواريخ والطائرات المسيّرة فوق أراضيها كالمطر، وتحوّل جيشها الباذخ إلى جهاز إداري مترهّل فاقد للروح.

لقد خاضت السعودية حرب اليمن لتؤكد زعامتها، فإذا بها تخسر صورتها كدولة مسؤولة،  لم تهزم الحوثيين، بل سلّمت لهم مفاتيح المعركة،  توغلت الميليشيات داخل أراضيها في جازان ونجران، وضربت عمقها النفطي في «أرامكو» ببقيق وخريص عام 2019، فأصابت قلب الاقتصاد السعودي بالشلل، وجرّدت الجيش من هيبته،  ثم واصلت قصف مطارات أبها والطائف والرياض، وسط عجز كامل لأنظمة الدفاع الأميركية المتطورة التي كلفت المليارات،  إنها الإهانة التي حاولت المملكة إخفاءها بالدعاية، لكنها ستظلّ النقطة السوداء في تاريخها الحديث، فدولة تملك ثالث أكبر ميزانية عسكرية في العالم، ولا تستطيع حماية مطاراتها ومنشآتها الحيوية، لا يمكنها أن تتحدث عن القوة، ولا عن الزعامة.

إن الهزيمة في اليمن لم تكن عسكرية فقط، بل أخلاقية وسياسية،  كشفت حجم الفساد المستشري داخل المؤسسة العسكرية، حيث تبتلع العقود الأموال دون أثر، وتُدار الحرب بعقلية المكاتب،  كشفت أن التسلّح السعودي مجرد ديكور استعراضي لا أكثر، وأن القرار العسكري في النهاية ليس سعودياً بل أميركياً وبريطانياً،  لم تكن تلك حرباً ضد الحوثيين، بل ضد الحقيقة ذاتها ..  ضد انكشاف أن السعودية بلا جيش حقيقي، وبلا كفاءة ميدانية، وأن «هيبتها» التي بنتها الصفقات كانت مجرد وهمٍ في سوق السلاح.

جوهر الأزمة السعودية أعمق من الفشل العسكري، إنها أزمة وعي سياسي وفكري،  فالمملكة التي ما زالت ترى نفسها “قلب العالم الإسلامي” لم تتعلم بعد كيف تعيش وسط الآخرين،  التعايش بالنسبة لها يعني السيطرة، لا المشاركة،  والتفاهم يعني الإخضاع، لا الاحترام،  وحين تتحدث عن “السلام”، فإنها تقصده كفترة استراحة بين صفقتين،  هذا الخلل في فهم التعايش هو ما جعلها عاجزة عن بناء نموذج مدني أو أخلاقي، رغم ثرائها، فهي لا تعرف أن الدولة الحديثة تُقاس بقدرتها على استيعاب الاختلاف، لا بقدرتها على كتمه.

أما الهوس بالزعامة، فهو مرض السعودية المزمن،  تريد أن تقود العالمين العربي والإسلامي، لكنها لم تقد نفسها بعد إلى مشروع وطني متماسك،  تنادي بالإصلاح وهي تُخرس النقاد، تتحدث عن التسامح وهي تملأ السجون، وتسوّق لنفسها كقوة سلام وهي تغرق اليمن بالدمار،  زعامتها قائمة على الميكروفون، لا على المبدأ، وعلى الصورة، لا على الفكرة،  لم تفهم بعد أن الزعامة لا تُشترى بالتحالفات ولا بالصفقات، بل تُكتسب بثقة الشعوب وقدرة الدولة على إنتاج المعنى.

لقد تحولت السعودية، في ظل هذه الذهنية، إلى دولة مهووسة بالقوة لكنها عاجزة عن ممارستها، تملك كل شيء إلا الإرادة على الإصلاح الحقيقي،  القوة التي لا تُترجم إلى مسؤولية هي شكل آخر من الضعف، والزعامة التي لا تقوم على التعايش تتحول إلى استبداد إقليمي،  لقد أنفقت المملكة ما يكفي لبناء عشر دول، لكنها لم تبنِ لنفسها دولة متصالحة مع نفسها،  أنفقت على الأسلحة أكثر مما أنفقت على التعليم والبحث العلمي مجتمعين، لكنها لم تنتصر في حرب، ولم تحمِ منشأة، ولم تُثبت للعالم أنها دولة مسؤولة.

اليوم، تبدو السعودية مثل مريضٍ يزداد ثراءً كلما اشتد مرضه، فيشتري المزيد من المسكنات بدلاً من العلاج،  تسليحها الضخم ليس دليل قوة، بل علامة خوفٍ دفين من الداخل والخارج معاً،  إنها دولة فقدت البوصلة بين التعايش والهيمنة، بين الرغبة في أن تُحَبّ والرغبة في أن تُخشى،  ومادامت لا تدرك أن العالم لا يُدار بالصوت العالي ولا بالبريق ولا بالإنفاق، بل بالعقل المتزن والمسؤولية الأخلاقية، فإنها ستظل تدور في الدائرة نفسها التي بدأتها صفقة اليمام .. مال كثير، سلاح كثير، ونتائج فارغة…هذا هو جوهر المأساة السعودية  دولةٌ أرادت أن تشتري المجد، فانتهت تشتري الأوهام.