سيف الحاجب يكتب لـ(اليوم الثامن):

هل تصنع المنظمات الدولية القرارات أم تعكس مصالح القوى الكبرى؟

 على امتداد التاريخ الحديث كان النظام الدولي يقوم على مبدأ بسيط: الدول هي الأطراف التي تملك القوة وتحتكر قرار الحرب والسلم. لكن التحولات الكبرى التي بدأت مع منتصف القرن العشرين دفعت لاعبين آخرين إلى واجهة المشهد؛ منظمات دولية عابرة للحدود أصبحت طرفاً ثابتاً في النقاش السياسي العالمي. ويواصل الجدل حتى اليوم حول مدى قدرتها على التأثير في العلاقات بين الدول، وهل هي فاعل حقيقي أم مجرد إطار شكلي تعمل من خلاله القوى الكبرى.

وقد أسهمت الحربان العالميتان في تغيير شكل النظام الدولي أكثر مما فعلته أي مرحلة أخرى. فقد أدت الخسائر البشرية الضخمة والانهيار الاقتصادي الذي صاحب الحرب إلى إدراك جماعي بأن إدارة العالم عبر التحالفات التقليدية لم يعد خياراً ممكناً. فسقطت فكرة أن الدولة يمكنها التعامل منفردة مع الأزمات، خصوصاً بعد أن أصبحت التجارة، والصحة، والبيئة، والأمن، قضايا لا تقف عند حدود جغرافية. هذا الإدراك ولّد الحاجة إلى مؤسسات دائمة قادرة على التنسيق، وهو ما ظهر أولاً في عصبة الأمم ثم في الأمم المتحدة التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية.

ورغم الفشل المبكر للعصبة، فإنها تركت إرثاً مهماً: العالم بحاجة إلى منصة مشتركة تضع قواعد عامة وتوفر فضاءً للتفاوض ومنع الانزلاق إلى صراعات جديدة. جاءت الأمم المتحدة كإجابة موسعة لهذا الاحتياج، لكنها وُلدت منذ البداية ضمن توازنات القوى التي فرضتها الدول المنتصرة في الحرب. ولهذا حمل مجلس الأمن تركيبة تمنح القوة الكبرى حق كبح القرارات أو تمريرها، ما جعل المنظمة منذ اللحظة الأولى جزءاً من مشهد القوة وليس بديلاً عنه.

ومع توسع نشاط الأمم المتحدة والمنظمات المتخصصة التابعة لها، ظهرت مجالات لم تكن حاضرة سابقاً في العلاقات الدولية: حقوق الإنسان، البيئة، التنمية، القانون البحري، الصحة العالمية، التجارة، وحتى إدارة أزمات الطاقة. كان اتساع هذا النشاط انعكاساً لتغير طبيعة المشكلات نفسها وليس توسعاً إدارياً. فالعالم أصبح أكثر ترابطاً، والمصالح الاقتصادية والسياسية لم تعد قابلة للحصر داخل حدود الدول، ما فرض على الحكومات العمل داخل مساحة أوسع من التفاعلات.

لكن دخول المنظمات الدولية إلى النظام العالمي لم يكن على حساب الدول. فالدول بقيت الطرف الذي يمتلك القوة الصلبة، بينما حصلت المنظمات على شرعية قانونية وأخلاقية لها وزنها. وبدأ يتشكل نوع من التوازن بين الطرفين؛ الدولة تملك أدوات الفرض، والمنظمة تملك أدوات تشكيل البيئة السياسية والقانونية. وهذا التوازن، رغم هشاشته، أصبح جزءاً من المشهد الدولي.

وعند تحليل تأثير هذه المنظمات، يتضح أن نفوذها لا يقوم على القوة العسكرية أو الاقتصادية، بل على ثلاثة عناصر رئيسية: الشرعية، القدرة المؤسسية، وموازين القوة داخل المنظمة نفسها. فالقرارات الصادرة عنها تمثل – حتى عندما لا تُنفذ – وثائق مهمة تعتمد عليها الدول في بناء مواقفها وإدارة خصوماتها. والدولة التي تتحدى قراراً أممياً لا تواجه عقوبة مباشرة في كل الحالات، لكنها تتعرض لضغط سياسي، وتُتهم بسوء السلوك الدولي، وتخسر جزءاً من قدرتها على المناورة الدبلوماسية. الشرعية هنا ليست أداة للإكراه لكنها أداة لإعادة تشكيل الصورة العامة للدولة.

ويُضاف إلى ذلك قدرة المنظمات على جمع المعلومات وتحليلها عبر شبكات واسعة من المكاتب والبعثات والخبراء. وفي عالم يعتمد على البيانات والصورة، تمنح هذه القدرة قوة مهمة. فالتقارير الأممية حول النزاعات واللاجئين والحقوق والانتهاكات أصبحت وثائق تستخدمها الدول في صراعاتها السياسية. كثير من الحكومات تجد نفسها مضطرة إلى تعديل سلوكها أو خطابها لتجنب الإدانة، لا لأنها تخشى عقوبة، بل لأنها تخشى فقدان المصداقية أو التعرض لضغط سياسي إضافي.

