دولة الاستثناء المغربي..
أطروحة فصل الديمقراطية عن السياسة
بعد خمس سنوات من الإصلاحات السياسية، بعد وصول رياح الثورات الى المغرب أفرزت دينامكية سياسية؛ تمثلت أساسًا في دستور جديد، وحكومة جديدة، ذات صلاحيات واسعة، بقيادة حزب ذي مرجعية إسلامية لأول مرة في تاريخ المغرب، لكن دون أن يفضي ذلك إلى تغيير جذري يقطع مع ممارسات سنوات العهد القديم أو يستجيب لطموحات العهد الجديد عهد المؤسسات والديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان.
على الرغم من إعادة تصدر إسلاميي «حزب العدالة والتنمية» للانتخابات التشريعية للمرة الثانية على التوالي، وفشل نظرائهم في المنطقة، وتسييرهم لمعظم المدن الكبرى والصغرى بالمملكة، وتراجع ما يسمى بأحزاب الحركة الوطنية، وبروز الأحزاب الإدارية متمثلة أساسًا في حزبي الأصالة والمعاصرة، والتجمع الوطني للأحرار، وظهور ما يسمى بالتقاطب السياسي بعد نتائج انتخابات السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، واصطفاف باقي الأحزاب إلى هذا المعسكر او ذاك، فضلًا عن ظهور فاعل يساري يشارك لأول مرة في انتخابات قاطعها سابقًا ويقدم نفسه كبديل «خط ثالث»، وحصده نتائج مخيبة. فإننا اليوم إزاء أزمة تأخر تشكيل ائتلاف حكومي جديد قد يتم أولا يتم، ومؤسسات الدولة تسير من قبل حكومة تصريف أعمال، والبرلمان بغرفتيه معطل إلى أجل غير مسمى، كل ذلك يدفعنا لاستخلاص مجموعة المعطيات التي طبعت الفترة الماضية كان عنوانها الأبرز «كثير من السياسية قليل من الديمقراطية»، وجب أخذها على محمل الجد في السنوات المقبلة.
معاكسة الميولات الشعبية
حتى اليوم ما تزال الدولة (القصر) تتعامل بنفس المنطق الذي طبع علاقتها مع أحزاب الحركة الوطنية منذ فترة ما بعد الاستقلال، متمثلًا في انعدام الثقة، واستمرار التشنج، والتجاذب. وقد برز ذلك مؤخرًا، خاصة مع حزب العدالة والتنمية، الحزب الإسلامي «الأكثر استقلالية» ذي الامتداد الشعبي، والذي مازال يتوفر على شرعية انتخابية عجزت عنها الاحزاب المدعمة من طرف الادارة المؤتمرة بأوامرها، والمستفيدة من وسائلها في الحملات الانتخابية، و قد اتضح ذلك من خلال تشكيكه المسبق في نتائج الانتخابات، «لا يمكن أن نُستعمل في الاستقرار، ثم نرمى إلى مزبلة التاريخ»!
تصريح الكاتب الوطني لشبيبة العدالة والتنمية في إحدى المناسبات قبيل الحملة الانتخابية هذا الحزب الذي مازال في موضع تشكيك، بالرغم من تقديمه فروض الطاعة والولاء في أكثر من مناسبة، وهو الآخر مازال يشك في مدى قبول الدولة به، في هذا السياق يتم الحديث من طرف رئيس الحكومة والأمين العام لحزب العدالة و التنمية (إضافة لحلفائه، كل من: أمين عام «حزب التقدم والاشتراكية» و«حزب الاستقلال»)، عن وجود دولتين، وعن التحكم، ومقاومي الإصلاح والتماسيح والعفاريت، وهو يحاول إيهام أتباعه، ومن خلالهم الشعب المغربي، بأنه يتمثل في «حزب الأصالة والمعاصرة» متوسلًا في ذلك بقاموسه السياسي الغامض في عدم تسمية الأشياء بمسمياتها، وإن كان أكثر غرابة وغموضًا يتلاءم مع شخص زئبقي ينقلب في المواقف، وحتى المبادئ، و يلجآ منذ توليه زمام رئاسة الحكومة للغة التظلم والتشكيك والتهديد والتبرير والصمت والتجاهل أو التبرؤ في كثير من المناسبات بحجة محدودية صلاحياته، أو تفاديًا للصدام مع رئيس الدولة، وهو الذي صرح في كثير من المناسبات بأنه رئيس كل شيء (الملك)، وأنه جاء ليتعاون معه، وهو يحاول طيلة السنوات الخمس التي مضت التطبيع معه، ومحو صورة الحزب الذي ينازع الملكية الشرعية الدينية وفك التشنج والالتباس وسوء الفهم الذي طبع العلاقة مع الإسلاميين عمومًا، ومن اختاروا الانخراط في المؤسسات وفق القواعد الموجودة، وراهنوا على فرضية الإصلاح من الداخل قبل وبعد التعديلات الدستورية؛ حتى وصل به الأمر إلى تقديم تنازلات، بل التخلي عن بعض الصلاحيات الدستورية، وقبول حليف كان يتهمه بالفساد، وكان يتواجه معه انتخابيًا، لكن دون جدوى، خصوصًا ونحن نعيش أزمة تشكيل ائتلاف حكومي لأزيد من شهرين قد يقدم فيها مزيدًا من التنازلات التي قد تجعل الميول الشعبية على المحك أو موضع مساومات.
