قصة قصيرة..
كرسي قديم
داخل تاكسي مهترىء كمقعد جارتنا التي ترفض التخلص منه لأسباب خاصة جدًا لأنه من ريحة الحبايب – حسب قولها قطعتُ رحلتي في العاصمة عدن مستمتعة من التواهي لخور مكسر ثم كريتر.
لجارتنا هذه دومًا أقول : (المجد لكِ يا جارة يا سلطانة الحارة ) في حين تتنازعها نسوة ذات الحارة بمحاولاتِ إقناعِ مستمرة للتخلص من هذا الكرسي القديم والذي يُضفي على منزلها مسحة غير جميلة حسب قولهن . في حين أبقى الصوت الوحيد ضمن هذه الشلة التي تحرّضها على إبقائه .
سألتهن : لماذا ترفضن الأثاث القديم في البيت بالنسبة لي أعشق (الأنتيك ) والأشياء القديمة فهي تساعدني على تنظيف الذكريات كما مررت عليها , عندما أحتفظ بالأشياء القديمة كل الذكريات التي كانت تنبض بالوجع حينها تتلاشى تدريجيًا . وبينما كنتُ اتفلسف أمامهن قاطعتني إحداهن : وماذا عن الحبّ يا فتاة ؟ أنتِ تكتبين عن الحب بطريقة تثير فضولنا لماذا لا تشاركينا تلك القصص أم أنكِ لازلتِ متوجعة منها ؟؟
- لا ..أبدًا لست متوجعة ولا متعقدة منها , كانت تجارب كارثية وتجاوزتها منذ سنوات ولا أخجل مطلقًا من الكتابة أو الحديث عنها . أما بالنسبة للوجع نعم أشعر أنّ روحي متوجعة جدًا وتنزفُ بصمت ولا علاقة لتلك القصص بشيء ..ربما أوضاع البلد .
- هيّا كملي لنا الفلسفة يا حلوة .
- تعرفون أشعر الآن أنّ هذه التجارب بالضبط كهذا الكرسي الذي تنظرن إليه شزراً ..الذكريات لم تعد مؤذية لي بل سقوطها المتتابع منح روحي ولسنوات مجرى متجدد لحياة لم أكن أعرفها . الماضي أمامي الآن كهذا الكرسي أجلس عليه بمنتهى الراحة . لا بل أصبحت ذكرياته هي المتكأ والملهم الحقيقي للتقدم المستمر في الحياة .
أنّا أحب الإحتفاظ بالأشياء القديمة وخصوصًا الصغيرة منها : قصاصات ورق , صور , علب مهترئة , هدايا صغيرة , طوابع بريد ..كنتُ اعتقد في الماضي أن الأشياء الصغيرة خفيفة ستحميني من ألم ومشاق حملها لكني اكتشفت في فترة لاحقة من ذلك الماضي أن تلك الأشياء الصغيرة تنبضُ بذكريات ثقيلة جدًا خنقتني لسنوات ..أما الآن انظر إليها بحبٍ واحترامِ شديدين .
إنني افخر بأني امرأة لي طريقتي الخاصة في الاحترام لكل الناس و الأشياء حولي التي أحببتها زمنًا أو التي لازلت أحبها . إحترام لا متناهي يصل في أحايينٍ كثيرة حد التقديس .
- لكنّ الذي يتمسك بالماضي بطريقتك هذه لن يكون له حاضر ولا مستقبل ؟
- بالعكس أجدُ أنّ طريقتي كالبهلوان حين يتأرجح على تلك الحبال في السيرك بمحض إرادته وإنّ عرّض حياته للخطر , ذلك التأرجح الذي نراقبه نحن بخوف وقلق مضطربين يجد هو فيه سعادته ..أشعر أنني في حياتي وصلت لمرحلة ( البهلوان) .
إننّي أتأرجح الآن على حبال الحياة بمنتهى الحرية . اقفز فوق ذكريات الماضي والحاضر لأحط على أحلام المستقبل بأريحية واستقرار نفسي وسلام داخلي لا يستمتع به سواي .
جارتنا الطيبة هذه احترمها وبشدة لأنها تحتفظ بأشيائها القديمة لكن بتحكمٍ كبير منها ..هي قوية طبعًا ..كل امرأة تصنع من الماضي مجرى متجدد لنهر ٍ يسقي ورودها فتزهر هي امرأة قوية ..لا بل كل امرأة هي قوية مهما كانت ظروفها وقيودها .
- ممكن أ طلب منكن شيئًا ؟
- أكيد شيمو ..تفضلي
( جارتنا في المطبخ تعد الشاي لنا )
- لا تمازحوها مجددًا بأمر هذا الكرسي القديم ..اظهروا احترامًا ما لذكرياتها هذه ..اتفقنا ؟
- ايوه .. فهمنا .
