نسيم الديني تكتب لـ(اليوم الثامن):
الجنوب يعيد رسم خرائطه: ماذا يعني سقوط مراكز النفوذ في حضرموت والمهرة
أقبلت إلى حضرموت والمهرة لحظة صائبة ومركبة في آن واحد: ليست فقط ساعة تراجع لِلمنظومات التي اعتادت على صناعة الفوضى، بل كذلك لحظة إعادة تشكيل سياسي وجغرافي تتضمن قرارات ومسارات ستحدد ملامح الجنوب لعقود. ما يحدث هناك يُقرأ بأكثر من طبقة؛ فهناك مستوى ميداني يخص سرعة وضبط قوة على الأرض، ومستوى مجتمعي يعيد تقييم مفهوم الهوية والشرعية، ومستوى إقليمي ودولي يعيد ترتيب أولوياته الأمنية والاقتصادية. قراءة متأنية لهذه اللحظة لا تسمح بتبسيط الحدث إلى مجرد نجاح عسكري أو فشل أمني، بل تكشف عن تلاقٍ بين إرادة محلية متجددة ومصالح إقليمية دفعت نحو إدارة أكثر عقلانية للأزمة.
إن انهيار منظومات النفوذ التقليدية في حضرموت والمهرة ليس ظرفًا فوريًا بقدر ما هو نتيجة تراكمية لسياسات عقود: سياسات أضعفت مؤسسات الدولة، وسمحت لاقتصاديات الظل بالتمدد، وللعشائر والميليشيات بأن تملأ فراغًا مؤسسياً. مع ذلك، ما يميز هذه المرحلة هو أن الفراغ نفسه تحوّل من عامل تمكين إلى عامل ضعف لتلك المنظومات؛ فقد برهنت التجارب الأخيرة أن السرديات التي بنت شرعيتها على الطائفية أو العصبية أو المصلحة الذاتية لم تعد قادرة على تقديم بديل مقنع أمام تطلعات السكان للاستقرار والخدمات والعدالة. بهذا المعنى، ما نراه ليس فقط «هزيمة» لأطراف بعينها، بل «نهاية مشروع» — مشروع احتكر العائدات والأمن والقرار، وراعى بقاء شبكة مصالح أكثر من خدمة المجتمع.
الانتقال الآن إلى إدارة أكثر مؤسسية ليس تلقائيًا ولا خالٍ من مخاطر؛ فبناء دولة أو حتى منظومة حكم مستقرة يتطلب أدوات أكثر من السيطرة العسكرية: يحتاج إلى مشروع سياسي قادر على تضمين مختلف الفواعل المحلية، وإلى خطة اقتصادية تعالج أثر عقود من التهميش والفساد، وإلى ضمانات أمنية تريح الشركاء الإقليميين والدوليين. هنا تظهر أهمية قدرة الفاعلين الجنوبيين على تقديم نموذج عملي للحوكمة؛ ليس نموذجًا نقيًا بلا أخطاء، بل نموذجًا مرنًا في آلياته وقادرًا على استيعاب مطالب القبائل والطبقات الوسطى والشباب وأهل التجارة. إن تحوّل الجنوب إلى شريك دولي قابل للاعتماد لا يعتمد فقط على قابليته لحماية الممرات البحرية، بل على مدى تحوله إلى مساحة حكم تُنتج سياسات واضحة للتنمية والشفافية.
العامل الإقليمي يلعب دورًا مزدوجًا: من جهة، هناك دول لديها مصلحة مباشرة في أمن الملاحة والطاقة واستقرار الحدود البحرية، ومن جهة أخرى هناك قوى إقليمية ترى الفرص في دعم مشاريع نفوذ تقليدية. هذا التداخل يجعل من الجنوب مساحة تفاوضية ذات ثقل؛ فإذا أدرك اللاعبون الدوليون أن استقرار الجنوب يخدم مصالحهم التجارية والأمنية، فستتغير نبرة الدعم من مجرد تأييد رمزي إلى شراكات مؤسسية. لكن التحوّل في طبيعة الدعم الخارجي لن يكون مجانيًا: سيتطلب الجنوب قدرة على تقديم ضمانات واضحة تفصل بين قدرته الدفاعية عن مصالح المنطقة وامتناعه عن أن يصبح قاعدة لسياسات إقليمية مضطربة.
