من أدب المقاومة

عدن.. عذابات معتقل

دبابة للمقاومة الجنوبية

عوض القيسي
كاتب وباحث في التراث الجنوبي
  • أها ! ارحبي يا جنازة فوق الأموات !

ذلك ما قاله أحد عساكر الأمن المركزي الذين كانوا في استقبالنا في عمارة أجهل موقعها في دار سعد. شعرت برعب من قوله ذاك وسألت نفسي "ماذا يقصد بجنازة وأموات ؟ هل حلت النهاية؟ هل سيقتلوننا الآن؟".  كنت ومجموعة معي من المعتقلين مقيدين ومُغمتي العيون ولا نرى المتحدث. دفعنا العسكر الذين أتوا بنا بعنف؛ فوقعنا على الأرض وفوق بعضنا. وتأوهت من الألم. قال أحد العساكر الذين أحضرونا :

  • أتيناكم بڈواعش, ما نوصيكم بهم, اكرموهم !
  • كيف لا نكرمهم يا ذاك ! أ لسنا بقبائل ؟ !

أنهى ذلك الرجل كلامه, فإذا بيد ثقيلة تجذبني من ياقة قميصي بعنف حتى استويت قائما, وما لبثت يد غليظة أن لطمتني لطمتين قويتين رأيت منها وهجاً احمراً, وتلتها ركلات في البطن والأرجل بالأحذية العسكرية. كنت أتأوه بشدة من الألم, وأسمع صرخات باقي المعتقلين من العذاب. استمرت حفلة التعذيب هذه لدقائق ويبدو أنه قد زاد عدد المحتفلين, فمنهم الراكل بحذائه, ومنهم الضارب بعصا غليظة, ومنهم الضارب بعقب بندقية بين كتفي وعلى رأسي ومنهم اللاطم على وجهي ومنهم اللاكم في بطني وصدري ووجهي. وكلما سقطت انهضوني وأعادوا الكرة,  وكانوا يردفون الضرب بسب بذيء لنا :

  • يا ڈواعش يا كلاب .. كلكم الجنوبيون ڈواعش ما لأبوكم إلا القتل !
  • نحن سنريكم كيف العمل يا عيال القحبة !
  • أنا ... عاركم يا طراطير ! .. أنا ... أمهاتكم يا ڈواعش!
  • كل عاركم زنوات .. تقاوموا الجيش وأنصار الله وتحسبون أن السعودية ستنصركم ؟!

اقتادوني بعد حفلة التعذيب هذه في ممرات عدة, كنت أتلقى خلالها ركلات وضربات مشفوعة بمزيد من السباب البذيء من العساكر الذين نمر بهم. كنت أذوق طعم الدم في فمي, وأشعر بآلام شديدة مما لقيت. أدخلوني غرفة, وقال الذي اقتادني :

  • يا أبا محمد, هذا من الڈواعش الذين قبض عليهم في نقطة الكّرّاع قادم من السعودية.
  • فتشوه جيداً.

خلعوا عني قميصي, وأخذوا يفتشون تحت القميص الداخلي عند العواتق. كانوا يبحثون عن آثار جعبة الذخيرة؛ فقال من يفتشني :

  • لا شيء.

سألني المحقق المدعو أبو محمد :

  • اسمك وسنك وعنوان إقامتك؟
  • عبد الفتاح ناصر مسعود, عمري 27 عاما, سكني في عدن في المنصورة.

هوى علي شخص بصفعات على وجهي وهو يقول :

  • المنصورة يا زنوة ! من وكر الڈواعش هاه ! والآن سائر إليهم لتقاتل معهم !

كان الرجل - فيما يبدو حارسا - يقول لي هذا الكلام ويوجه لي صفعة أو اثنتين بين الجملة والتي تليها, وأنا أزداد ألما فوق آلامي وأشعر أن وجهي آخذ في التورم وكرامتي تستباح, وكلما جاءت صفعة جديدة على وجهي المتورم صارت أشد ألما من سابقتها. عاد المحقق ليسألني :

  • عملك ؟
  • مغترب في السعودية.

 وسمعت شخصا آخر غير المحقق يقول:

  • هاه, أنت عميل للسعودية يا طرطور !

 وهوت اليد ثانية بقوة على وجهي بصفعة كادت تخلع لي أسناني, وجعلت الدم يكثر في فمي. بصقت الدم فهوت اليد علي بصفعة كسابقتها, وقال لي صاحبها :

  • ابلع الدم ولا تنجس علينا الأرضية !

بلعت الدم خشية مزيد من تلك اللطمات. وعاد المحقق يسألني :

  • أيش جاء بك إلى عدن في وقت الحرب ؟
  • والله زوجتي وأولادي في عدن في المنصورة, وخفت عليهم من الحرب وجئت لأعيدهم إلى البلاد وأرتب أمورهم هناك, وأعود إلى عملي.

رد المحقق زاعقاً بعنف :

  • كذاب !

ومع قوله ذلك هوت اليد الغليظة ثانية على وجهي.

  • اعترف احسن لك ! ما لم فأنت بأيدينا نستطيع أن نفعل فيك ما نريد, لو أعطيهم إشارة الآن سيرمونك لحما للكلاب لتأكلك. فما رأيك تتعاون معانا وتعترف وتقول لنا لماذا جئت إلى عدن.
  • والله العظيم ما عندي أي شيء في عدن غير ما قلت لك.
  • خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه !

وراحت الصفعات واللكمات تهوي علي, ثم جذبتني اليد الغليظة وأخذت تدفعني بعنف في ممرات كنت أتلقى فيها ضربات وركلات كل من كان يصادفني.

