أكد الخبراء المشاركون في المؤتمر الدولي “الحفاظ على التراث الثقافي المهدد بالخطر” الذي اختتمت أعماله في أبوظبي أن 13 ألف موقع أثري قد تعرضت إلى الإتلاف والدمار جراء الصراعات المسلحة من بينها 850 اعتداء خلال العام الماضي نتيجة العمليات العسكرية المسلحة والهجمات المتعمدة التي شنتها المجموعات الإرهابية.
وأضافوا، أن أكثر المواقع التي تعرضت إلى أعمال التدمير هي مواقع تابعة للتراث الإسلامي من بينها مساجد وأضرحة ومقامات.
وشددوا على أهمية التحرك السريع لتنفيذ عمليات حصر المواقع المدمرة والبدء بإجراء الترميم، مشيرين إلى أنه أمر لا يستعيد فقط الكنوز التراثية التي تم إتلافها، وإنما يسهم أيضا في توحيد المجتمع حول هدف مشترك واحد يستعيد من خلاله لحمته التي فقدها خلال الصراع.
أجمع الخبراء المشاركون، على ضرورة التأهب والاستعداد وتحضير المجتمعات المحلية لحماية ووقاية مواقع التراث، وكذلك تجنيد الخبراء والمعنيين بالأمر لاستباق الكوارث وإكسابهم القدرة على تطبيق الإجراءات الفورية على الأرض، باعتبار ذلك نهجا ضروريا للخفض من تأثير الهجمات وأعمال التخريب المتعمد للمواقع الثقافية التراثية.
وأكدوا على ضرورة وجود عمليات توثيقية عبر مستندات مفصلة تسهم في مساعدة الخبراء خلال إجراء عمليات الترميم وإعادة التأهيل للمواقع الأثرية في مدن مثل، تدمر السورية التي تعرضت كنوزها إلى دمار كبير، حيث تعتبر عمليات الأرشفة الإلكترونية اليوم أمرا ضروريا وإجراء وقائيا وليست رفاهية، إلا أن إمكانيات الدول العربية في هذا المجال لا تزال محدودة وتحتاج إلى تطوير، كما أن وجود أرشيف منظم للممتلكات الأثرية والتراثية يساعد على إثبات الملكية الفكرية والقانونية للدول والثقافات.
850 اعتداء على المعالم الأثرية خلال العام الماضي نتيجة العمليات العسكرية المسلحة والهجمات المتعمدة التي تشنها المجموعات الإرهابية
وأشار المشاركون إلى أهمية وجود عملية ربط قوية بين الاستراتيجيات وإجراءات الاستعداد مع توافر شبكة من الخبراء على أرض الواقع يقومون بتطبيق تلك الاستراتيجية الشاملة.
واستعرضوا عددا من الأمثلة والتجارب الوقائية التي حققت نجاحات كبيرة في مجال الحفاظ على التراث الثقافي ومن بينها “المتحف الوطني” في بيروت الذي يحتفظ منذ عام 1937 بمقتنيات فنية منذ فترة ما قبل التاريخ وحتى القرن الثامن عشر وقد تعرضت إلى دمار كبير خلال فترة الحرب الأهلية عام 1975.
وتمكن فريق المتحف من حماية معظم تلك الكنوز بأساليب متنوعة ومختلفة ضمنت حماية المقتنيات القابلة للنقل والأخرى كبيرة الحجم من خلال بناء أسوار أسمنتية قوية حولها لحمايتها خلال الصراعات المسلحة، كما نجح الفريق في إنقاذ وترميم العديد من المقتنيات الهشة ومن بينها أعمال زجاجية وفسيفساء وتماثيل.
وذكرت وكالة الأنباء الإماراتية (وام) أن الخبراء المشاركين في المؤتمر شددوا على ضرورة الارتقاء بالوعي المجتمعي وتعريف عامة الناس بأهمية الكنوز التراثية والمعالم الثقافية التي يمتلكها المجتمع، ففي ظل وجود وعي مجتمعي تكون عمليات التدخل أسهل وأكثر مرونة، لهذا يتوجب توفير آليات لتعليم المجتمعات المحلية بقيمة وأهمية كنوزهم التراثية.
وأكدوا على أهمية الإجراءات الطارئة والواجب اتخاذها لإجراء عمليات تدخل عاجلة بهدف حماية المواقع التراثية.
وأجمع المتحدثون على أن أول من يقع ضحية للحروب بعد الإنسان هي الثقافة، فالصراعات المسلحة تلقي بظلال ثقيلة على المجتمعات وموروثاتها الثقافية والاجتماعية، وكذلك تشكل ضغطا على المجتمع الدولي بما يفرض عليه التحرك عاجلا لإنقاذ التراث الإنساني أينما وجد.
وهنا يأتي دور المؤسسات الثقافية كالمتاحف التي تلعب دورا كبيرا في تحريك القدرات المحلية وتفعيل دور الكوادر الوطنية للمساعدة على حماية وصون التراث.
