الأدب والفن
صندوق أرشيف..
باحثة فرنسية تدرس أرشيف اليمن المعاصر.. هذا ما قالته؟
جولييت هونفولت، مؤرخة فرنسية، وباحثة في مركز البحوث والدراسات حول العالَمين؛ العربي والإسلامي، بجامعة إيكس مرسيليا. بعد بحوثٍ في القومية العربية في سوريا ولبنان، توسّعت أعمالُها إلى اليمن منذ عام 2007، بما في ذلك التأريخ المعاصر منذ نهاية العصر العثماني، والكتابة الذاتية، ورهانات المحافظة على المحفوظات، والتعليم.
هنا حوار أجرته صحيفة lesclesdumoyenorient مع الباحثة الفرنسية جولييت هونفولت:
أنتِ مؤرخة القرن العشرين، وتعملين اليوم، منذ ما يزيد عن 10 سنوات، على اليمن. ما هي المواضيع التي تناولَتها بحوثك عن اليمن؟
-عندما وصلتُ إلى اليمن، في عام 2007، كان ذلك بمثابة أرضية جديدة بالنسبة لي، حيث كنت أعمل على القومية العربية في سوريا ولبنان، حتى ذلك الحين. لقد طوّرتُ فضولاً لليمن، وهو بلدٌ كثيراً ما استشهدَ به ممثلونَ عربٌ في القرنالعشرين، لكنْ من دون أنْ نعرف ما الذي حدث هناك. أردتُ أنْ أفهم وضعَ اليمن، بلد الأحلام الاستيهامية، في بناء المِخيالات القومية العربية.
في كل رحلاته تقريباً كان النعمان يحمل وثائقه التي ما انفك يغذيها بإضافات أخرى حتى بعد منفاه النهائي
عندما وصلتُ إلى المركز الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية (CEFAS) في صنعاء، سرعان ما وجدتُ نفسي أواجه صعوبة في الوصول إلى الأرشيفات الوطنية. لم يسمح لي الروتين الإداري بالعمل في ظروف جيدة، وبما أنّ مركز المحفوظات الوطنية لم يتم بناؤه إلا بعد إعادة توحيد اليمن، في عام 1994، لم تكن المحفوظات (الأرشيف) مصنفةً بشكل كامل. كانت المهمّة هائلةً أمام أمناء المحفوظات في المركز. وأضيف إلى ذلك أنّ بعضاً من المحفوظات قد دُمِّر خلال الثورة الجمهورية عام 1962.
من خلال العمل على الشخصيات المختلفة للحركة الإصلاحية اليمنية، في أعقاب فرانسوا بورجات، المدير السابق لـ CEFAS، انصبّ اهتمامي بسرعة على أحمد النعمان، والذي كان أوّل من عارض النظام الذي بناه الإمام يحيى، بإنشاء مدرسة في عام 1935. كان قائداً مُهمّاً جداً للمطالب الإصلاحية للإمامة، ثم كان لاعباً رئيسياً في بناء الجمهورية في اليمن. التقيتُ بأحد أبنائه، الذي وجّهني بتوصية منه نحو أحد إخوته في سويسرا، حيث تم حفظ أرشيفه، لأنه توفي في المنفى عام 1996. وفي عام 2009، وبمساعدة فرانسوا بورجات François Burgat، وجدنا سقفاً لهذه الأرشيفات، في IREMAM، في Aix-en-Provence.
في اليمن، أدركتُ أنّ هناك الكثير من المواد الأرشيفية في حوزة الناس، حيثُ من الواضح أنّ اليمنيّين قد اكتسبوا، منذ بداية الجمهورية، وربما قبل ذلك، عادةَ حفظِ كلّ ما هو مكتوب. ثم اتضحَ لي بأنّ الناس في اليمن لا يعرفون إلى أين يتّجهون لإيداع سجلاتهم. وقد صار ذلك بشكل أكثر وضوحاً عندما رأينا، في عام 2008، رجلاً يرغب في نشر مذكرات والده ، ولم يكن هناك ناشر يريد نشرها، بسبب عدمالاهتمام بالموضوع. إلا أنّ هذه المحفوظات كانت مثيرة للغاية: فهي مذكراتُ رجل كان موظفاً عند الإمام، والذي، بحكم خبرته واطلاعه، روى في مذكراته، قصّةً مختلفة عن قصة الجمهوريين الذين فازوا بثورة عام 1962.
