الجزء الأول

الساق الخشبية ورحلة الضياع

بين يوم وليلة انقلبت حياتها رأساً على عقب

عفاف سالم

بقلبه الحنون استطاع ان يحتويها ، كان بالنسبة لها ينبوعاً لا ينضب من الدفء والحنان  ، معه شعرت بالأمان وما عرفت أو ذاقت طعم الحرمان  ، ذات يوم سألته عن أمها ، فتنهد بعمق ، ثم ما لبث أن وضع يده على ساقه الخشبية ، وأطرق برأسه قليلاً ثم أجاب ، كنت حينها في الثالثة من عمرك عندما تعرضنا ووالدتك لحادث مروري مؤلم ، أودى بحياتها ، وكان السبب في وجود هذه الساق الخشبية التي ترينها.

تألمت في صمت وذرفت دمعات انهمرت خلسة منه ، وانصرفت لتعد له كوباً ساخناً من الشاي.

ومضت الاعوام ، وكبرت هند وتزوجت  وانجبت طفلتيها ، من دون ان تفارقه ، فقد تعلقت به وتعلق بها وغمرها وطفلتيها برعايته ، فأسفار زوجها دائمة ولا تكاد تنقطع ، لكنها الأيام عجلة تدور دون توقف ، أبت إلا أن تنتزعه منها وتنتزع معه الامان والحنان وتسقيها كأس الحرمان.

وبين يوم وليلة انقلبت حياتها رأساً على عقب ، فقد مات والدها ، الذي كان كل دنيتها ، وبفقده عرفت الوحدة ودب الخوف من المجهول في قلبها ، بكته بكل جوارحها ، وتألمت في بعده ، ومرات عدة تمنت اللحاق به الى هناك ، الى العالم الآخر حيث تحلق روحه الطاهرة فتلتقيها .

الساعات الطوال كانت تقضيها في غرفته ، فكل ما هو حولها يذكرها به، لكنها وحدها تلك الساق الخشبية كانت اكثر قرباً منه والتصاقاً به كانت تربت عليها وتحدثها بل وتداعبها ، وكأنه أمامها ..صرخات طفلتيها البريئتين فقط كانت من يعيدها الى واقعها عندما تشعران بالجوع او يداعب النعاس عينيهما الجميلتين ، اما عدا ذلك فقد كانتا تجلسان القرفصاء في هدوء وسكون تام ترقبان امهما وتنظران  اليها في ذهول وقد اوشكت على الجنون.

مضت الأشهر ومااستفاقت من صدمتها بل العكس تماماً فقد غدت ساقه الخشبية دنياها  وعالمها الذي تطوفه .

وعزم الزوج على التخلص من تلك الساق الخشبية التي باتت لاتفارقها فأحرقها أمام عينيها علها تعود الى رشدها وتفيق من غيها ومن الكابوس الذي تعيشه ، وما أن رأت النار تشب في تلك الساق حتى جن جنونها وأسرعت إليها لتنقذها ، لكنه تدخل فأمسك بمعصميها وهزها هزات عنيفة في محاولات جادة منه لإعادتها إلى صوابها وتحريرها من سجنها الذي فرضته على نفسها ومن الوهم الذي تعيشه وتأبى ان تفيق منه... ظن حينها أن الصدمة وحدها كفيلة بعلاجها فنفذ ولم يتريث أخبرها أن تلك الساق ليست إلا قطعة من الخشب لا أقل ولا أكثر ثم إنه وطفلتيها بحاجة إليها لكنها نيران الحقد كانت قد شبت بل وتأججت في قلبها تجاهه .. ظن أن العصا وحدها من تحترق وماعلم أن قلبها قد غدا جمرا فكرهته وماعادت تطيقه إو تحتمل وجوده .

 ومكث الزوج حيناً ،  آملاً أن يكون المولود الذي اوشكت على وضعه ذكراً فقد اشتاقه قبل أن يراه او ترى النور عيناه وما أن وضعت حتى اسودت الدنيا في عينيه .

وفي غفلة منها أخذ طفلتيها ورحل تاركاً إياها والرضيعة تواجهان مصيرهما وحيدتين وتضاعفت الجرعات على المسكينة وشربت من كأس الحرمان حتى ارتوت .. أما صغيرتها فما زالت على ظهرها تنتقل بها من مكان إلى آخر  والخوف عليها يمزقها بل ويكاد يقتلها خشية أن تفقدها وتلحق بأختيها . وها هي معها تنتقل بها أينما ذهبت وعندما تشعر بالجوع تستجدي قطعة خبز  لها وصغيرتها التي كتب لها أن تعيش في عالم الضياع الذي حولهما إلى أشباح على أرض الواقع .