أغلبية ومعارضة ضد الدستور
من المفارقات الملفتة مغربيًا هي تأجيل إقرار «الملكية البرلمانية» من قبل الدولة وبعض الأحزاب، بل أكثر من ذلك، هناك من يقف ضد هذا المطلب الذي يجسد مدى ديمقراطية الأنظمة الملكية كما هي متعارف عليها؛ هذا الرفض الذي يضطر الحزب المتصدر للانتخابات إلى المشاركة في «الحكم» بشكل يصب حتمًا في مصلحة الملكية، وبالتالي يكون له نصيب في الإنجازات، لكن يجعله يتحمل الإخفاقات بمفرده «انتخابيًا” أمام الشعب أفقيًا وعموديًا، في السياق ذاته تنبغي الإشارة إلى أنه إذا حكمنا بفشل التجربة الحكومية الحالية، أو بالأحرى أطروحة «الإصلاح في ظل الاستقرار»، سواء فيما يخص تطبيق البرامج الحكومية وتنفيذ الوعود الانتخابية، وكذا الإجابة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية… على مطالب الشارع، فإن هذا الفشل يجب أن يتحمله، ليس فقط حزب العدالة والتنمية بالتحديد، والأحزاب المشكلة للأغلبية الحكومية، ولكن أيضًا «المؤسسة» الملكية؛ لأن المغرب ليس ملكية برلمانية كما أشرنا، (وإنما ذات طابع برلماني)، وأن التوجهات الكبرى للسياسات العمومية تتخذ من داخل المجلس الوزاري الذي يرأسه الملك بصلاحياته وسلطاته الدستورية الواسعة… إلى جانب مستشاريه بالإضافة للوزراء، دون أن يكون للبرلمان أي دور مؤثر؛ وان رئيس الحكومة هو فقط رئيس للسلطة التنظيمية، ويتقاسم السلطة التنفيذية مع الملك (او هذا ما ينص عليه الدستور على الأقل)، وهذا الأمر لم تنتبه إليه، ليست فقط أحزاب المعارضة أو الأحزاب التي تزعم أنها تعارض حزب العدالة والتنمية (او التي جاءت لمحاربة الإسلاميين)، بل حتى أحزاب الأغلبية الحكومية، حيث حزب رئيس الحكومة نفسه يجهل هذا المعطى الحاسم في هذه التجربة؛ فهو يريد أغلبية وصلاحيات تمكنه من الحكم بمفرده أو مع حلفاء يتبنون نفس المرجعية «المحافظة»، وتطبيق برنامجه؛ في الوقت الذي يرفض مطلب الملكية الذي يعتبر الطريقة الديمقراطية التي تمكنه من ذلك، بالرغم من أن «الشرعية الانتخابية» جعلت الحزب طيلة الخمس سنوات الماضية يتصرف كما لو أنه يشكل الحكومة بمفرده «حكومة العدالة والتنمية» أو حكومة «بنكيران».
هكذا، فكلا المكونين ضد منطق الدستور الذي مازال يحتفظ بـ«الملكية الدستورية” مع توسيع صلاحيات رئيس الحكومة مقارنة بدستور1996، حيث يتصرفان كما لو أن رئيس الحكومة هو الرئيس الفعلي للسلطة التنفيذية، وما تحمله هذه الصفة من صلاحيات دستورية فعلية في الدول الديمقراطية، لكن ما دمنا في إطار دولة «حكومة جلالة الملك» و«معارضة جلالة الملك» فهذا الأخير هو رئيس الدولة ورئيس الحكومة (ورئيس كل شيء في المغرب) حسب عبد الإلاه بن كيران رئيس الحكومة، لذا فإن المغرب يعيش دينامية وحراكًا سياسيًا، لكن دون وجود ديمقراطية حقيقية بعد.