آه ماذا أقول :المصيبة أنني مُغمَّت ومقيد؛ فلا أستطيع أن أرى, وأتقي الأيدي التي تضربني.

   أصعدوني درجاً, ثم حلوا وثاقي ونزعوا الغمات, ووجدت نفسي أمام باب غرفة فتحوا قفلها, ودفعوني إلى داخلها دفعة أوقعتني فوق من كان بداخلها وأغلقوا الباب بعدي.

كانت غرفة صغيرة, وفيها قرابة العشرين معتقلا. كانت وجوههم وجِلة مثلي, وعليها آثار العذاب. لم نستطع الكلام؛ فقد كنا كلنا في حال من الصدمة والرعب والآلام من هول ما لقيناه.

في الفجر جاء الحراس  وأمرونا بالخروج, وغمّتونا وشدو وثاقنا. كنا مرعوبين مما يجري؛ ولعلهم سينفذون تهديدهم لنا بالأمس بأنهم سيقتلوننا. " يا الله ألطف بنا ونجنا من المجوس المجرمين".

 أصعدونا إلى السيارات رميا بعد تقييدنا وتغميتنا, ونقلونا لا نعلم إلى أين. كانت سُحب الأفكار السوداء تتلبد في أذهاننا, والقلق ينشب براثنه في أحشائنا؛ فلا تكاد سيقاننا ترفع أجسادنا. "آه إنها النهاية, لا حول ولا قوة الا بالله ! لا أهل أو أصحاب يعلمون بنهايتي, وأولادي وزوجتي لا يعلمون مصيري ! آه من لهم من بعدي ؟ ! لعلهم سيقتلوننا ويرموننا في الخُبوت بين عدن ولحج".

امتد مسيرنا لساعة أو اثنتين في الشاحنة التي تنقلنا, وكنا نشعر بوقوفها بين النقاط, حتى بلغت غايتها, فجاء من ينزلنا منها وهم يحتفون بسبنا وشتمنا :

  • انزلوا يا ڈواعش يا كلاب !
  • بسرعة أنـ .... عاركم يا عيال القحبة !

وما كان هؤلاء الساديون الأنذال ليتركوا الفرصة لتمر دون أن يحفلوا فيها بركلنا وضربنا بأعقاب البنادق. بعد حفل التعذيب صفونا ونحن مقيدون ومُغمَّتون. كان الوقت صباحا. عرفنا ذلك من حرارة الشمس على وجوهنا. قلت في نفسي : " نهاية المطاف, سيقتلوننا هنا ولن يعلم أحد لنا بطريق".

خلعوا عنا الغُماتات وأبقونا موثوقين. رأينا عساكر بزي الأمن المركزي وعدداً من المسلحين بزي مدني يبدون من الحوثة؛ فقد كانت شعارات الموت ملصقة على بنادقهم. كان هناك عسكري بزي أمن مركزي يقول بصوت ينز سخرية وتشفٍ :

  • أهلا وسهلا يا عيال العاصفة ! ارحبوا في جهنم, أنتم هنا في العند, سنضعكم في هذا المجمع وسنرى هل سيهتم بكم سلمان والخليجيون أم سيقصفونكم.

هالني الأمر بعد ما اتضحت لي صورة المصير الذي يريده لنا الحوافش. قلت في نفسي : "لن يقتلونا اليوم, ولكنهم سيضعوننا دروعاً بشرية, وسيقتلوننا رعبا وذلا ألف مرة قبل أن نقتل بنيران طيران التحالف الذي لا يعرف مواقعنا".

ساقونا إلى غرف في مجمع لمباني كانت - فيما يبدو - مكاتباً. حلُّوا وثاقنا عند أبواب الغرف. كان هناك معتقلون سابقون حشدونا معهم؛ فصرنا خمسين, والغرفة ما كانت تتسع لنا؛ فكنا لا نستطيع أن نبسط فيها أرجلنا, أو ننام متمددين.

حين وصلنا كانت سياط الجوع تلهب بطوننا, والعطش يكاد يحز حلاقيمنا؛ لأنا لم نأكل أو نشرب شيئا منذ لحظة اعتقالنا, ولم يأتنا هؤلاء الضباع بشيء. وبعد أن أخذ بنا الجوع والعطش صاح بعض المعتقلين بالعساكر عند مرورهم :

  • أسقونا يا جماعة الخير ! سنموت من الظمأ.

فرد العسكري بصوت زاجر :

  • اشربوا بولكم يا ڈواعش يا كلاب !

وصاح مرة أحد المعتقلين بعد أن أحرقه الجوع :

  • ارحمونا يا جماعة ! سنموت جوعاً. فرد عليه العسكري :
  • كلوا أحذية !
  • يا أخي حرام عليك ! نحن بشر ومسلمون !
  • صه ! وإلا سآتي وأحشر حذائي في فمك. أنتم ڈواعش ما لأبتكم إلا الموت. لو كان أمركم بيدي كنت قضيت عليكم عندما جاؤوا بكم.

ما كان لصاحبنا الجائع الا السكوت فهو يعلم أن هذا المسخ  المجوسي سينفذ تهديده.

في اليوم التالي أحضروا لنا قليلا من مياه الغيول المالحة والمليئة بالتراب, وأعطوا كل واحد منا قرطاسا من بسكوت أبو ولد. صارت هذه هي وجبتنا اليومية غالباً. وقد يأتي يوم ويعطوننا رزاً ناشفاً لا يسد رمقنا. لم تكن الوجبات تزيد على الواحدة يوميا. وجبة تبقي علينا أحياء أو لعلها فقط كانت تأخر موتنا حتى يقضوا وطرهم منا.

