الأدب والفن

سيدة الاستشراق..

أنا ماري شيمل.. حوار الحضارات مع أشهر مستعربة ألمانية في القرن العشرين

أيقونة الاستشراق الألماني آنا ماري شيمل

"ولأنني ومنذ طفولتي قد أحببت عالم الشرق، ولأنني  أتواصل مع المسلمين بلغاتهم ،ولأنني عشت مع أسرة مسلمة  متدينة ، فإنني  أعتقد أيضا أنني يمكنني أن أفهمهم بعض الشيء" أنا ماري شيمل

تعد أنا ماري شيمل(1922/2003) أشهر مستعربة ألمانية في القرن العشرين بالقياس إلى الكم الهائل من المؤلفات والمحاضرات حول الإسلام والتصوف خاصة، كما عرفت برحلاتها المكوكية إلى ربوع العالمين العربي والإسلامي فهي باحثة في الميدان وفي النصوص تمارس الحفر المعرفي مبتعدة عن الطرح الاستشراقي الذي أدانه إدوارد سعيد في كتابه الكبير "الاستشراق" ،محاولة الاقتراب من الإسلام من أجل الفهم  من منظور  جدلية الأنا والآخر، فمن شروط معرفة الذات التعرف على الآخر من غير استعلاء وتبخيس له ولإنتاجه المعرفي والحضاري أولم ينص كلود ليفي ستروس في "مدارات حزينة" على أن الحضارات بنيات مغلقة لا تفاضل فيما بينها؟ فهي ثراء وتنوع فلا أفضلية لحضارة البشرة البيضاء على حضارة البشرة السوداء إنما التفاضل  في الجانب العلمي مثلا أو ديناميكية الحياة السياسية بينما الثقافة معطى جغرافي وتاريخي وإثني.  فأنا ماري لا تنخرط في الطرح الذي يسلم بأفضلية الأبيض على غيره وبتفوق الحضارة الأوروبية ذات الجذر اليوناني على ما عداها وكثير من المستعربات الغربيات انخرطن في هذا الاحترام للآخر وتقديره والسعي لإنصافه  في بحوثهن مثل الألمانيتين زيغريد هونكه وأنجليكا نويفرت والإيطالية  لورا فيشيا فاغليري.

من أشهر مؤلفات أنا" أوروبا في مواجهة العالم الإسلامي" وكما يدل العنوان وهو عتبة رئيسية لفهم مضمون الكتاب فهي تشجب التهجم وسوء الفهم والإدانة من قبل المركزية الغربية التي حمل لواءها الفكري أمثال هنري لامنس وبرنارد لويس وغيرهما.