هونفولت: انصبّ اهتمامي على النعمان الذي كان أوّل من عارض النظام الذي بناه الإمام يحيى بإنشاء مدرسة
لقد تلقّينا العديدَ من العروض الأخرى من هذا النوع. أدركنا بسرعة أنه بِصفتنا باحثين فرنسيين، كان لدينا وضعٌ متميّز لجمع هذا النوع من الأرشيف. لذلك قُمت بمشروعين، هما محفوظات أحمد محمد النعمان، ومشروع نَشْر مذكرات عبدالوهاب شعبان، الذي يُظهِر مراجعَه من خلال كتاباته، ومن الكيفية التي يبني بها فكره،والثقافة التي يندرج فيها. وينتهي مشروع النشر، مع صدورٍ متوقّعٍ خلال العام 2019، على شبكة الإنترنت، حتى يتمكن اليمنيّون من الوصول إليه.
ما هو الشكل الذي تتّبعه أبحاثُك اليوم، في أرشيف أحمد محمد النعمان (2)؟
- التصنيف والتبويب والفهرسة، ثم رقمنة هذه المحفوظات ونشرها. اليمن بلدٌ محدود الموارد، ومن الصعب العثور على تمويل لإنجاز المهمة، لكنني أعمل علىالمشروع بانتظام، كما أنني أتأمل حول الكيفية التي بُنيت بها الأرشيفات عند شخص كان بناؤه السياسي قد بُنِيَ شيئاً فشيئاً، وقد أفضى بحثي إلى معاينة انشغال حقيقي بالأرشيف عند اليمنيين منذ نهاية الإمبراطورية العثمانية.
"شغف الأرشيف" هذا في أسرة النعمان، بدأ يولد كمطالبة بالانتماء إلى الإمبراطورية العثمانية، وقد خَلَقَ في قلب العائلة، انشغالا حقيقياً. كان لأحمد النعمان مسار شديد الفوضى: ففي عام 1935، عندما كان في العشرين من العمر، أنشأ أوّل مدرسة له، بعد أنْ درس في زبيد. حاول النعمان استخدام أساليب تدريس غير التي كان قد تدرّب عليها، وأكثر انسجاماً مع العالم الحديث، لكنه ما لبث أن اصطدم بسلطة الإمام الحاكم. وهذا ما أدى به إلى قيادة عملٍ سياسي من الخارج، ولم يجد بُدّاً من اللجوء إلى المنفى، في مصر، وعدن، فيما ظل يحاول الحفاظ على حوارٍ مع الإمام وأبنائه، سيّما مع الإمام أحمد الذي خلف والدَ الإمام يحيى في عام 1948. في كل رحلاته تقريباً، كان أحمد النعمان يحمل معه وثائقه التي ما انفك يُغذّيها بإضافات أخرى، حتى بعد منفاه النهائي، بعد الثورة، أوّلا إلى بيروت، ثم جدة، قبل أن ينتقل إلى سويسرا.
صندوق أرشيف على موقع "صورة اليمن"
لذا فأنا أعمل على نوع من تاريخ الأرشيف: كيف تم بناؤه، وما هي نتيجته، وما الذي يُنتجه اجتماعياً وسياسياً: كيف أنشأ صندوقُ الوثائق، شبكاتٍ من النشطاء الملتزمين تجاه أحمد النعمان، والذين أدركوا، هُم أيضاً، أهمية هذا الصندوق المتكون من أكثر من 80000 صفحة، للمساعدة في نقله هنا وهناك. مسارُ هذهالوثيقة التي ظل قائماً ومحفوظاً ويحظى بالعناية إلى حين تشكيل مجتمع من الباحثين، مسارٌ يهمّني كثيراً. اليوم، هذا المجتمع من الباحثين موجود على الإنترنت؛ حيث إنّ معظم الباحثين غادروا اليمن بسبب الحرب المشتعلة منذ عام 2015. وهم يتواصلون عبر قائمة بريدية على الفيسبوك، "صورة اليمن"، التي يتشاركون فيها الأرشيفات، ويناقشون الوثائق.
أنت مهتمّة أيضاً بقضايا التعليم في المنطقة، ما الذي أدّى بك إلى هذا المجال من البحث؟
- كان أحمد النعمان مُدرِّساً في الأصل. وقاد جزءاً كبيراً من كفاحه الطويل من أجلالتعليم في اليمن، بدءاً من فكرة أنّ اليمن لن يستطع العثور على مكانه في العالم الحديث إذا لم يَرْقَ ويصل إلى المعرفة، وإلى التقنيات التي تسمح له بأن يكون جزءاً من هذا العالم. إلى مصر، أوفد بعثاتٍ طلابيةً يمنيّة، وفي عام 1961 أسس كلية في عدن للعرب، في ذلك الوقت الذي كانت فيه عدن تحت الحماية البريطانية. لقد كان أحمد النعمان، دائماً، مستثمِراً في قضايا التعليم هذه.