لم يكن أحد منا يستطيع أن يتمدد في الغرفة لاكتظاظها بنا. أما النوم فننام ونحن جالسون, وأرجلنا مثنية, وركبنا تصل إلى رؤوسنا. كنا نضغط أحيانا على أنفسنا لنفسح لمن جاؤوا بهم بعد حفل التعذيب؛ فقد كانوا يصلون وهم في حال من الإعياء والألم ما يرقق قلوبنا عليهم, ويجعلنا نزيد تزاحما على زحمتنا؛ حتى نفسح لهم مكانا صغيراً ليمتدوا فيه ويسرّوا قليلا عن أنفسهم وأجسادهم المعذبة. 

 كانت الغرف دون كهرباء؛ فقاسينا فيها الصيف اللاهب والاكتظاظ, ولم يوفر لنا الماء  لنغتسل أو نتنظف. لكم أن تتصوروا في ذلك الحر اللاهب كيف ستصير روائحنا: روائح حموضة العرق التي تكوي الأنف بحدتها, لكنا كنا قد اعتدناها, ولا يتعذب بها إلا القادمون الجدد, لكنهم لا يلبثون أن يعتادوها مثلنا. لقد امتلأت ملابسنا بالعرق وإفرازات الجسم, والتصق بها التراب مكونا طبقة خارجية لامعة تشبه ملابس المجانين, وطالت شعور رؤوسنا, وتشعثت كأنها رؤوس الشياطين.

كانوا يعطونا خمس دقائق لكل فرد يوميا؛ ليقضي حاجته في دورة المياه في الظهيرة. ولم نكن نسلم من الضرب والإهانة حين خروجنا أو عودتنا من الحمام. وإن داهم أحدنا البول في غير هذا الوقت لم يكن له إلا أن يبول في علبة المياه أمام أنظار الآخرين, ثم يصب البول من القارورة عبر النافذة, ولا يلقي بالقارورة؛ ليستعملها ورفاق العذاب مرة أخرى.

كنت من قبل قاطع صلاة, لكن هذه المصيبة أرجعتني إلى الله, وعدت للصلاة. كنا كلنا نصلي ونستمتع بالصلاة كثيرا, فقد كانت عزاؤنا الأخير, وكنا ندعوا الله كثيراً أن يحمينا ويفك أسرنا. لم يكن لدينا ماء للوضوء, بل كنا نتيمم. أذكر أنه مر في أول أيام الاعتقال عند وقت الظهر حارس بزي الأمن المركزي فتوسمت فيه خيرا وظننته أهون من غيره, فقلت له :

  • لو سمحتم نريد ماء لنتوضأ.

فأجابني بصوت ينضح بالتحقير والسخرية :

  • أيش من صلاة معكم يا كفرة يا يهود ! أم ستصلون لأمريكا وإسؐرائيل.

سكتُ ورأيت أن أي رد سيستثير هذه الضباع البشرية لمزيد من الأذى.

كانوا يأتون أحيانا بأسرى المعارك, وكانوا غالبا مصابين بشظايا أو طلقات نارية. لم تكن تقدم لهم أي رعاية طبية, ولم تضمد جراحهم, بل يلقون بهم إلى غرف الاعتقال بجراحهم. كنا نتعذب كثيرا لمرآهم وسماع أصواتهم, وهم يتلوون من الألم بينما نحن عاجزون أن نصنع لهم ما يخفف آلامهم, أو يضمد جراحهم, إلا مزقا ننتزعها من ملابسنا لنضمد بها جراحهم. صاح أحدهم يوما بعساكر مارين قائلا :

  • يا جماعة الخير نحن بشر مثلكم, اتقوا الله فينا وهاتوا لنا طبيباً يعالجنا !

وعلى الفور جاءته الردود الموتورة  من العساكر:

  • آصه يا ڈاعشي يا كلب ! قال يريد طبيب !
  • ما ناقص الا نعالج الڈواعش  ! طق طاق !
  • تريدون أن تقتلونا ثم تريدوننا أن نعالجكم ! موتوا الله يلعنكم يا ڈواعش يا كلاب !

كانت جراح بعضهم تلتهب وتتقيح وتتضعف حالة مرضهم؛ فيموتون بعد معاناة شديدة, وكانت أنفسنا معهم تتقطع حسرات على عجزنا عن نفعهم.

لكننا كنا نلاحظ أن مكوث من يأتون بهم من الجرحى لا يطول بيننا, وبعد أن يأخذوهم للتحقيق لا يرجعون, ولعلهم كانوا يقتلونهم؛ فقد كانت معاملتهم لمن يأسرونه في ميدان المعركة أشد قسوة وإجراما من معاملتهم لنا المعتقلين من الطرقات والبيوت.