وكتابها البديع "روحي امرأة الأنوثة في الإسلام" حيث قدمت مقاربة يمكن وصفها بالثورية في مقاربة موضوع المرأة في الإسلام لا من زاوية فقهية كما اعتيد تقديمه عادة في الاقتصار على القوامة والقضايا الفقهية كأحكام الحيض والنفاس وتعدد الزوجات وغير ذلك ولكن برؤية فلسفية تنفذ إلى روح الأنوثة باعتبارها الوجه الثاني للهوية الإنسانية، أولم تكن إحدى معلمات محي الدين بن عربي امرأة ؟كما تناولت التصوف وهي  أشهر باحثة فيه  بروح الفهم والتذوق وعدم الاقتصار على البحث الاعتيادي في مسائل التصوف كما نعرفها مقتصرة على مصر والشام مثلا بل بحثت في أصوله ومشاربه في ما وراء النهرين وفي تركيا وحتى الشرق الأقصى والهند وأفغانستان وباكستان والجمهوريات الإسلامية مقدمة موسوعة بحثية في التصوف لا غنى عنها لمن يبحث في مثل هذه المواضيع وكان اهتمامها بمحمد إقبال كبيرا ومن أشهر كتبها "الأبعاد الصوفية للإسلام"  وكتاب مهم  عن جلال الدين الرومي" أنا ريح وأنت نار"  ، "المسيح ومريم في التصوف الإسلامي" ثم "الإسلام في شبه القارة الهندية" " فك شفرة الإله مقاربة ظواهرية للإسلام" وساعدها على ذلك الروح الإنسانية الباحثة عن الحق وكأن شعارها هو قول الجيلاني" نازعت الحق بالحق للحق" ،كما تميزت بالنفس  الشعري وتفتح روحها على مكامن الجمال في النصوص والزخارف الإسلامية والعمران والمساجد والفنون الإسلامية كما في الطبيعة مبتعدة عن الأحكام المسبقة  وهي الشاعرة صاحبة  ديوان "عندليب تحت الثلج المتساقط " ،"ترنيمة الناي غزليات "  والقارئة الشغوف لشيلر وهرمان هيسه وغويتيسولو وأورهان باموق والمعجبة بلوحات الرسام الألماني  أوغست  ماكه التعبيرية عن تونس  دون أن ننسى أطروحتها للدكتوراه عن "الخليفة والقاضي في مصر في   العصور الوسطى" والأستاذية "فهرست لتاريخ ابن إياس" . وساعدها على البحث الجدي والاستقصاء العميق معرفتها باللغات العربية والفارسية والأردية والتركية إضافة إلى اللغات الأوروبية  ودرست في جامعات ألمانيا وأنقرة وهارفارد  والتقت بشخصيات أدبية وسياسية وعلمية كثيرة وكانت دوما محل تبجيل واحتفاء  من قبل الملك الحسن الثاني ، والأمير الحسن بن طلال والأمير تشارلز والملكة نور الحسين وذو الفقار علي بوتو وبطرس غالي  الأمين العام للأمم المتحدة ، والرئيس الهندي ذاكر حسن  وأحمد زكي يماني وزير البترول السابق والرئيس الألماني الأسبق رومان هيرتسوغ الذي قلدها وسام جائزة السلام الألمانية واعترافا بفضلها وجدية بحوثها وانفتاحها على الثقافة الإسلامية في أواسط آسيا والجمهوريات الإسلامية سمي في لاهور بباكستان شارع باسمها في احتفالية حضرتها هي شخصيا  عام 1992، وحيثما حلت لقيت  الحفاوة والتقدير واحتشاد المستمعين للاستفادة من محاضراتها وندواتها الكبيرة  كما زارت معظم الدول العربية والإسلامية كالكويت والبحرين وسوريا والأردن والمغرب وتونس واليمن والسعودية وإيران وأفغانستان وباكستان والهند وإندونيسيا حتى توفيت في بون عام 2003 موصية بكتابة عبارة للإمام علي بن أبي طالب على شاهد قبرها بالألمانية والعربية "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا". وقد عكست هذه المقولة إيمانها العميق بالواحد المطلق وحتمية الحساب وكأن شهوات الحس تجعل المرء في نوم حتى إذا فاضت الروح واحتوى الجثة القبر استيقظ المرء على ما كان خافيا عن عينيه .

في عام 2004 صدرت سيرتها الفكرية والأكاديمية والحياتية بدرجة أقل  "الشرق والغرب حياتي الغرب شرقية" مترجمة إلى العربية  حيث ركزت على مرحلة التحصيل العلمي والفكري والأكاديمي والتصوف والرحلة العلمية والبحثية  والمحاضرات في مختلف الجامعات والمعاهد الفكرية في القارات الخمس والجامعات التي مارست التدريس بها في الثقافة الإسلامية والتصوف وهي سيرة ضخمة نسبيا تقع في 530 صفحة وكما جاء في العنوان وهو عتبة رئيسية يحيل  على الهوية المزدوجة للكاتبة الشرقية والغربية والهوية المركبة وبقدر ما هي متشظية ومتعبة بقدر ما هي ممتعة فالهوية ليست شيئا ناجزا وإنما يصنعها المرء وبعض الهويات الناجزة  المغلقة قاتلة كما كتب أمين معلوف ،إن الرحلة إلى الآخر والتعرف عليه ولو عبر النص شرط لمعرفة الأنا فليس الآخر سوى صورة لنا أو بالأحرى لما كنا سنكونه ،إن الهوية سيرورة وصيرورة معا دون أن تكتمل، إنها رحلة بلا شاطئ وتلك متعتها وإغراءاتها معا.