النقاش حول «استعادة دولة الجنوب» ليس نقاشًا تاريخيًا محضًا بل هو عملية تتداخل فيها الذاكرة الجماعية مع الحسابات الواقعية. في الداخل، رغبة إعادة صياغة الدولة ترتبط برغبة استعادة الكرامة والخدمات والقرار المحلي. في الخارج، ترتبط هذه الرغبة بمدى قبول اللاعبين الدوليين بخيار فصل جغرافي–سياسي قد يوفر حلًا عمليًا لمعضلة اليمن الكبرى. لكن ثمة خطر: تحويل الطموح السياسي إلى مشروع فعّال يتطلب رؤية اقتصادية متجانسة—إدارة للموانئ والنفط والموارد المائية والبشرية—تتفادى إعادة إنتاج أشكال جديدة من الاحتكار والفساد. وإلا، فإن التحوّل السياسي قد يظل صيغته الخارجية ناجزة بينما تبقى الديناميات الداخلية محفوفة بالمخاطر.
من زاوية اجتماعية، ما يجري يمثل اختبارًا لمفهوم الوحدة المجتمعية. اختبارات الولاء والهويات المحلية ستستمر، لكن ما يسرّع من وتيرة الدمج هو النمط الإداري والأمني الذي يتبنّاه القادة الجدد: إن كانوا قادرين على تقديم عدالة انتقالية عملية—لا بمعنى محاكمات طويلة، بل بسياسات تأمين سريعة وإصلاحات إدارية فعّالة—سيتحول التلاقي الشعبي إلى قاعدة متينة للحكم. أما إن تم التعامل مع المتوقعين على الأرض باعتبارهم أهدافًا يجب إقصاؤها، فستولد حالة من الاحتقان تُعقّد أي مشروع مؤسسي.
المشهد الاقتصادي لا يمكن تجاهله: حضرموت والمهرة تمثلان مفاتيح لاستثمارات استراتيجية—من الطاقة إلى الموانئ إلى السياحة الممكنة. إن أي مشروع دولة جنوبية مستقبلية لن ينجح ما لم يُترجم الاستقرار إلى قدرة جذب استثمارات حقيقية، وإلا ستبقى الاقتصاديات المحلية رهينة لاقتصاد الظل والتهريب. لذلك، السؤال المطروح عمليًا: هل ثمة خطة اقتصادية انتقالية تُزِن بين فوائد جذب رأس المال الخارجي وضرورة حماية المصالح المحلية؟ الإجابة لا تُبنى على حدود عسكرية فحسب، بل على شفافية في إدارة العائدات ومشاريع تنموية ملموسة.
أخيرًا، تتطلب قراءة منصفة لهذه اللحظة أن نبتعد عن التصعيد الرومانسي أو التهويل الكارثي. ما يحدث في حضرموت والمهرة هو فرصة نادرة لإعادة ترتيب المشهد السياسي الجنوبي على قواعد أكثر استدامة، لكنه أيضًا اختبار لمدى استعداد النخب المحلية والإقليمية والعالمية لالتزام طويل الأمد تجاه مشروع حكم يتجاوز المصالح الضيقة. إذا ما توافرت تلك الإرادة، فستكون هذه اللحظة بداية لمرحلة انتقالية حقيقية؛ وإلا فستبقى سلسلة من الانتصارات الميدانية غير مكتملة العِماد، معرضة للتقلبات في أي منعطف إقليمي أو اقتصادي.