حين جلست في الزنزانة مع النزلاء السابقين كانت وجوههم بشوشة ومرحبة على ما بهم من كرب, لكأنهم يعلمون أنني مستوحش, فحاولوا أن يبددوا وحشتي. سألني أحدهم :

  • حياك الله يا صاحبنا ؟ من أين أنت ؟
  • من يافع.
  • هل قبضوا عليك مع المقاومة ؟
  • لا.
  • طيب, أيش قصتك ؟
  • أنا جئت من السعودية إلى عدن لأخرج أسرتي من جحيم الحرب. في نقطة الكرّاع بدار سعد كانت قوة للأمن المركزي. صادفنا تشديدا ذلك اليوم, وسألونا في الباص واحداً واحداً عن مقصدنا. وقلت لهم إنني ذاهب إلى عدن لأخرج أسرتي, وأعود بهم إلى البلاد. أنزلونا وأخذوا يفتشوننا ووجدوا معي جوازي وفيه تأشيرة خروج من السعودية. فقالوا : "أنت داعشي ! جئت من السعودية لتلتحق بالڈواعش لقتالنا". أعتقل كثير منا ذاك اليوم أخذوا كل ما بحوزتنا من جوالات ونقود وأوراق. وقيدونا وغمّتونا. وانهالوا علينا ضربا وركلاً بالأحذية وأعقاب البنادق, واقتادونا إلى سيارة, كان اثنان من الجنود يأخذونا منا حزمتنا وأيدينا فيرجموننا بعنف إلى صندوقها لنقع على بطوننا ووجوهنا. وكان بعض العسكر يدوسني بين فينة وأخرى بحذائه بقوة. ومن رفع رأسه ركلوا رأسه بقوة بالحذاء إلى أرضية السيارة. وكان عساكر الأمن المركزي يشتموننا قائلين : "يادواعش يا كلاب, يا دواعش يا زنوات". أنزلونا في عمارة فيما أظن في أطراف دار سعد, وضربوني فيها وحققوا معي وبعد ذلك أتوا بي وبعض المعتقلين هنا.

قال أحدهم مواسياً :

  • لا بأس عليك يا أخي أمرك أهون من أمر الباقين. ولك أمل أن تخرج.
  • والباقون ؟
  • الذين لم يقاتلوا مثلك هناك أمل أن يطلقوهم وسبق ان أطلقوا بعضهم, لكن بفدية برميل ديزل أو مبلغ من المال. أما الذين أسروهم في القتال أو وهم يهربون السلاح فأمرهم صعب إن لم يكن معهم من يتواصل مع الحوافش ويتابع بعدهم. يخفون أثرهم, وسمعنا أنهم يقتلونهم.

سألت الذي يحدثني :

  • أنت من أين وما قصتك ؟
  • أنا من أبين. كنت سائق دينًا. وكنت أهرب بعض الأسلحة والذخائر من عدن للمقاومة في جبهة عكد. في المرة الثالثة حملت عشرة صناديق قذائف آر بي جي, وحمّلت فوقها أكياس سكر ورز وكراتين زيت للتمويه, وعند مروري بنقطة امْعَلَم أمروني أن أجنب على غير عادتهم. قلت لهم إنني مستعجل ومعي أمور كثيرة, لكن المناوب أصر على تجنيبي, وقال لي بأن علي أن أنزل حمولة السيارة للتفتيش. قلت لعله يريد نقودا, فأعطيته ألفي ريال فرفض زدت له المبلغ إلى أن أوصلته إلى خمسة آلاف, لكنه نهرني وألح على تنزيل الحمولة؛ فعرفت أن هناك خائن قد دلهم عليَّ, فهم فيما يبدو كانوا بانتظاري. وبعد ذلك ساقوني إلى هنا. وعذبوني عذاباً لا يعلم به إلا الله. قد يكون مصيري القتل لكنني قد أخبرت المحققين أن لدى أبناء عمومتي في المقاومة عشرة من الأسرى وأنني قد اتفقت معهم على قتل هؤلاء الأسرى إن قُتلتْ.

وسألت رجلا آخر عن قصته, فأخبرني قائلا :

  • أنا يا عزيزي من الضالع, ولدي سيارة نقل كبيرة. كنت أنقل بها مواداً غذائية من عدن وانواع البضائع, وبعد نشوب الحرب كنت أهرّب وسط هذه البضائع أسلحة وذخائر للمقاومة في الضالع, ويبدو أن هناك خائن قد كشف أمري وأعطى الحوافش رقم السيارة؛ لأفجأ بهم يقبضون عليَّ في نقطة العند, وينزلون الحمولة فيكتشفون المخبأ وسطها. وبعد ذلك الى جانب صاحبي هذا. ذوقوني من العذاب ما كنت افضل الموت عنه, لكن المقاومة لن تقصر مثل صاحبي اتفقت مع أهلي إن قتلت أن يقتلوا بي عشرة من الأسرى. أخبرتهم بذلك في التحقيق, ولو قتلت لن أكون نادما لأن أهلي سيأخذون بثأري عشر مرات.

 

كانوا في كل يوم يأخذون منا خمسة إلى ستة للتحقيق, حتى ينتهوا من التحقيق مع الجميع, ثم يعيدوا التحقيق مرة ثانية. كانوا نعود من التحقيق في حال مزرية من شدة العذاب والإنهاك. كنا نعود بوجوه متورمة مدمّاة, ومنا من عاد بأسنان مهشمة, وبحروق ظاهرة في الأيدي والأجساد.

جاء دوري ونادوني باسمي, فخرجت من الغرفة, وكان بانتظاري أربعة من الحراس أحدهم يرتدي بذلة الأمن المركزي وبقيتهم مدنيين. قيدوني, وغمتوا عيني, وأخرجوني من المبنى وألقوا بي فوق سيارة لاند كروزر - فيما أظن - ومشوا بي مسافة قبل أن يتوقفوا وينزلونني في بناء آخر لم أعرف ما هو فقد كنت مغمتا طيلة الوقت. أول شيء استقبلني في ذلك المبنى سماع صرخات الألم المريعة التي يطلقها المعذبون. كانت صرخات شديدة التعاسة تنفذ من أسماعنا إلى عظامنا فتصيبنا بقشعريرة وتدخل في نفوسنا الروع وخشية الأسوأ. كان يختلط بصرخات المعذبين صرخات الجلادين اللئام وهم يسبون ويشتمون الشتائم المقذعة بنغمة تطفح بالتلذذ والظفر. في ذلك المبنى أدخلوني في غرفة أخذوا يضربوني فيها بكابلات ويركلونني ركلا لحوالي ربع ساعة, ثم أدخلوني على محقق أخذ يسألني :