مناورات مربحة
طيلة الخمس سنوات التي مضت كان تدبير العلاقة بين الدولة ورئيس الحكومة متمثلًا في الأمين العام لحزب العدالة والتنمية؛ أكثرهم هذا الأخير، وإن على حساب من منحوه أصواتهم في الانتخابات؛ مما جعله يتعامل بحذر، ولم ينجر إلى المواجهة المباشرة أو اتخاذ مواقف واضحة في كثير من القضايا، وكان يحاول ضبط النفس في التعامل مع الأزمات وإمساك العصا من الوسط؛ حتى لا يتهم بمحاولة الهيمنة؛ متوسلًا في ذلك بلغة الغموض والمظلومية والصمت أحيانًا، معتمدًا براغماتية قل نظيرها، وإن قرأ فيها البعض شكلًا من أشكال الانبطاح، كما عمل على توظيف بعض عناصر الأزمات، (أزمته الأخيرة مع رئيس «حزب التجمع الوطني للأحرار الجديد» والمتهم بـ«البلوكاج» في إطار مفاوضاته مع زعماء الأحزاب من أجل تشكيل الحكومة على سبيل المثال)، للظهور بمظهر الضحية لجلب التعاطف وتفاديًا للغضب الشعبي، وهو ما جنبه تصويتًا عقابيًا في الانتخابات الجماعية، وكذا التشريعية الأخيرة.
هكذا، فإن الحزب القائد للإتلاف الحكومي كان دائمًا يأخذ مسافة مما يقع، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، سماه البعض بـ«مهادنة التحكم»، بالرغم من أنه كان يهاجم كلما أتيح له المجال، خصوصًا في المسائل التي لها علاقة مباشرة بالنتائج الانتخابية؛ أو إذا تعرض إلى هجوم مباشر (قد يؤثر على سمعته) مع اختلاف ردود الفعل في طبيعتها وحجمها وتوقيتها. كل هذه المناورات، إلى جانب عوامل أخرى سياسية و«غير سياسية»، مكنته في الأخير من اكتساح انتخابات مجلس النواب وتعيين أمينه العام على رأس الحكومة لولاية ثانية.
حكومة بدون حصيلة
لقد خلقت أزمة تحالفات ما بعد انتخابات الرابع من أكتوبر (تشرين الأول) السنة الماضية، تصدعًا داخل الائتلاف الحكومي، أفضى إلى عدم قدرة الحكومة بمختلف مكونتاتها إلى تقديم حصيلتها الحكومية مجتمعة للرأي العام في نهاية الولاية، وقبيل انطلاق الحملة الانتخابية للانتخابات التشريعية للسابع من أكتوبر (تشرين الأول)، حيث قام كل حزب بتقديم حصيلة وزرائه منفردًا، لوجود خلاف بينهم، وخوفًا من تأثير هذه الحصيلة على نتائج الانتخابات التشريعية لصالح هذا الحزب أو ذاك، خاصة حزب العدالة والتنمية الذي ناور بشكل جيد، وعرف كيف يتعامل مع مجموعة من الأزمات طيلة الفترة التي قضاها في التسيير أو المشاركة في «الحكم»، ومن هذا المنطلق نطلق نعت «حكومة بدون حصيلة»؛ لأنها إلى جانب هزالتها وضعف مردوديتها، فهي فقط حصيلة الأحزاب المشكلة للتحالف، والتي عرفت بعض الإنجازات الاجتماعية التي لا يمكن إنكارها، والتي كانت معدة بالأساس للتسويق الانتخابي بعيدًا عن «محاربة الفساد والاستبداد…».
هكذا يمكن إجمال حصيلة حكومة حزب العدالة والتنمية والأحزاب المتحالفة معه بين ما هو سياسي واجتماعي واقتصادي: في ارتفاع معدل البطالة إلى 10.1 % و معدل خلق فرص الشغل السنوي في 50 ألف منصب صافية، في الوقت الذي سجلت معدل 10% بين سنتي 2010 و2011، وتعهد الحكومة تخفيض نسبة البطالة عن 8%، كذلك الحال بالنسبة لمعدل نسبة الفقر، الذي كان في حدود 8.8%، مستهل الولاية الحكومية لتستقر في 11% عند نهاية الولاية، أي بتراجع نقطتين بالنسبة لمؤشر الديمقراطية، لم يتقدم المغرب إلا بـ4 درجات حيث لا يزال في مؤخرة الترتيب بحصوله على المرتبة 126 نهاية 2015.