عرب الكتاب عبد السلام حيدر وكانت الترجمة ضمن المشروع القومي للترجمة  تحت إشراف الراحل جابر عصفور  والترجمة حملت الرقم 754 أي تم  ترجمة 753 كتابا قبل هذا مما يؤكد أهمية المشروع وكونه قوميا بالأساس  ومن الكتاب الغربيين المترجمين لوسيان غولدمان وماكس فريش ولوركا ونيرودا وراسل وإليوت وطاغور وميلان كونديرا و جلال الدين الرومي وبول فاليري ورينيه جينو وكانت رؤية المشروع الفكرية الخروج من أسر المركزية الأوروبية وهيمنة اللغتين الفرنسية والإنجليزية  بالانفتاح على اللغات الأخرى في أوروبا والعالم .وطبع الكتاب بالهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية بدعم مادي من معهد غوته الألماني .

تضمن الكتاب مقدمة للمترجم عرف فيها باقتضاب بالمؤلفة وعن أسباب اختياره لهذا الكتاب بالذات ثم جاء الكتاب في سبعة فصول  الطفولة والصبا(1922/1945)  والثاني السنوات الأولى لما بعد الحرب (1945/1952) والثالث عن العيش والتدريس في تركيا(1952/1959) والرابع مشاهد ورحلات أوروبية عارضة (1959/1967)  ثم مرحلة التدريس في أمريكا وهارفارد تحديدا  على الجانب  الآخر للأطلنطي (1967/1992) والفصل السادس عرضت فيه لرحلاتها المكوكية إلى العالم العربي والإسلامي وأما الفصل الأخير فتحدثت فيه عن مرحلة ما يسمى بالتقاعد كما عبرت  هي عن ذلك في كونها لا تعترف بالتقاعد فهي باحثة ورحالة إلى الرمق الأخير (1992/2002 ) دون أن تنسى  تقديم الشكر لكل من ساعدها في رحلاتها أو في إنجاز سيرتها الفكرية وأما الملاحق فجاءت من اختيارات الناشر الألماني فالملحق الأول لصور مختارة لطفولتها ومرحلة الدراسة ولقاءاتها بأعلام عصرها وتكريماتها والجوائز المتحصل عليها والملحق الآخر لعناوين مؤلفاتها ومقالاتها ودراساتها وبحوثها وهي من الوفرة والغنى بحيث تصيب المرء بالاندهاش لهذه الحياة الغنية بالطول والعرض معا وقد ارتأى المعرب وضع هوامش لكل فصل لشرح وتفسير بعض الغوامض والمفردات والمصطلحات وهي من صميم الثقافة الجرمانية والأوروبية عامة حتى يتأتى للقارئ الفهم العميق خاصة والكاتبة عاشت  خلال العهد النازي ثم الحرب العالمية الثانية ومرحلة الحرب الباردة وتنقلاتها بين الشرق والغرب وكانت تنأى عن المعسكر الشرقي وتنأى عن الشيوعية وهي المتصوفة المتذوقة والمؤمنة التي زادتها التجارب  الروحية غنى وخصوبة كما يشير هذا السفر الضخم.

أما اللغة الشعرية التي قدمت بها الكاتبة سيرتها الذاتية والأكاديمية فقد استهلتها بهذا المقطع الشعري لراينر ماريا ريلكه وهو يؤكد مسعاها وفلسفتها الحياتية:

أحيا حياتي في دوائر متنامية،

تنداح حول الأشياء.

ربما لن أكمل الأخيرة منها

لكني أريد المحاولة.