  • اسمك وسنك ؟
  • عبدالفتاح الحدي من مواليد 1989م
  • محل إقامتك ؟
  • أقيم في المنصورة
  • ما عملك ؟
  • مغترب أعمل في بيع الملابس.
  • من أي منطقة ؟
  • يافع - يهر
  • من أي قبيلة ؟
  • الحدي
  • ومن شيخك ؟
  • ....
  • طيب ما الذي أتى بك إلى عدن في هذا الوقت ؟
  • جئت خائفاً على عائلتي من الحرب وأريد أن أخرجهم إلى يافع وأن أرتب لهم مسكنا ثم أعود على عملي.
  • وأنت تحسبني أهبل وسأصدقك !

وهوى على ظهري سلك واخذ يجلدني عدة جلدات وأنا أصيح وأتلوى من الألم, والمحقق يقول لي :

  • هاه تريد أن ترتاح أم تريدنا أن نزيدك ؟ أعترف وسنريحك من العذاب !
  • والله العظيم أنني مثلما قلت لكم ذاهب لأجلب أسرتي وأخرجهم من جحيم الحرب وكيف لي بأن أذهب وأحارب.
  • طيب بكيفك ! يبدو أنك لا تريد الاعتراف بالحقيقة.

جذبني أحدهم ودفعني بعنف إلى غرفة أخرى وألقى بي على الأرض وكان هناك عدد من العساكر أوثقوا رجلي بعصا وحبل ورفعوهما ثم أخذوا يضربونني بسلك غليظ تمالكت نفسي قليلا مع الضربات الأولى, لكني أخذت أصيح وأبكي من شدة الألم عندما اشتد ضرب الجلاد وامتد. لم أستطع الصبر؛ فقد كنت أشعر أن أرجلي تتقد بنار يسري حرها في أرجلي حتى يصل إلى دماغي. كنت اشعر بالغليان.

 بعد برهة من الزمن أعادوني إلى المحقق وقال لي :

  • يبدو أنك الآن صرت أعقل وستخبرني بالحقيقة. الآن ستخبرنا من أرسلك وإلى من؟
  • يا أخي قد قلت لك أنا جئت لأخرج عيالي من النار ولم آت لألقي بنفسي في النار.

صرخ في ّ :

  • كذاب ! من تعرف من القيادات الميدانية للمقاومة ؟
  • لا أعرف أحداً. كنت مغترباً كما قلت لك.
  • كذاب ! قل : من تعرف من قيادات الحراك ؟
  • ما أعرف أحداً, أنا أعيش أكثر وقتي في السعودية طالبا الله على نفسي وعيالي.
  • كم قتلت ! اعترف !
  • ما قاتلت؛ فكيف سأقتل ؟! وجوازي معكم فيه تاريخ الخروج وستعرفون منه أنني لم أقاتلكم.
  • اسمع يا طرطور ! ستعترف وإلا فما رأيت من الجمل إلا آذانه ! أعترف إلى من كنت ذاهب؟ ما معنا شغل غيركم أنتم. أريدك أن تعرف أننا المسيطرون على الأرض, ومثلما أتينا بك نستطيع أن نفعل أكثر من هذا !

كان جسدي يشتعل من الألم, وكلماتهم تحفر في النفس جراحا أعمق وأكثر إيلاماً. لم يكن لدي ما أقول لهم فكررت عليهم ما قلته لهم سابقاً, فإذا بأحد العساكر يكويني بسجارته في رقبتي. صحت متألماً, وبقي هو يكرر فعلته مرات عدة, وهم يلحون علي بالاعتراف. في تلك اللحظات لو كنت أملك شيئا للاعتراف به لفعلت لعلِّي أخفف من العذاب.

كنت أشعر من شدة العذاب بأنني سأموت فكنت أُقول : أشهد أن لا إله إلا الله !

أخرجوني وقال لي أحدهم :

  • ستعترف الآن وإلا قتلناك !

ووضع فوهة البندقية في قذالي وسمعته يفتح الأمان, ويقول :

  • ما رأيك تعترف أم أنهي حياتك ؟
  • ولله ما عندي أي شيء أعترف به وإلا كنت اعترفت.

وأطلق النار, شعرت بلسعة البارود لوجهي وبالصمم في أذني لكنني لم أمت بعد. كنت في حال من الروع والهلع لا أدري أنا أموت أم لا زلت حيا, لكنني لم ألبث أن تنبهت لما حدث, لم يطلق النار على رأسي بل حرف بندقيته ومرت الطلقة بجانب أذني.