أما إذا قارنا الإنجازات بالوعود الانتخابية والتصريح الحكومي، فإن الحكومة لم تتمكن من خفض عجز الميزانية إلا بـ1.2% باستقرارها في 4.3% نهاية السنة المنصرمة، في الوقت الذي كان ينتظر أن تتراجع إلى 3% وفق التصريح الحكومي، مقابل ارتفاع معدل المديونية إلى 79.60%، أي بارتفاع 17.60% عن سنة 2010-2011ي، ثم انخفاض معدل النمو من 5% بين 2010-2011، الى 4،3% متم 2015 ثم أقل من ذلك متم العام الجاري، بالرغم أن الحكومة استفادت من ظرفية إيجابية مطبوعة بالتساقطات المطرية المهمة والانخفاض الكبير لسعر البترول، وإلا كان معدل النمو سيعرف تدهورًا أكبر.
أما فيما يتعلق بصناديق التقاعد وصندوق المقاصة، فإن إصلاحهما لم يأخذ ببرامج الأحزاب السياسية، ولا بالتصريح الحكومي، وإنما بتوصيات المؤسسات النقدية الدولية، لكن الحدث الأبرز هو خطاب «عفا الله عما سلف»، والاستسلام أمام محاربة الفساد الذي كان شعار الحملة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية، والذي تم التخلي عنه في الانتخابات الأخيرة والاكتفاء بشعار مواصلة الإصلاح.
إضافة إلى إلغاء دعم المحروقات بشكل عشوائي، كما يحسب لها اعتماد صندوق دعم للنساء المطلقات والأرامل، وكذا تخفيض سعر حوالي 1200 دواء، بالإضافة إلى الزيادة في منحة طلاب الجامعة، وتوفيرها دعمًا صحيًا بالنسبة للفقراء في إطار مشروع «راميد»، بالرغم من أنه لا تزال الأسر تتحمل نفس نفقات الصحة، وأيضًا استحداث صندوق تعويض لفقدان الشغل.
وكان ما ميز الحكومة في بداية ولايتها هو نشرها لوائح المستفيدين من «مقالع الرمال» و«مأذونيات النقل» دون اتخاد إجراءات مصاحبة، كما قطعت مع التوظيف المباشر والاقتطاع من أجور المضربين، وبروز أزمات من قبيل قضية أراضي خدام الدولة، وقضية تقاعد البرلمانيين والوزراء والامتيازات الممنوحة لكبار رجالات الدولة، إضافة إلى سوء تدبير الكوارث من فيضانات الجنوب وفاجعة «طانطان»، هذا دون نسيان الفضائح التي تورط فيها الوزراء، وعلى الخصوص وزير العلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني السابق، ورئيس أفقر جهة بالمغرب فيما يخص «الكوبل الحكومي»، وصفقة الحوار الوطني حول المجتمع المدني، وسيارات الجهة، إضافة إلى أراضي «العلف» دون نسيان صاحب فاتورة الشيكولاته، إلى ملعب الكراتيه، وأزبال إيطاليا، ومقتل محسن فكري، وإلغاء مجانية التعليم .