حاول النعمان استخدام أساليب تدريس أكثر انسجاماً مع العالم الحديث لكنه ما لبث أن اصطدم بسلطة الإمام الحاكم
هذه التأملات حول التعليم، تتقاطع مع عملالنشر الذي كنت أقوم به عن شيبان، الذي كان طالباً لامعاً في أيام الإمامة، في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. لقد خضع طوعاً، وعن إرادة ووعي تام، إلى هذا النظام التعليمي الخاص جداً، الذي يمرّ أوّلاً من خلال استعادة معلومات معرفية، وهي ما تشهد عليها كتابةُ مذكراته.
مسألةُ التعليم في المنطقة، ونقلُ المعارف، تبدو اليوم جدّ مُهمة، لفهم كيف وبأية أسلحة فكرية، كان يمكن للمرء، أن يأخذ مكانه في المناقشات، والجدالات السياسية التي كانت تجري في ذلك العصر.
اهتمام أكاديمي بالتعليم في العالم العربي
التعليم يستحقّ إعادة فحصه، ومراجعته ودراسته. لقد كان التعليمُ موضوعَ بحثٍ عميق، وكان له مكانٌ بارز في الستينيات والسبعينيات، وأوائل الثمانينيات، فيأوروبا والولايات المتحدة، أما في العالم العربي فكان الاهتمام قليلاً. وفي وقت لاحق، حدث نوعٌ من الإقصاء لهذا الموضوع، وهو الإقصاء الذي يُعبّر عن نُفور نحو البنيوية والكمّية، والذي كان واحداً من انحرافات الدراسات الكبرى حول التعليم، وتجاه موضوع يُنظر إليه منذ فترة طويلة، كموضوع لا يليق إلا بالنساء فقط. ومع ذلك، فإن رهانات التعليم جدّ أساسية، وهي تقع في صميم البناء الاجتماعي، بجميع أنواعه.
من خلال إعدادي، مع زميلتي كريستين موسارد، لندوةٍ حول تحديات التعليم في العالَمين العربي والإسلامي، وجدنا أنّ هناك إحياءً حقيقياً للاهتمام الأكاديمي في التاريخ، وغيره، حول مسألة التعليم في العالم العربي. وقريباً، سيتم تخصيص عددٍ خاص من مجلة d’Arabian Humanities (العلوم الإنسانية العربية)، التي أُشرف عليها شخصياً مع زميلٍ كويتي، طلال الرشود، للتعليم في شبه الجزيرة العربية في القرن العشرين.
ما هي توقعاتك؟
مناهجنا تغيّرت كثيراً، مقارنة بسبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. نحن منتبهون جداً للفاعلين، سواء كانوا معلّمين أو طلاباً. نريد أنْ نبدأ من الروايات والتجارب الفردية، لأننا أدركنا أنه كان علينا أن نكسر هذا المناخ من الأبحاث التربوية، التي تشبّعت كثيراً بكل المقاربات المعروفة حول المؤسسات، والسياسات التي تُملَى من فوق، حتى نجد المكانَ الملائم للرُّؤى النابعة من الذات الداخلية، ولِقدرة فاعلية الأفراد "ممارسي" المدرسة. منظورنا هو منظور التاريخ من الأسفل، والذي ما انفك يتطور منذ عدة سنوات، والذي أصبح في مجال التاريخ الثقافي حول العالَمين العربي والإسلامي، أمراً رئيسياً منذ حوالي عشرين عاماً. إنه نهجُ السيرةالذاتية بشكل رئيسي، والذي يعيد للموضوع، وللخبرة الفردية، مكانَهما الطبيعي.
المشروع الذي نأمل في تطويره مع كريستين موسارد، هو إعداد ورشات كتابة، في مدارس العالم العربي، وحول موضوع المدرسة. من ناحيتي، أخطط للذهاب إلى اليمن، ومقابلة الأطفال اليمنيين المُلتحقين بالكليات المصرية، حول الكيفية التي يرون بها المدرسة، وتوقعاتهم، ومكانتهم في العالم. ونحن نخطّط أيضاً لجعل الطلاب يقومون بتحقيقات مع آبائهم، أو أجدادهم، لمعرفة كيف تمّ نقل ذاكرة المدرسة إليهم، وما يتصل بها من توقعات، وما إلى ذلك.