في المرة الثانية أخذت للتحقيق كان المحقق معي هذه المرة أقل عنفاً لم يعذبوني هذه المرة, وكانت لهجة المحقق ألين. وجه لي الأسئلة التي سألنيها في المرة السابقة. ثم قال لي :

  • عرفنا كل شيء بشأنك ولا داعي للإنكار, عرفنا منطقتك وقريتك, ومن تتبع. الأحسن لك أن تخبرنا بالحقيقة. قل لنا من تعرف من القيادات وأخبرنا بما تعرف. إذا أخبرتنا وكنت ترغب بالتعاون معنا وعد مني أن نطلق سراحك. لا تظن أننا ضعاف ! نحن الان باسطين على الأرض, وعدن معظمها الآن بحوزتنا, أما الڈواعش القليلين في المنصورة والبريقا أمرهم سهل, نحن الآن نحاصرهم وقريباً ستسمع أننا أخضعناهم, وياويلهم بالويل, إعدام ! كل عميل خاين للوطن وحارب مع السعودية سنعدمه ونرمي جثته للكلاب. أما السعودية فسنحاربها, وسنحارب كل دول الخليج, وسننتصر عليهم. هم مرفهين رخوات وليسوا مقاتلين مثلنا, الأرض أرضنا, وليست أرضهم, ولا يجرؤون على النزول إليها. سنهزمهم وسنحج هذا العام بلاش في مكة وإذا تعاونت ستحج معنا. انتهى الأمر ! أنصار الله قد دخلوا الحدود ويتقدمون في الأرض السعودية وقريباً سنصل الرياض, وسنحتل السعودية كلها. الأفضل لك أن تقف في صفنا وتتعاون معنا. ما رأيك ؟
  • والله مثل ما قلت لكم من السابق أنا طالب الله على عيالي وأسرتي وذاهب إلى عدن أخرج أسرتي من الجحيم وأكتري لهم بيتا وأرجع على عملي في بيع الملابس. وإن كنتم قد عرفتم كل شيء عني فالمؤكد في الأمر أنكم ستعرفون أنني بريء ولا صلة لي بأي طرف في الحرب.

يبدوا أنهم قد تيقنوا من صحة كلامي وأنني لا صلة لي بأحد فلم يلحوا علي في التحقيق كثيرا, ولعلهم لم يحضرونني إلا ليعرضوا علي التعامل معهم لأصير جاسوسا ضد أهلي وقومي, ولما لم يجدوا مني تجاوبا أعادوني إلى المعتقل.

بقيت في المعتقل كالمعتاد أعاني الجوع والقذارة والقمل والحشرات, وفي الليل أعاني من رعب قصف طائرات التحالف. كان الحوافش الأنجاس قد وضعونا في المباني, ووضعوا من حولها مضادات الطيران يستفزون بها الطائرات عند مرورها, ويبدوا أنهم تعمدوا ذلك ليتخلصوا منا بالنيران الصديقة, لكي يحيلوا الجريمة على آخرين. كنا مثل كباش في زريبة أبوابها مقفلة تماما لا نستطيع أن نفعل شيئا لاتقاء القصف, بينما كان الحوافش قد اتخذوا لهم حفراً فردية تبعد عن المبنى قرابة 150 مترا. كنا نراهم من نوافذ المعتقل التي كانت بلا زجاج. في حفرهم المتفرقة كان يصعب على الطائرات إصابتهم؟, وإن أصابت فستصيب حفرة واحدة وستقتل واحداً. كانت أشد ساعات الرعب عندما نسمع نيران الـ (م ط) ترمي من حولنا. كان القصف يقع على مقربة منا؛ فترتج الأرض بعنف كأن زلزالاً قد وقع, وكنا نسمع أصوات الانفجارات المريعة التي تصم الآذان فتنخلع قلوبنا, وفي كل غارة كنا نقول إنها القاضية.

في فجر أحد الأيام فوجئنا بقصف عنيف مباشر على مجمع المباني الذي كنا فيه معتقلين. كانت من أشد الساعات رعباً. كان صوت انفجارات القذائف لا يوصف. حملت موجة الانفجار التراب ونثار الطوب المتفتت عبر النوافذ فأصابنا في وجوهنا وأجسادنا. كانت الانفجارات عنيفة جداً, وتشبه مشاهد فلم عن الحرب العالمية الثانية, لكن مصيبتنا أننا نشاهد الأحداث من الداخل لا من الخارج. أدى القصف إلى انخلاع شباك الغرفة ودخوله علينا. خرجنا من شدة الخوف من غرفتنا نريد النجاة بأنفسنا. شعرت بألم في رأسي, ولما تحسسته وجدت جرحا يسيل دماً. كان القصف قد توقف, ولم نعد نسمع أي طيران وغسق الفجر لما يزل بعد. تصدعت جدران كثير من الغرف وتخلعت أبوابها من شدة موجة الانفجار. رأينا بعض المساجين يهربون, ولم يكن هناك أي من الحوثة والأمن  يوقفونهم. يبدو أنهم قد فروا من حول المجمع. لم أكن أعرف طريقاً للفرار وإلا لفررت. رحنا نجول في المجمع. دُمّر موقع الإصابة المباشرة, وانهارت بعض جدران الغرف المجاورة. جرح أكثر المعتقلين, وقد بلغوا المئتين. لحسن حظنا, حصلنا على مواد طبية. كانت هناك سيارات نقل محملة بمواد طبية تخص بعض المعتقلين, وكانت مركونة بجانب المجمع. لم يكن يسمح لنا في السابق الوصول إليها, أو نعطى منها شيئا. استغللنا فرصة اختفاء الحوافش عنا؛ فذهبنا لنجلب كثيرا من الأربطة والأدوية, وأخذنا نسعف الجرحى بما تيسر لنا من المعرفة. كنت أعرف بعض مبادئ الإسعافات الأولية؛ فنفعتني تلك المعارف. لم أكن بمثل احتراف الممرضين, لكن لله الحمد تمكنت من إنقاذ بعض لجرحى. الغرفة التي أصابها الصاروخ قتل كل من فيها. لم نستطع أن نتبين عدد القتلى أو ملامحهم, فقد جعلهم الصاروخ أشلاء. كان المنظر مرعباً ومقززاً. كنا نرى رِجْلا ً مشوية هناك ويداً في الطرف الآخر وعجينة من الدم واللحم في جانب من الغرفة, و نرى بقع الدم والشحم ونُثار اللحم على ما بقي من جدران.