لكن قدرة المنظمة على استخدام هذه الأدوات ليست مطلقة. فهي تتوقف عند النقطة التي تبدأ عندها مصالح القوى الكبرى. فمجلس الأمن يستطيع اتخاذ قرارات مهمة عندما تتوافق القوى الخمس المؤثرة، لكنه يصبح غير قادر على التحرك عندما تتعارض مصالحها. وهذا ما يجعل المنظمة تبدو في بعض اللحظات فاعلة قادرة على إدارة أزمات معقدة، وفي لحظات أخرى عاجزة عن إصدار أكثر من بيانات شكلية.

ولا يقتصر تأثير المنظمات على المجال القانوني والرقابي. فالتدخل الإنساني، رغم أنه يبدو عملاً محايداً، يُنتج واقعاً سياسياً جديداً. فالمنظمات التي تدخل مناطق النزاعات تتحول إلى طرف يملك القدرة على الوصول إلى مناطق لا تستطيع الحكومة أو الأطراف المسلحة الوصول إليها، وتصبح شاهداً مباشراً على ما يحدث، ما يضعها في موقع يؤثر لاحقاً في مسار الأزمة. وجودها في الميدان يخلق شبكة علاقات محلية ويمنحها مصدراً إضافياً للمعرفة، ما يعزز من أثرها السياسي حتى وإن لم يكن هدفها الأصلي.

وتؤثر المنظمة أيضاً عندما تصبح وسيطاً بين الأطراف المتنازعة. فالعديد من الدول تفضل التفاوض داخل إطار أممي لأنها لا ترغب في تحمل مسؤولية القرارات منفردة، أو لأنها تحتاج إلى غطاء شرعي يساعدها على تمرير اتفاقات داخلية أو خارجية. هذا النوع من الوساطة يجعل المنظمة جزءاً من عملية صنع القرار، لكنه لا يمنحها سلطة مستقلة عن الدول، بل يضعها داخل شبكة المصالح التي تحكم كل خطوة.

ومع ذلك، تبقى حدود واضحة لا تستطيع المنظمات تجاوزها. ففي القضايا التي تتقاطع مباشرة مع مصالح الأمن القومي للدول الكبرى – مثل النزاعات الاستراتيجية أو ملفات الطاقة الحساسة أو التوازنات العسكرية – تفقد المنظمة قدرتها على الفعل المباشر. ويبدأ دورها في التراجع إلى مستوى الرمزية، عبر إصدار تقارير أو دعوات للتهدئة أو توصيات لا تتجاوز تأثيرها السياسي المحدود. هذه اللحظات تكشف هشاشة البناء الدولي، وتعيد التأكيد أن المنظمات لا تعمل بمعزل عن القوى التي أنشأتها.

ورغم هذه الحدود، فإن تأثير المنظمات الدولية على المدى الطويل يبقى واضحاً. فهي تضع المعايير وتنتج القواعد، وتتابع التزام الدول بها، وتخلق أرشيفاً دولياً للأفعال والممارسات. هذا الأرشيف يصبح لاحقاً مرجعاً تعتمد عليه الدول والمنظمات الحقوقية والإعلام والرأي العام. ومع مرور الوقت، تتغير لغة السياسة الدولية نتيجة لتراكم هذه المعايير، فتتحول بعض السلوكيات إلى ممارسات مرفوضة دولياً مهما كانت مقبولة قبل عقود.

وعند تقييم موقع المنظمات الدولية اليوم، يتضح أنها ليست دولة، وليست جيشاً، لكنها ليست واجهة شكلية خالية من التأثير. فاعليتها تختلف من أزمة إلى أخرى، ومن ملف إلى آخر. وقدرتها ترتفع عندما لا يتعارض تدخلها مع مصالح الدول الكبرى، وتضعف عندما تدخل في صلب الصراعات الكبرى. ومع ذلك، تظل جزءاً لا يمكن تجاهله في النظام الدولي. فهي الجهة التي تصوغ لغة النقاش العالمي وتوفر المنصة التي تواجه فيها الدول بعضها وتسوّي خلافاتها أو تدير صراعاتها.

ولا يمكن فهم العلاقات الدولية الحديثة دون إدراك هذا الدور المزدوج: المنظمة ليست سلطة فوق الدول، لكنها ليست أداة صامتة أيضاً. إنها عنصر يشارك في تشكيل القرارات والسياسات عبر الشرعية والقواعد والضغط الأخلاقي والمعرفي والاقتصادي. تأثيرها حقيقي لكنه مشروط. ثابت لكنه مرتبط دوماً بتوازنات القوة.

وبهذا المعنى يمكن القول إن المنظمات الدولية فاعل مؤثر، لكنه فاعل يعتمد تأثيره على الظروف السياسية، وعلى مدى استعداد الدول للتعاون، وعلى موقع الملف في خريطة مصالح القوى الكبرى. تأثيرها ليس مطلقاً ولا غائباً، بل يمتد بقدر ما تسمح به البيئة الدولية، ويتراجع حين تصطدم شرعيتها بالحدود التي ترسمها القوة الصلبة للدول. ومع بقاء النظام العالمي في حالة تحول مستمر، يظل دور هذه المنظمات محورياً في تفسير شكل العلاقات الدولية اليوم وفي استشراف ما يمكن أن تبدو عليه في المستقبل.