أدور حول الله ،حول البرج الأزلي

أدور منذ آلاف السنين،

ولا أزال لا أدري: أأنا صقر أم عاصفة

أم أغنية كبيرة؟

فهي الشاعرة كذلك والعارفة بلغات الشرق وهاوية الموسيقى بمختلف طبوعها وإيقاعاتها   وطالما فتنت بمقولة تنسب لمولانا جلال الدين الرومي (الموسيقى هي صرير فتح أبواب الجنة)  ابنة مدينة إيرفورت ووحيدة أبويها التي ترعرعت مدللة في حمى الشعر والموسيقى والفن  وجمال الطبيعة في ألمانيا وتوجهت في دراساتها العليا نحو معهد اللغات الشرقية ببرلين وهي تحت تأثير ريلكه المعجب بالشرق وفريدريش روكرت مترجم مقامات الحريري والقرآن إلى اللغة الألمانية وإليه يعزى الفضل في تعرف الألمان على أدق وأجمل ترجمة للقرآن وكان الألمان قبله يترجمون القرآن عن لغة وسطى عادة كالفرنسية أو الإنجليزية حتى جاء روكرت وترجم عن العربية مباشرة وكان علامة زمانه في العربية وعلومها  دون أن يسافر إلى بلد عربي ولعل الشهرة في الشرقيات  التي حصل عليها غوته صاحب  "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي" قد ظلمت روكرت فكسفت شمسه مع أنها أكثر سطوعا وقد وصفته شيمل بالقنطرة بين الشرق والغرب ، كما ترجم روكرت  شعر مولانا جلال الدين الرومي وكتب يوما (شعر العالم هو تسالم العالم )وقد كتبت عنه شيمل (وقد حاولت منذ فترة صباي مرة بعد أخرى أن أعرف ليس في الغرب وإنما في العالم الإسلامي أيضا بعمل هذا الوسيط الذي لا يكل بين الشرق والغرب) ولاحقا نالت جائزته عام 1965.

ولقد أدت شيمل الخدمة الإجبارية في ألمانيا ، تلك الخدمة التي كتب  عنها مارتن هايدغر عام 1934 (أول ارتباط يكون مع الجماعة الوطنية وهذا الارتباط يؤكد ويجذر في الوجود الطلابي من خلال الخدمة الإجبارية).

هكذا إذا كانت الطالبة المجدة والشغوف بالثقافة العربية والإسلامية بادئة بكتاب الخراج لأبي يوسف ومهتمة بالعصر المملوكي من خلال مؤلفات ابن تغري بردي وابن إياس مع الإعجاب إلى حد الوله بشعر وطريقة مولانا جلال الدين الرومي ، ومستحضرة في نفس الوقت محاضرات عن الإسلام لجولد تسيهر واحتكاكها  بأقطاب الاستشراق أمثال روزنتال، جوستاف فون جرونباوم  و قارئة بشغف "عذابات الحلاج"  لماسينيون  والمختارات الصغيرة  من ديوان الرومي لنيكلسون لتكشف للقارئ توجهها نحو الذوق والانفعال العاطفي والإيمان القلبي والتوتر الروحي في التطلع نحو النور الأزلي لا كما مارسه ابن عربي كثقافة ولكن كما أوصى به الرومي في الفراشة واللهب  ولخصه غوته في قوله "  مت وكن" وما عبر عنه الحلاج بقوله :

أقتلوني يــــا ثقاتي

إن في قتلي حياتي

فالصوفي يرى في الموت رحلة للالتقاء بالمحبوب بعد أن يطرح عنه رداء الدنيا إن في الفناء الوجود وفي الموت الحياة، فليس إلا النور الأزلي مطلبا  وليس إلا التطلع إليه وعشقه والشغف به  وانتظار تلك اللحظة التي تنتقل فيها الروح نافضة عنها الحجب ملقية بشغفها في حضرة محبوها كتهالك الفراش على النور كما وصف مولانا الرومي وهذا هو التصوف التي عشقته وتذوقته ومارسته ، وبهذا المعنى تفهم كمؤمنة موحدة تؤمن بالبعث والحساب لا بالمفهوم الشعائري والطقوسي الذي يختصر زخم الروح وتوترها في تفريعات فقهية وشعائرية غالبا ما يجردها المرء من مضمونها الروحي ومقصدها الأسنى .