وأنا أتكأ على زجاج نافذة ذلك التاكسي القديم تذكرت ما دار بيني وبين نسوة الحارة لم يقضُ مضجع هذه الذكرى سوى صراخ من المقعد الخلفي , طفلان يتعاركان كلاهما يريدان الجلوس بجانب النافذة , ابتسمت مجددًا وحملتُ أحدهما للجلوس فوقي لأضع حدًا لهذا الإزعاج .
بالطبع عندما أكون في أي وسيلة مواصلات أفضل الجلوس بجانب النافذة الأمر ليس فقط في الباص أو التاكسي حتى على متن الطائرة , آخر مرة سافرت فيها كانت في العام 2014 . لم يكن مقعدي بجانب النافذة مما أزعجني ذلك وبشدة فقمت وجلست على المقعد المجاور وكان لإحداهن والتي وبدورها انزعجت ايضًا فقلت لها : مستحيل أن نقضي الرحلة بهذا الانزعاج والإنزعاج المتبادل من أجل كرسي , صحيح ؟
- نعم , صحيح ..
- سنتقايض إذن ؟ المقعد هذا مقابل هذه الشوكولا . ماركة لن تجدي مثلها في اليمن .
- موافقة جدًا ..أشكرك.
- ( بعد ربع ساعة من الإقلاع ) هل ممكن أشاركك إياها , لنتشارك معًا الوزن الزائد ..
- ههههههه بالطبع , تفضلي .
تذكرت وأنا أتناول الشوكولا مع صديقتي كيف مرت نزهات أيام الطفولة وكيف كان عراكي مع أخي الصغير علي كرسي النافذة في سيارتنا يحرمنا الخروج للتنزه لأسابيع عقابًا لنا .
حطّت صورة كرسي الطفولة متحدة مع صورة كرسي الطائرة فتلاحمت مع كرسي جارتنا وأنا بقيت أمام كل هذه الصور مشدوهة للبعيد أحدّق في بحر جولدمور وأسمع آهات الناس التي تحملها إليّ الأمواج , أرددُ في سري : كم تحتاج عدن لكرسي مريح بعد كل سنوات التعب , كم تبدو لي هذه المدينة حزينة , مسلوبة الحياة والراحة . فجأة ونحن نعبر النفق الشهير في التواهي يضع السائق العجوز تسجيلاً قديماً .كانت الأغنية الشهيرة لملك الراي الشاب خالد ( ديدي واه ديدي) , أغنية طفولتي المفضلة .
أطلقتُ ضحكة مكتومة في الأعماق ..وقلت لسائق التاكسي :
تصدق ياعم قصة البلاد من يوم هذا النفق مثل قصتي مع أغنية ( ديدي واه ديدي ) !
- هههههه كيف لم أفهم , كيف ؟
- قضيت طفولتي كلها أسمعها وأرقص عليها وأنا مؤمنة أنها أغنية باللغة انجليزية وحين تعلمت الانجليزية حسبتها فرنسية , وحين تعلمت الفرنسية قلت لا بالتأكيد كلماتها امازيغية وقضيتُ عشرين عامًا من عمري مقتنعة بهذه الفكرة , لكنك لا تعلم مالذي حدث بعد حوالي عشرون عامًا من الإستماع لهذه الأغنية ؟
- ماذا حدث ؟
- اكتشفتُ في عيد الفطر الماضي أن كلماتها عربية , كنتُ اقلّب قنوات التلفاز فاستوقفني برنامج فني استضاف الشاب خالد وتحدث مطولا عن ( ديدي واه) واكتشف أنّ كلماتها عربية . لم أصدق ذلك فهرعت نحو ( جوجل) وعثرت على الكلمات وتألمت جدًا على تلك القناعات المسبقة التي نضعها لأشياء معينة في حياتنا ونخوضها دون أدنى جهدٍ منا للبحث و الإكتشاف .
- لكنّ يا ابنتي لم أفهم ما تعني ديدي وااه ديدي ؟
- ربما تعني مثل كلمة ( واااااعصيد ) يعني مثل وضع بلادنا , اسمع يا عم لالا ..لا تقتنع بكلامي هذا سأبحث عن معناها الحقيقي وسأعود إليك مرة أخرى .
- اتفقنا ..سأنتظرك , لكنك لم تخبريني بعد إلى أين وجهتك الآن ؟
- لقد تجاوزتُ المكان الذي كنت أريده ..هل يمكنك أن تُعيدني لكريتر ؟
- أكيد طبعًا ..إلى أين بالضبط ؟
- محل أثاث هناك أبحث عن شيء قديم أنتيك لأشتريه.. شيء لا ينتمي لذكرياتي ..ربما لذكريات شخص آخر لا أعرفه ..!
- شيء قديم , مثل ماذا ؟
- امممم لا أدري ..كرسي ربما ..!