وأشاروا إلى أهمية وجود دعم مالي قوي لمثل هذه الأنشطة حتى تتمكن المؤسسات المعنية من التحرك ضمن فرق عمل لحماية المواقع الأثرية ومواجهة الأفعـال التخريبية وسرقة الآثار والاتجار بهــا بشكل غير مشروع.
ويمكن الاستعانة بالمؤسسات الحكومية وتدريب قواتها المسلحة على تفادي الهجوم على مجسدات التراث، وكذلك الحفاظ عليها من عمليات السطو وبيعها في السوق السوداء وهو النشاط الذي يدرّ دخلا كبيرا على المنظمات الإرهابية بما يسهل عليها الاستمرار في أنشطتها.
وشددوا على ضرورة استفادة المتاحف والخبراء من وسائل الإعلام أيضا لمواجهة إعلام الإرهابيين الذي ينشر الخوف، ولتحفيز المجتمعات على المشاركة في جهود الترميم وحماية التراث، وقد ساعد تفعيل دور المجتمع الذي ساهم في جهود ترميم مدينة تدمر على استعادة اللحمة المجتمعية وزرع بذور الأمل في سوريا، وليس ذلك فحسب وإنما حفز أيضا على بذل المزيد من الجهد لحفظ التراث.
وقالوا، إنه يمكن للمؤسسات الدولية مراقبة المواقع التراثية خلال فترات الصراع وتأسيس أرشيف لتوثيقها تحسبا لوقوعها في مرمى نيران الصراعات المسلحة وهو إجراء يساعد على تنفيذ عمليات مرحلة ما بعد الصراع.
وأضافوا، أنه يمكن للمؤسسات أن تنشئ منظومات ممنهجة لتدوين العنف ضد التراث الثقافي بما يسمح للحكومات والمجتمع الدولي التعامل مع تلك الجهود وفهم إجراءاتها، إضافة إلى استخدام التقنيات الحديثة مثل الطائرات من دون طيار لتقوم بإجراء المسوحات والتصوير ورسم الخرائط بالأبعاد الثلاثة بما يساعد على الذهاب إلى المناطق التي يتم تطهيرها من العناصر الإرهابية وتقييم الوضع والتخطيط للمستقبل.
الحفاظ على الآثار ضرورة حضارية
برامج تدريبية
لفت الخبراء إلى إمكانية إنشاء المنظمات الدولية، مثل منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)، مجموعة من الإرشادات والبرامج التدريبية للأفراد العسكريين، التي من شأنها أن تساعد في التعامل مع المواقع الثقافية وذلك لصعوبة العمل في ظل ظروف الصراعات المسلحة، ولهذا يعتبر التعاون مع القوات المسلحة وتشجيعهم على احترام المكانة الثقافية والقيمة التراثية لتلك المواقع قدر الإمكان.
واستعرضوا عددا من الأمثلة على أهمية تفعيل قدرات المجتمع المحلي، أبرزها الحالة في مالي حيث تم تحفيز الجهود المحلية على إعادة بناء المعالم الإسلامية التراثية التي تهدمت خلال فترات الصراع، وقد تم تدريب كوادر محلية من مختلف الأطراف، في وضعية تجمعت فيها كل الجهود لاستعادة التراث بفضل التماسك المجتمعي.
وقالوا، إن الجهود المبذولة لاستعادة التراث وترميمه تعتبر ضرورة مجتمعية وليست ترفا يخص المعنيين بالأمر فقط كما تبادر إلى الظن، بل إن البشرية تستعيد بواسطتها أيضا جزءا مهددا بالاندثار من ثقافتها وتاريخها المتنوع.
وأوضحوا أنه أمر يستوجب وجود موارد مالية كافية وكوادر مؤهلة ومساندة رسمية وشعبية حيث يتوجب على المؤسسات المعنية العمل مع أعضاء المجتمع المحلي والاستعانة بالخبرات والمواد المحلية لإعادة بناء وترميم ما تهدم أو تعرض للتلف.
ولا تزال هناك العديد من المواقع التراثية حول العالم تنتظر الدعم المالي لاستعادة تراثها على سبيل المثال لا الحصر المواقع التراثية في نقوسيا بقبرص وكوسوفو في جمهورية البوسنة والهرسك.
شراكة بين القطاعين العام والخاص
أكد الخبراء على أهمية تأسيس صندوق عالمي لتمويل جهود حماية التراث والاستفادة من قدراته سريعا للتدخل الفاعل في المواقع التراثية المهددة بالخطر لتمويل جهود مشاريع الترميم فضلا عن تدريب وتعليم الكوادر المحلية في المناطق ذات الصلة، وأهمية تحقيق الهدف في جمع 100 مليون دولار بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، حيث تلعب اليونسكو دورا أساسيا في الإشراف على إدارة الصندوق كما تقدم مؤسسات خاصة مثل إيكوموس وإيكروم والدرع الأزرق المشورة بشأن أفضل الممارسات.