إن أفضلية أنا شيمل هي بحثها الشامل في الإسلام نصوصا وعمرانا وفنونا ورقصا صوفيا وتخطيط مدن وجماليات مما يؤكد النظرة البانورامية للإسلام التي شكلتها من خلال القراءة والتذوق والتأمل والرحلة .

ولربما كان  الحس الصوفي هو الذي عصمها من ويلات الحرب العالمية الثانية  وآلامها وسقوط برلين وتلقي خير مقتل والدها أثناء المقاومة وابتعادها  القسري عن والدتها لتكتشف وجودها حية أخيرا وتلتقيا بعد غياب فقد أخذها الجنود الأمريكيون مع 26 امرأة أخرى إلى مركز تجميع  لتشيد بلباقة الجنود ومتعجبة فيما بعد من القسوة أثناء حرب الفيتنام  والتي كانت محل تنديد عالمي  وكان الذوق الصوفي والإيمان بالغيب عاصمها من الشيوعية فقد نأت عنها طيلة حياتها حتى ما يعرف بالكتلة الشرقية لم تحتك بها مكتفية بالغرب والعالم الإسلامي وقد مارست التعليم الجامعي بماربورغ ثم بون لتعمل في تركيا وتسمع المناداة عليها باسم " جميلة"  وفي جامعة أنقرة تنفتح على التصوف الإسلامي مع يونس أمره ولتحج إلى قونية حيث ضريح مولانا جلال الدين الرمي الذي نزح إليها هو كذلك  والتقى بشمس الدين التبريزي الذي كتب " قواعد العشق الأربعون"  تلك التي حولتها الكاتبة التركية الشهيرة إليف شافاق عام 2010 إلى رواية كبيرة ،وقد رأت البئر التي يقال أن التبريزي  قتل ورمي فيها كما رأت الرقص المولوي والدروايش بأردية الرقص البيضاء  وكان روكرت ترجم  من قبل قول الرومي عن هذا الرقص:

  من يعرف قوة الرقص الدائري يعش في الله

 ومن ثم يعرف ،كيف يميت الحب- هو الله!

ومن تركيا عادت إلى بون لتشرف على مجلة "فكر وفن" التي عرفت الألمان بروائع الشعر العربي الحديث عبر ترجماتها لقصائد السياب والملائكة والبياتي الذي كانت تعجب بأشعاره وقد كان البياتي محبا لابن عربي ومحمود درويش قبل أن تيمم شطر هارفارد أستاذة للثقافة الهندو إسلامية حيث تحدثت عن غربة الروح في المنفى الأمريكي وتعرفت على كريم آغا خان والطائفة الإسماعيلية  وأشرفت على مشروع ترجمة شعر شاعري الأردية البارزين غالب ومير وقد أريد له أن يكون مثل ترجمة فتزجيرالد لرباعيات عمر الخيام لتعود  مختتما إلى ألمانيا وتتقاعد عام 1992.

ولكنها قامت برحلات كثيرة والألمان لهم ولع بالرحلة فزارت المغرب وتونس ومصر واليمن التي أعجبت بها كثيرا وجربت القات  والسعودية حيث تحدثت في الراديو من الرياض  عن رغبتنها في زيارة قبر النبي دون أن يتحقق ذلك  والكويت والبحرين وسوريا ولبنان ومعظم الجمهوريات الإسلامية والهند وباكستان وأند ونسيا وقد كتبت عن رحلة اليمن:

وارتحلنا على الرمال المتوهجة

طيورنا خرساء.

ولكنك يا بلقيس،

أيتها الساحرة المسحورة

ضائعة في الحب

هزمت الموت بابتسامة

كما أشادت بالكرم العربي الذي لقيته حيثما حلت في بلد عربي  وطالما تذكرت قول حاتم الطائي:

أوقد فإن  الليل ليل قـــــر

والريح يا موقد ريح صـر

عسى يرى نارك من يمر

إن جلبت ضيفا فأنت حر

حياة غنية خصبة عاشتها بالطول والعرض متحملة في صبر ومقاومة مشاق الرحلة  والمحاضرات والندوات الفكرية وقد صدق الطبيب الذي قال لها مرة" إنك مثال لانتصار الروح على الجسد".