لقد كانت حصيلة الحكومة متواضعة، مقارنة بما وعدت به في برنامجها الانتخابي أو في التصريح الحكومي، إلا أن ضعف بعض أحزاب المعارضة، وترهل قياداتها، وسوء سمعتها وتورط أعضائها في قضايا فساد، لم يترك لفئات واسعة خيارًا آخر سوى دعم الحكومة، خاصة حزب العدالة والتنمية التي يرونها أقل فسادًا، وتحارب من طرف«التحكم»، ولعل ذلك ما تأكد من خلال النصر السياسي الذي حققه الحزب في الانتخابات الجماعية، وتسييره لمعظم المدن الكبرى؛ وتصدره على مستوى مقاعد الجهات وحصوله على أغلبية المقاعد في انتخابات مجلس النواب، مقابل النصر الانتخابي الذي حازه غريمه الأصالة والمعاصرة المعارض في الانتخابات الجماعية خصوصًا بالقرى، واحتلاله المركز الثاني في تشريعيات السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
فبين النصر السياسي لحزب يقود الحكومة والنصر الانتخابي لحزب يقود المعارضة نرصد صعوبة فهم سوسيولوجيا التصويت عند المغاربة وتحديد سلوكهم الانتخابي، لكن ماهو ملحوظ هو التغيير التدريجي لهذا السلوك مقارنة بما سبق، لكن دون أن يفضي ذلك بالضرورة انطلاقًا مما سبق ذكره إلى بروز «الناخب العقلاني» الذي يعطي تصويته في كل مرة معنى سياسيًا، بل إن ما يمكن إثباته مؤخرًا هو بروز «التصويت الأخلاقي» أكثر منه «تصويت سياسي»، الذي لا يستند إلى الحصيلة أو الرهانات الانتخابية، مادمنا في ظل تعددية حزبية عددية، وبلقنة سياسية تتشابه فيها الأحزاب في التصورات والبرامج الانتخابية، بالرغم من أنها تختلف من حيث الخلفية والمرجعية والإيديولوجية.
أدوات تقليدية، وأخرى حديثة للضبط و«التحكم»
فصل السياسة عن الديمقراطية،هذا هو شعار المرحلة وفلسفتها؛ حيث تجرى الانتخابات وهناك مؤسسات و حكومة وأحزاب ونقابات وجمعيات… في مشهد حزبي هجين وهش وغير منسجم ومبلقن لا يفسح المجال ولايسمح بالمناورة، خاضع دائمًا للتوافقات، يمكن الدولة من ضبط المشهد السياسي وعدم السماح لأي حزب، مهما اتسعت شعبيته من الهيمنة؛ أو الخروج على السيطرة ومن الهامش المتاح للأحزاب السياسية، سواء منها الإدارية أو التي تمتلك بعض الاستقلالية، عبر وسائل الضبط و«التحكم» التقليدية من تقطيع انتخابي ونمط اقتراع وأحزاب إدارية (رسمية)، وأعيان الانتخابات، ودعم الإدارة، وتأثير رجال السلطة، وأخرى حديثة (غير تقليدية) من خلال ازدواجية التعيين والانتخاب والتكنوقراط والنخب الاقتصادية والثقافية والدينية والرياضية وجماعات الضغط والتأثير… وقد برزت هذه المؤثرات بشكل خاص خلال فترة بناء التحالفات التي تلت الانتخابات الجماعية والجهوية للرابع من سبتمبر (أيلول) من السنة الماضية، حيث هيمن حزب الأصالة والمعاصرة على رئاسة الجماعات، خصوصًا في العالم القروي والجهات الخمس من أصل اثني عشر، بالرغم من أنه لم يتصدر سوى في ثلاثة منها؛ مثلما هو الحال بالنسبة لحزب التجمع الوطني للاحرار، وعكس حزب العدالة والتنمية المتصدر لهذه الانتخابات على مستوى خمس جهات، وعلى مستوى عدد الأصوات، والذي يرأس معظم بلديات المدن الكبرى، ولم يحز سوى على رئاسة جهتين؛ وكما هو الشان بالنسبة لحزب الاستقلال الذي حل ثانيًا، وتصدر مقاعد مجلس المستشارين والت الرئاسة في الأخير لحزب الأصالة والمعاصرة الذي حل ثانيًا، في هذا الصدد لابد من التأكيد بأن مرحلة بناء التحالفات، لم تكن دائمًا مرتبطة بالقرار الحزبي المُستقل، بل كثيرًا ما شكلت صناعة الأغلبية لحظة مثالية للسلطة من أجل الضبط والتّحكم في الانفلاتات الممكنة «للإرادة الشعبية»، بتعبير الأستاذ «حسن طارق»؛ مما شكل انقلابًا ناعمًا على نتائج الانتخابات؛ وهو نفس السيناريو الذي يحدث حاليًا بعد تشريعيات 2016 في إطار المشاورات من أجل تشكيل الائتلاف الحكومي، بالرغم من أن حزب الأصالة والمعاصرة أقر بالهزيمة واختار منذ البداية الاصطفاف في المعارضة، إلا أن نظيره التجمع الوطني للأحرار برئيسه الجديد وشريكه الاتحاد الدستوري والحركة الشعبية إلى حد ما قد شكلوا بديلًا للسلطات العليا في هذه المرحلة للقيام بمهمة «الموازن»، وهو نفس الدور الذي لعبه من قبل حزب الاحرار عند انسحاب حزب الاستقلال من الحكومة في منتصف ولايتها وبنفس منطق الدولة في الضبط و«التحكم» في الحياة السياسية هذه التحالفات الهجينة اصبحت تشكل «أداة للزعزعة التلقائية»، كلما دعت الضرورة لذلك، فقد زعزعت التحالف الحكومي من قبل وكشفت قدرت الحزب الأغلبي في التعامل مع الأزمات السياسية وغير السياسية التي هبت على البيت الحكومي طيلة مدة ولايته السابقة، وكذا المرتقبة.