كنت أنا وطبيب معتقل نسعف الجرحى في ذاك اليوم. لحسن حظنا وجدنا حقن مضادة للنزيف, ومسكنات فاستعملناها في وقف نزيف من جرحوا وتسكين آلامهم.

بعد تأكد الحوثيين وجنود الأمن من زوال خطر القصف ظهروا لنا. لم يساعدونا بأي شيء. كانت مساعدتهم الكبرى ذلك اليوم أنهم تركونا ننقذ الجرحى. 

قال لنا أحدهم ينادونه أبا علي :

  • الذين فروا قتلناهم, وسيكون مصير من يحاول الفرار مثلهم. لا تظنوا أن البلاد سايبة ! حتى إن لم ترونا بجانبكم فنحن نحرس باقي المعسكر جيداً ولن يستطيع أحدكم الفرار.

كان يقول ذلك الكلام بنبرة ظاهرة التشفي والحقد. ثم أردف بنبرة ألين :

  • أحضرنا لكم بطانيات لتلُفوا فيها جثث القتلى. اجمعوها هناك وبعد ذلك سيأتي موظفو الهلال الأحمر وسيأخذونها.

 وقال رجل آخر معه بلهجة ظاهرها التحسر والتألم وباطنها السخرية :

  • أرأيتم كيف صنع بكم طيران التحالف ! هؤلاء مجرمون لا يرحمون أحداً حتى من يقف معهم.

كان الخبيث يريد أن يحول نقمتنا على التحالف وكأننا نسينا من أحضرنا إلى هنا وجعلنا دروعا بشرية وراح يستفز الطيران لضربنا.

قلت لأبي علي :

  • هل ستأتونا بأطباء وإسعاف ؟
  • من يستطيع أن يعالج زميله فليفعل. ليس لدينا أي إسعاف أو أطباء. الأدوية والمواد الطبية عندكم.

وأردف رجل آخر بلهجة موتورة :

  • احمدوا الله أننا تركناكم تسعفون أنفسكم. أيش تريدون أكثر من هذا ؟ وإلا ابقوا هكذا انزفوا إلى أن تموتوا مثل الكلب, لأنكم ڈواعش ولا تستحقون الرحمة.

رد عليه أبو علي بلهجة عتاب مرائية برحمة تفتقر لها :

  • لا يا أبا حسين, لا يصح هذا ! مهما يكن هؤلاء إخوتنا, وهم مغرر بهم, خدعهم هادي, لكنهم الآن عرفوا حقيقة التحالف.

ظللنا ذلك اليوم ولثلاثة أيام بعده نعالج الجرحى. لم نكن نرتاح في الليل, بل في كل حين يأتي بعض المعتقلين في المجمع ليستدعونا لإيقاف النزيف لجريح عاد جرحه ينزف. كانوا ينادونني يا دكتور ظنا منهم بأنني طبيب.

رجعنا لحالنا السابق ومعيشتنا الأولى في المجمع ما عدا أن الأبواب التي كانت تؤصد علينا صارت مفتوحة بعد ان خلعها القصف. لكن الحوافش كانوا في حفرهم من حول المجمع بالمرصاد لكل من يخرج من مباني المجمع.

مر ربما نصف شهر وجاء إلينا أبو علي وجمعونا وقال لنا :

  • ابشروا ياخبرة اليوم معنا قائمة بـ مائة فرد ممن ثبتت براءتهم لدينا, وسنطلق سراحهم. حتى تعرفوا أننا لا نظلم أحدا. أنتم تعرفون أننا في حرب, والعالم كله ضڈنا, ويحدث اشتباه عندما يتنقل واحد في وقت الحرب من مكان إلى آخر, والڈواعش مثلما تعرفون يستغلون هذه التنقلات ويندسون بين الآخرين, فيفسدون أعمالنا وأعمالكم. المهم عليكم أن تعرفوا أننا لا نظلم أحداً وأن البريء نتركه, لكن من يقف مع الڈواعش لا رحمة له. وسامحونا إذا حصل تقصير أو خطأ من بعض الأفراد. هم لا يقصدون ذلك. يظنون أن المشتبهين كلهم دواعش. جهزوا أنفسكم ستأتي الشاحنات لنقلكم العصر.

 

أنهى أبو علي كلامه وكل واحد منا يتطلع بشوق راجيا أن يكون مع المفرجين. ثم أخذوا ينادون على أسمائنا. وما أشد فرحتي عندما ذكروا اسمي. لقد كان يوم مولدي الجديد الآن استطيع أن أعود إلى أهلي والان ستنتهي عذاباتي. لقد كان ذلك اليوم يوم سعد في المعتقل وكان المفرج عنهم فرحون, لكن بقي عدد لم يفرج عنهم؛ فكنا نواسيهم, ونخفف عنهم بالكلام, ونقول لهم بأننا سننقل أخبارهم إلى أهلهم, وأن لا يقلقوا, فإن المقاومة لا شك لديها أسرى وستبادلهم بهم.

عند العصر جاءنا عدد من عساكر الأمن والحوثة وكانوا يباركون لنا الإفراج وهم يتضاحكون. لقد كان لطفهم هذا من الغرابة ما أثار قلقنا.

عندما جاءت العربات صفونا ثم أخذوا يعصبون أعيننا ويقيدونا.  "ترى ماذا يريدون منا ؟ أليسوا سيطلقوننا ؟ فلمَ يقيدوننا ويغمتونا ؟ يا الله .. لعلها خاتمة المطاف والقوم يريدون تصفيتنا ؟! يا رب سلم".