وفي ألمانيا تعرضت لمضايقات ليس أقلها من بعض الزملاء في بداية مشوارها حين تولت التدريس وبعضها تحت تأثير النظرة الذكورية  ويا للعجب في ألمانيا حتى تذكرنا  ببيت سعدي:

لا أحد تعلم فنون الرمي مني

إلا وجعلني فيما بعد هدفا له

كما تعرضت لهجمة شرسة في ألمانيا يوم أدانت رواية سلمان رشدي ووصفتها بالهجائية  وطالبت الغرب بتفهم ردة فعل العالم الإسلامي فهي تدافع عن حرية الفكر ولكن ليس حرية الهجاء والكراهية والتحقير وفي نفس الوقت ترفض القتل وقد كتبت( بالمناسبة فإن كلمة فتوى تعني ببساطة حكما قضائيا وليس حكما بالإعدام فالمسلم الورع سيطلب فتوى إذا ما كان أو كانت  أمام أو أمامها  عملية صعبة العواقب ،أو لديه  سؤال عن الطهارة أو عن أشياء أخرى،  فإذا ما كانت الفتوى تطلب إعداما، فإنه ينبغي أن  تدرس الحالة أولا  أمام محكمة المدنية) وقد تعرضت بسبب حديثها في الإذاعة إلى السب والشتم دون أن يستمع إليها بالكلية وفسرت الجمل خارج سياقها، ناهيك عن النقد الموجه لها كونها ترى الإسلام بمنظار الرومانسية وحتى في الشرق يوجه لها هذا النقد القاسي من قبل بعض التوجهات اليسارية أو الحداثية.

بين هذه الصفحات الكثيرة ينتقل القارئ بين الشرق والغرب وفي ربوع العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه ملتمسا إعجاب الكاتبة بروائع المعمار والفنون الإسلامية والمنمنمات والزخارف والمساجد والرقص الصوفي دون أن تغيب لمسة التصوف والذوق الصوفي عنها ونفحة الإيمان وهي التي ظلت تردد جملة هردر (نعرف من خلال الشعر الأزمان والأمم معرفة أعمق بالتأكيد من تلك التي تتم عن طريق تاريخ السياسة والحروب المخيبة والحزينة) وجملة القديس أوغسطين (المرء يستطيع أن يفهم شيئا ما  فقط على قدر ما يحيه).

وهي قد  اعترفت منذ البداية بأنها أحبت الشرق وثقافته واقتربت منه محبة وراغبة في الفهم فاستطاعت دون سكرتير وكمبيوتر  ودون سيارة ودون إجازة ونشاطات رياضية أن تكتب هذا العدد الضخم من المؤلفات وتقدم هذا الكم الهائل من المحاضرات والندوات الفكرية في ربوع العالم وتغدو أشهر مستعربة في القرن العشرين .

والقارئ لسيرتها كذلك يكتشف نزعة التفاؤل وهذه خصيصة صوفية فعلى الرغم من الأحداث الجسام التي نالت العالمين العربي والإسلامي بدءا  بحرب الخليج والحرب على أفغانستان التي أدانتها ومشاكل التنمية والفقر والنزاعات العرقية أو الدينية كحرب لبنان الأهلية  ثم أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلا أنها كانت متفائلة   بالعنقاء التي تنبعث من الرماد فالصوفي يقبل بالألم ويستعذبه  فالأرض يشق صدرها لتطرح فيه  البذرة  والسنبلة تحصد والعجين يعرض للنار ليكون الخبز وهكذا هي الحياة الوجود في التلاشي والوجود في الفناء ومن الألم يعرج المرء إلى النور الإلهي الأزلي.ألم يقل ماكس رويشنر (المرء يعرف فقط الناس الذين يحبهم أو يتصادق معهم  المشاعر تري أعيننا  كل شيء أكثر ثراء وأكثر تنوعا وتدرجا،إنها ترى جوهر  الآخرين في وفرته التامة وقيمته الكاملة ).

