تطورات اقليمية
عندما يصبح الطعام حكماً سياسيًا..
التجويع الممنهج في إيران: سياسة لإخماد الانتفاضة أم فشل اقتصادي؟
طوابير الجوع: صور من الحياة اليومية في طهران
لم تعد الأرقام والبيانات الإحصائية قادرة على وصف حجم الكارثة المعيشية التي يعيشها الشعب الإيراني؛ فالحديث عن معدلات التضخم التي تحطم أرقاماً قياسية جديدة كل شهر لم يعد مجرد نقاش اقتصادي نخبوي بل أصبح واقعاً مريراً يصفع وجوه الملايين يومياً، ويدفع بمجتمع عريق نحو حافة انفجار وشيك.. إنها قنبلة موقوتة زرعها نظام الملالي عبر عقود من الفساد الممنهج وسوء الإدارة وتبديد الثروات على مشاريع التوسع الطائفي وبرامجه العسكرية وباتت تهدد اليوم أسس وجوده ذاتها.
وفقاً لأحدث البيانات بلغ معدل التضخم السنوي في إيران خلال شهر أكتوبر 2025 نحو 38.9 بالمئة بينما قفز معدل التضخم النقطي الذي يقارن الأسعار بالشهر نفسه من العام الماضي إلى 48.6 بالمئة.. أما الكارثة الحقيقية فتتجلى في أسعار المواد الغذائية التي سجل تضخمها السنوي نسبة مرعبة بلغت 64.2 بالمئة؛ هذه الأرقام على فداحتها لا تعكس الصورة الكاملة فالواقع في الأسواق الإيرانية أشد قتامة.. التقارير الرسمية الصادرة عن مركز الإحصاء الإيراني غالباً ما تكون مضللة وتهدف إلى التخفيف من هول الأزمة؛ فعلى سبيل المثال بينما تشير البيانات الحكومية إلى أن سعر لحم الضأن ارتفع بنسبة 27 بالمئة خلال عام تكشف بيانات السوق الفعلية عن زيادة بنسبة 81 بالمئة، وبالمثل قفز سعر الأرز المستورد بنسبة 170 بالمئة وليس 22 بالمئة كما تزعم الحكومة.
وفق أحد مخططات نظام الملالي تحول تأمين أبسط متطلبات الحياة إلى صراع يومي للإنسان الإيراني.. فالمائدة التي كانت تجمع الأسرة تتقلص يوماً بعد يوم حيث أصبحت سلع أساسية كاللحوم ومنتجات الألبان والبيض ترفاً بعيد المنال عن غالبية المواطنين، ووفقاً لهذا السياق تشير تقارير ميدانية إلى أن سعر عبوة اللبن الزبادي ارتفع بنسبة 129% خلال عام واحد فقط بينما قفز سعر الدجاج بنسبة 70%.. هذا الانهيار في القدرة الشرائية لم يقتصر على الغذاء بل امتد ليشمل كافة جوانب الحياة من تكاليف السكن التي تلتهم أكثر من نصف ميزانية الأسرة في طهران إلى أسعار الأدوية التي شهد بعضها ارتفاعات وصلت إلى خمسة أضعاف.
إن تحميل العقوبات الدولية وحدها مسؤولية هذا الانهيار الاقتصادي هو تبسيط مخل وتبرير يسوقه النظام للتغطية على جرائمه بحق شعبه.. فالسبب الجذري لهذه المأساة يكمن في البنية الفاسدة لاقتصاد تهيمن عليه المؤسسات التابعة للحرس الثوري ومكتب المرشد الأعلى.. هذا "الفساد الممنهج" كما يصفه العديد من الخبراء يحول ثروات البلاد الهائلة من النفط والغاز إلى خدمة أجندة النظام التوسعية في المنطقة وتمويل وكلائه في العراق وسوريا ولبنان واليمن بدلاً من توجيهها للتنمية وتحسين معيشة المواطنين؛ فضائح الفساد التي تظهر للعلن بين الحين والآخر والتي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات ليست سوى غيض من فيض وجبل جليد لعملية نهب منظمة لثروات أمة بأكملها.
النتيجة الحتمية لهذه السياسات الكارثية كانت التدمير شبه الكامل للطبقة الوسطى التي تعد صمام الأمان لأي مجتمع، ودفع شرائح واسعة من السكان إلى ما دون خط الفقر.، وتشير تقارير صادمة إلى أن ما يصل إلى 80% من الأسر الإيرانية تعيش تحت خط الفقر بينما تقدر مصادر أخرى أن 90% من المجتمع الإيراني يعاني من الفقر بالتزامن مع انزلاق 15% من الطبقة الوسطى سابقاً إلى صفوف الفقراء.. لقد أصبح الفقر المدقع حقيقة واقعة في شوارع المدن الإيرانية مما ينذر بعواقب اجتماعية وخيمة.
هذا الضغط الاقتصادي الذي لا يطاق هو ذاته الوقود الذي يؤجج نار الغضب الشعبي؛ فالتاريخ الحديث لإيران حافل بالانتفاضات والاحتجاجات التي اندلعت شرارتها الأولى من رحم المعاناة الاقتصادية.. احتجاجات عامي 2017 و2022 بدأت بشعارات ضد الغلاء والبطالة مثل "لا للغلاء"، لكنها سرعان ما تحولت إلى انتفاضات سياسية شاملة تهتف بسقوط رأس النظام بشعار "الموت للدكتاتور".. حيث أدرك الشعب الإيراني أن بؤسه الاقتصادي ليس قدراً محتوماً بل هو نتيجة مباشرة لطبيعة النظام الحاكم وسياساته.
في هذه المرحلة المصيرية يرتبط استعداد المجتمع بالجهوزية الكاملة للبديل الديمقراطي.. ولقد تمكنت المقاومة المنظمة بقيادة السيدة مريم رجوي بالاعتماد على استراتيجية متجذرة لـ "وحدات المقاومة داخل البلاد والدعم الواسع لـ "خطة العشر نقاط" للمستقبل من توفير جميع التجهيزات والمتطلبات اللازمة لقيادة هذا الغضب الاجتماعي نحو إسقاط النظام وإزالته من الوجود وتأسيس جمهورية ديمقراطية غير نووية.. هذا التنظيم هو الضامن كي لا تنحرف الانتفاضة التالية للشعب الإيراني عن هدفها الأصلي وتصل إلى النصر الحاسم.. نصر تصنعه إرادة الشعب بمؤازرة مسيرة وطنية نقية ومقتدرة.