وشددوا على ضرورة الشراكة بين القطاعين العام والخاص لأنه يساعد على حشد القطاعات المختلفة معا لمجابهة سبب مشترك واحد، والتكامل بينهما حيث يقدم القطاع العام رأس المال المبدئي لبدء عملية التمويل والإطار التنظيمي والشرعية الاجتماعية والزخم السياسي.
متحف بيروت يحتفظ منذ عام 1937 بمقتنيات فنية منذ فترة ما قبل التاريخ، وقد تعرضت إلى دمار كبير خلال فترة الحرب الأهلية عام 1975
ويقدم القطاع الخاص من ناحية أخرى مقومات لتنظيم الدعم الشعبي، وهو يتمتع بمرونة لاتخاذ مخاطر أكبر في جمع الأموال والدعم ومراقبة المواقع التراثية وصونها، إضافة إلى قدرات الصندوق على تمويل مشاريع حماية وصيانة التراث.
وأشار المتحدثون إلى أهمية الصندوق من الناحية الإدارية حيث سيكون بمثابة مركز لتنسيق الجهود بين المبادرات الفاعلة حاليا وفتح قنوات الاتصال بين الخبراء وتوجيه الجهود نحو المسار الصحيح.
ويكون الصندوق أداة فعالة في رصد الأولويات والقيام بالأبحاث والدراسات وتفعيل دور المجتمع المحلي المدني وتفادي تكرار الجهود ووضع التدابير الوقائية والمستدامة.
وأكد الخبراء المشاركون على أهمية تأسيس شبكة من الملاذات الآمنة داخل البلدان التي تتعرض معالمها التراثية إلى الخطر أو توفير القدرات للمؤسسات الثقافية والمتاحف في الدول الأخرى لتكون ملاذات آمنة كخيار أخير تفرضه الظروف وبناء على طلب من الدولة المالكة للتراث المهدد بالخطر، وكذلك أهمية أن تخضع تلك الملاذات الآمنة إلى إطار قانوني، يضمن عودة القطع الأثرية الثقافية إلى موطنها الأصلي بعد نهاية الأزمة.
وسلطوا الضوء على الأدوار المكملة التي يمكن للمؤسسات الدولية أن تلعبها لحماية ووقاية المواقع التراثية، وضربوا أمثلة على الجهود التي قامت بها المؤسسات المعنية والهادفة إلى حماية التراث، المركز الدولي لدراسة صون وترميم الممتلكات الثقافية “إيكروم”، الذي يعمل على إيجاد نظام مستدام للتخزين والمناولة.
وشددوا على وضع إرشادات حول الأمور القانونية ومساعدة المتاحف على تطبيق وحفظ البرامج المرتبطة بالأعمال الإنسانية، ووضع تقارير التحليل وتقدير الأضرار وأساليب إخلاء المواقع المهددة وتدريب فرق للإنقاذ على سرعة إعداد مستندات التوثيق للحصول على سجل يمكن الاعتماد عليه في مرحلة الترميم وذلك من خلال ورش العمل والندوات التثقيفية وتبادل الخبرات عبر التعاون بين الدول.
وتعمل “اليونسكو” على تأسيس أطر عمل للسياسات والتشريعات القانونية لمحاسبة هؤلاء الذين يدمرون التراث الثقافي، إضافة إلى التنسيق على المستوى الإقليمي في كل من العراق وسوريا واليمن وتأسيس استراتيجية عامة والإلمام بجميع الحلول التقنية التقليدية والحديثة للحفاظ على التراث وترميمه ومراقبة مناطق الصراع بانتظام.
يعمل المجلس الدولي للمعالم والمواقع “إيكوموس”، على رفع الوعي من خلال منصات الأخبار وتنظيم دورات تعليمية ومراقبة ممارسات الاضطهاد في مواقع التراث التابعة للأقليات، إضافة إلى البحث عن الأسباب الجذرية للوضع الإنساني الذي يؤدي إلى تدمير الآثار، وإجراء دراسات شاملة حول المواقع ووضع خطط قابلة للتنفيذ، إضافة إلى تعليم وتأهيل الكوادر المحلية في المناطق المعرضة إلى الخطر، مثل نقل الدروس المستفادة من العمليات التي تعرضت لها المواقع التراثية في حلب لتطبيق إجراءات وقائية أفضل في دمشق، إضافة إلى الاعتماد على تقنيات الهواتف الجوالة لإجراء تقييم في الموقع، واستخدام تكنولوجيا البعد الثالث لتكوين النماذج الدقيقة للمقتنيات، وتدريب الموظفين على أرض الواقع لاستخدام البيانات التي تمّ جمعها للمساعدة في حفظ وإعادة تأهيل التراث وترميمه.