حين اقتربت من العالم النوراني كفراشة تريد أن ترتمي في اللهب لتحترق وتتحرر من قيود الجسد وتعانق المطلق ظلت  تردد ما كتب روكرت مرة:

إذا ما مت غدا،

فقد عملت ما يكفي.

وإذا ما أعطيت عشر سنين أخرى

فإن لدي من العمل ما يكفي.

وهكذا غابت في النور الأزلي عام 2003 حاضرة بنصوصها وحبها وفهمها للعالم العربي والإسلامي دون خلفية تبشيرية أو نزعة استعمارية أو عقدة استعلاء وكان الحب الإلهي ملهما فيما قامت به وهي التي كتبت مرة:

منذ أن شربنا من خمرك،

أصبحت أرواحنا ممتلئة

هكذا يشملنا حبك

دون حدود،ودون سدود

فتقبل أغنية شكر صغيرة،

 ودعنا دائما  نشكرك!

ولا يسع المرء وهو يقرأ هذه السيرة الفكرية والأكاديمية إلا أن يعجب بهذا الصبر والدأب والقوة والمعرفة العميقة والثراء في التجارب  والتفتح والمنزع الإنساني والإيمان بالمطلق  هذا الإيمان الذي منحها الطمأنينة والثقة وأفاض على جنابتها النور ومن حولها فقد كانت كثيرة بوحدتها غنية بترفعها كبيرة بتعاليها عن سفاسف الحياة المادية وإن احتوت هذا السيرة على بعض الهفوات البسيطة غير المقصودة  كنسبتها بعض أقوال الإمام علي بن أبي طاب للنبي أو تسميتها جامع الحسن الثاني في الدار البيضاء جامع محمد الخامس لكن الذي يتعجب منه القارئ المحصن  إشادتها بماسينيون لقد كتبت عنه بعد أن التقت به وقد قرأت عذابات الحلاج( لم يحدث قبل أو بعد أن التقيت إنسانا له مثل هذه الشفافية المنعشة، كأن حب الحلاج لله وشوقه للحب الإلهي وللرحمة ،وكذلك معرفته بضرورة قبول الألم قد تركز في وجهه النحيف حلو التقاسيم  وفي عيونه كذلك، ولم يكن ماسينيون الباحث العلمي للتصوف الإسلامي فقط ،وإنما كان دائما مدافعا - أيضا في الأخطار- عن المضطهدين ،على سبيل المثال الجزائريين  ). ولم يكن ماسينيون على الرغم من علو كعبه في التصوف وفي الحلاج خاصة غير مخبر فرنسي على علاقة وثيقة بالخارجية الفرنسية  وقد كتب عن ذلك مالك بن نبي في مذكرات شاهد للقرن وعبد الرحمن بدوي في موسوعة المستشرقين وغيرهما ولعلها كبوة جواد ولكل جواد كبوة.

سيرة فكرية جديرة بالقراءة وهي تشكل موسوعة في أسماء المستعربين في أوروبا وأمريكا ومؤلفاتهم والشخصيات الإسلامية الفاعلة وفي العمران والنصوص الإسلامية خاصة نصوص التصوف وهي بذلك تدعو إلى حوار الحضارات بدل صدامها لأن التنميط والتوحيد الذي تريده الهيمنة الأمريكية يقضي على التنوع والثراء كما أن ردة فعل اليمين الأوروبي تقوض دعائم التناغم داخل المجتمعات الأوروبية ذاتها وأما دعواهم بانحطاط الحضارة الإسلامية فليست سوى ردة فعل نفسية وعاهة فكرية يجدر بهم التداوي منها بالبحث الحر النزيه والروح الموضوعية ولعل أنا ماري شيمل بمقارباتها للفكر الإسلامي خير من يرد عليهم .فليرحمها الله .

الصومال: موقع استراتيجي وثروات طبيعية في قلب الصراعات الدولية


مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة: منصة لتجديد الفكر العربي واستعادة المركزية الفكرية


معركة في الدوري الإنجليزي: غوارديولا أمام اختبار البقاء وتوتنهام لرد الاعتبار


دراسة أمريكية تسلط الضوء على العلاقة بين الأمراض النسائية والموت المبكر