هذا إلى جانب دستور 29 يوليو (تموز) 2011 في فصله 477 الذي لا يعطي أي إمكانية للخروج من هذا المأزق، على عكس الدستور الإسباني لسنة 1978 على سبيل المثال؛ مما فتح الباب أمام مختلف التاويلات التي تهدف في مجملها، سواء إلى الانقلاب الجذري على نتائج الانتخابات: أية أمكانية تعيين شخصية من الحزب الثاني أو شخصية أو خرى من قبل الملك – هناك من اعتمد في هذا التأويل على الدور التحكيمي للملك في الفصل 42 ومنهم من استرجع الاعمال التحضيرية لإعداد الوثيقة الدستورية التي كانت تروم أدراج المعطى السالف الذكر في حال فشل الحزب الأول- أو محاولة التأثير لقبول أحزاب بعينها والتخلي عن أخرى… وقس على ذلك باقي فصول الدستور 180 التي تفتح للدولة في كل مرة مخرجًا دستوريًا (رئاسيًا) وسياسيًا ناعمًا به تطؤر الحياة السياسية، وتقوم بالتحكم في الانفلاتات الممكنة للميولات الشعبية وتضبط به سلوك الفاعلين السياسيين والحزبين؛ خصوصًا أنصار التاويل البرلماني للوثيقة الدستورية. فقد سبق للراحل الحسن الثاني أن عبر عن الأسس التي تحكم الفلسفة الدستورية للمغرب في الخطاب الذي ألقاه أمام الجمعية الوطنية الفرنسية في 7 مايو (أيار) عام 1997 حيث قال «يحسن النظر إلى أي دستور على أنه لباس، واللباس يفصل ويخاط على شكل وحجم من سيرتديه، بل أكثر من ذلك فإن من نعد له اللباس لن يحتفظ به في شكله وهيئته على الدوام، لأن اختلاف مراحل العمر والحالة الصحية واللياقة البدنية كلها تتطلب إدخال تعديلات على اللباس بدء من مجرد رتوشات بسيطة إلى استبدال اللباس بكامله. ومادام شكل وحجم الشعب المغربي وعمره (الديمقراطي) وحالته (الاجتماعية) ولياقته (السياسية) غير مؤهل في الوقت الراهن، فلنكتفي بالسياسة بمفهومها الضيق وبعض مظاهر الديمقراطية حتى إشعار آخر.
هكذا فإن الدولة المغربية لا تنفك عن تجديد وملائمة وسائل اشتغالها، حسب ما تقتضيه الظرفية السياسية محليًا وإقليميًا ودوليًا؛ فقد قدمت تعديلات دستورية إبان مرحلة الثورات، وسمحت لحزب إسلامي بالمشاركة في «الحكم»، وبلورت سياسة حقوقية وسياسة أمنية وأخرى لتدبير الشان الديني وسياسة للهجرة وسياسة إفريقية في إطار التعاون جنوب جنوب… ووسعت شراكاتها الاستراتيجية مع القوى الكبرى مثل الصين روسيا الهند، بالإضافة لدول الخليج.
بيد أن تجربة الانتقال إلى الديمقراطية بالمغرب لازالت تراوح مكانها، و تتم بالحد الأدنى من الديمقراطية، وبكثير من المظاهر السياسية التى توحي بأننا «دولة استثنائية» لا ينطبق عليها ما ينطبق على غيرها، بمبرر الخصوصية الثقافية والسياسية والتاريخية… في تجسيد لأطروحة فصل الديمقراطية عن السياسة من أجل تحقيق الازدهار والتنمية… بغض النظر عنما يعتري الديمقراطية من أعطاب، لا تاريخيًا، أو من حيث التصور والممارسة، لكن ذلك موضوع آخر؟
عن ساسة بوست