كان الوقت عشاء حين أنزلونا من الشاحنة ونحن مازلنا مغمتي الأعين, وكانوا يأخذونا مثنى مثنى يسوقونا لا ندري إلى أين, ولكن نعرف من إيعازاتهم للمعتقلين. جاء دوري وواحد معي؛ فجذبونا من أيدينا, ومشوا بنا خطوات ثم أوقفونا, وحلوا وثاقنا لكنهم أبقوا الغُمات على أعيننا. قالوا لنا :

  • لا نستطيع أن نسير بكم أبعد من هذا المكان. أصحابكم هناك. سيروا إلى الأمام, وعدو خمسين خطوة, وبعدها ارفعوا الغُمات عن أعينكم وستكونون بين أصحابكم. هيا !

نفذنا الأمر, ومشينا, لكنني لم أكمل العشرين خطوة حتى نزعت الغمات عن عيني, كانت الليلة حالكة وقد وجدت نفسي أمشي في شارع مبانيه مظلمة لانقطاع الكهرباء, وكان الذي معي لا يزال يضع الغمات على عينه, فأشرت عليه بخلع الغمات. لم نلبث الا قليلا حتى بوغتنا بإطلاق النيران من الجهة التي كنا نتجه اليها. انخلع قلبي وأنا اسمع ازيز الرصاص. انبطحت على الأرض ونشب اشتباك بين الحوافش وبين المقاومة, كان أزيز الرصاص يختلف علينا من الجهتين بكثافة, وأي قيام كان سيودي بنا إلى هلاك محقق. تجلت لي الصورة وأنا تحت أزيز الرصاص. "الملاعين لم يريدوا إطلاق سراحنا, بل أرادوا أن يقتلونا بطريقة شيطانية مبتكرة, أرادوا قتلنا بنيران صديقة, إذا قتلونا بأيديهم ستبقى معهم مشكلة الجثث والخلاص منها وسيكتشف أمرهم عاجلا أو آجلا وحينها قد تعاملهم المقاومة بالمثل وتأخذ بالثأر من  أسراهم".

ظلت النيران متبادلة لنصف ساعة أو يزيد, وعندما توقفت بقيت فيما أظن لساعة منبطحا وأنا أخشى أن أنهض فيعاود المقاومون الرمي فأقتل بنيران أصدقائي. بعد الهدوء الطويل أمنت قليلا ونهضت وأخذت أجري بأسرع ما يمكن. لم أعرف أين ذهب الرجل الذي كان معي : أقتل أم نفذ بجلده. ومرة أخرى سمعت إطلاق رصاص بندقية بكثافة لكنني لم أسمع أزيزه نحوي فاستمررت بالجري حتى رأيت زقاقاً وأسرعت بالدخول إليه, كان الزقاق فيما يبدو قد هجرت مساكنه؛ لأنها بالقرب من خط النار. أدركت أنني أخطوا في طريق السلامة وقد نجاني الله من القوم الظالمين ومكائدهم الشيطانية. قلت في نفسي : الأسلم لي الآن أن أقضي الليل, وسأتحرك في الصباح ومن سيراني من المقاومين سيرى أنني بلا سلاح؛ فلن يرميني, وإن شكوا في أمري وأمسكوا بي سيعرفون ما جرى لي, وسيطلقونني. لكن ماذا سأفعل بعد ذلك ؟ هل سآخذ أسرتي إلى يافع وأعود بعد ذلك للسعودية ؟ لا والله لن آخذهم إلى يافع ولن أرجع إلى السعودية. لن يصيب أهلي في منصورة عدن ما أصابني من تعذيب وذل وإهانة, هم هناك في حفظ الله ثم حماية رجال المقاومة الأشاوس. نعم هم كذلك .. وإن قدر الله عليهم قد تصيبهم قذيفة, لكن سيموتون بعز وشرف بين أهلهم, وليس مثلما كنا في المعتقل نموت كل يوم عشرات المرات, ونموت بذل وإهانة.. لن أعود إلى السعودية بل أول شيء سأفعله بعد أن أصل إلى أهلي سأبيع من ذهب زوجتي, وسأشتري بندقية وسألتحق بالمقاومة .. نعم سألتحق بالمقاومة .. هذا هو الحل الوحيد إن أردت أن أحمي نفسي وأهلي. هؤلاء المجوس الأنجاس إن سيطروا على البلاد سيجعلونها معتقلا كبيرا سيذلوننا فيه وسيقتلون من يريدون وسيعتدون على أعراضنا .. هل تذكر ما قاله المحقق لأحد المعتقلين : "نحن قادرون أن نأتي بأهلك وزوجتك ونركبها أمامك إن لم تعترف" ؟ قال ذلك الكلام وهم لم يستطيعوا السيطرة إلا على الطريق وأجزاء يسيرة من عدن ! فكيف بهم إن سيطروا على البلاد كلها ؟ ! لكن قسما بالله العظيم أنني سأثأر منكم أيها المجوس لكل سبة وشتيمة تلقيتها منكم, وسأثأر لكل ركلة وصفعة تلقيتها منكم, سأثأر لكل ما عانيته من ذل وعذاب منكم أيها الحوافش الملاعين .. نعم سأثأر وبعد اليوم لن أراكم في نقاط التفتيش والمعتقلات تذلوننا, وتسلطون العذاب علينا, لن أنظر إليكم إلا من خلف شعيرة البندقية, ولن يبقى من تراه عيني منكم على قيد الحياة".

B

عدن 22/4/2016م