المال مقابل الحياة

كيف فضحت السينما وهم العدالة الحديثة؟

دور السينما العربية

آلاء السوسي (غزة)

ما هي الخطيئة الأولى في تاريخ الكوكب؟ تتفق النصوص الدينية أن قتل قابيل لأخيه هابيل كانت أولى الجرائم التي حرمت البشرية من نصف نسلها، باعتبار حياة هابيل كانت حياةً لنسلٍ كاملٍ، لكن لماذا قتل الأخُ أخاه؟ تتعدد الروايات في هذه القصة، لكن أحد كتب التفاسير يروي القصة التالية:

يذكر المفسرون أن حوَّاء كانت تُنجب في كل بطن تَوأمين من ذَكَرٍ وأُنثى، وكان التزاوج محرمًا على أبناء البطن الواحد، وهكذا أصبح لزامًا على قابيل أن يتزوج أخت هابيل والعكس، ولكن قابيل لم يكن راضيًا عن جمال زوجته المقترحة، طامحًا للزواجِ من أخته من ذات البطن التي كان من المفترض أن تتزوج هابيل وفق التقسيم المسبق، وحسمًا لهذا الخلاف قررا أن يقدما قربانًا، فتقبل الله من هابيل، ولم يتقبل من قابيل نظرًا لرداءة قربانه، فقرر قابيل قتله.

لماذا قتل قابيل أخاه؟ لم يتقبل الاختلاف في الأرزاق، كان يحتجُّ على النظام الذي يجبره على الزواج من الفتاة الأقل جمالًا، بينما سيتزوج أخوه من الفتاة الأكثر جمالًا بلا أسباب واضحة سوى أنه نظام التزاوج، لقد رأى هذا النظام يفتقر إلى عدالة التوزيع.

ماذا احتاج البشر منذ بداية وجودهم وحتى الآن؟ لقد احتاج البسطاء منهم أن ينالوا حظَّ ذوي السلطة والمال والصحة، هذه الأمنية القديمة الجديدة، بينما احتاج الآخرون أن يكونوا أكثر سلطةً ومالًا وصحة، كيف إذن تتحقق العدالة الأرضية؟

على أساس هذا التناقض، وفي محاولةٍ لحلَّه، بَنَتْ كل التصورات الدينية والأيديولوجيات أفكارَها، كانت تدور جميعها حول تحقيق المساواة والعدالة بأيٍّ من الطرق الممكنة؛ لقد حاولت اليهودية -على سبيل المثال- حل لغز العدالة من خلال اعتبار العرق اليهودي آدميًّا، بينما الأعراق الأخرى في مستوى أدنى –وفقًا للإرادة الإلهية-، فقد تخلصت في نظر بعض المفكرين عن طريق هذا التمييز العرقي من سؤال الضمير، فالأعراق الأخرى ليست من ذات الجنس حتى تطلب المساواة.

حاولت المسيحية، وعلى النقيض من اليهودية، إقامة التوازن من خلال الوعود بحياة أخرى، مملكة ثانية تنتصر للفقراء، وتعوضهم كل خساراتهم في الحياة الأولى، تلك الحياة التي مهما كانت مكاسبها فهي ضئيلة، وبلا أي مقارنة بحياة الخلود في مملكة الرب؛ حيث الفقراء هم أحباء الرب وهم أبناؤه المختارون، كما روت.

حاول النظام الإسلامي القيام على أساسات متعددة لتحقيق العدالة؛ من ناحية: ساوى بين الناس وجعل ميزان التفاضل هو سلامة القلب، وجعل الكثير من العبادات الجماعية وسيلة لاستشعار هذه المساواة، ومن ناحية ثانية: فقد أقرَّ التفاوت كحقيقة لا يمكن تجاوزها، وفي الآية «نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» إقرارٌ لهذا التفاوت الحتميّ، وعزاءٌ بأن (رحمة الله) ستعوِّض هذا التفاوت في الأرزاق الدنيوية.

الأيديولوجيات أيضًا حاولت أن تحل هذا الإشكال، من خلال الأنظمة الاقتصادية التي اقترحتها، وربما كان النظامان الرأسمالي والاشتراكي هما الأشد تنافسًا في فترة الحرب الباردة.

يفترض النظام الرأسمالي أن المنافسة هي العدالة، بمعنى أن يُترك الجميع لقدراتهم، ولما يمكن أن يطوروه من قدرات لامتلاك ما يستطيعون امتلاكه في هذه الحياة، بعيدًا عن تحكم الدولة في هذه العملية الحرة، إلا عبر لائحة من القوانين التي تؤطر نظام السوق الحر، بينما يرى النظام الاشتراكي أن الحدَّ من الملكية الخاصة، والعمل تدريجيًّا حتى الوصول إلى مرحلة شيوعية الأرزاق هو الذي سيحقق العدالة، بحيث يعمل الجميع ويتساوى الجميع في ممتلكاتهم.

مع انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، تقلصت فاعلية النظام الاقتصادي الاشتراكي، بينما تمدد النظام الرأسمالي وتوسَّع حتى سيطر على الأسواق العالمية المتحكمة في اقتصاديات العالم الكبرى، وهكذا أصبح الإنسان ساقطًا في عجلةِ المنافسة التي تتطلب منه أن يستمرَّ في الدوران بالترس دون توقف، وإلا سيكون خاسرًا، فكيف انعكس هذا النظام على حياة الفرد؟ هذه هي الفكرة التي ناقشتها بعض الأفلام السينمائية، وسنعرضها في هذا التقرير.

1. فيلم «IN TIME»: حين تصبح النقود عداد حياتك!

حين نصل جميعًا إلى سن الخامسة والعشرين، يكون العالم من حولنا قد توقف –رسميًّا- عن منحنا شيئًا مجانيًّا، مقابل كل شيء سندفع فاتورة، إن لم ندفع الفاتورة فنحن على الأغلب لن نحصل على أي شيء، وحين ندرك هذه الحقيقة نبدأ في السعي من أجل المال، والحصول على وظيفة، حتى إننا نؤهل أنفسنا مسبقًا بكل الطرق الممكنة لكي نضمن لأنفسنا البقاء الذي يمنح «الأفضل» فقط صلاحية الوجود، ومع هذا الانخراط المريع في المنافسة التي تبدو عادلةً رغم أنها (غير رحيمة) يمضي العمر سريعًا.

يلتقط الفيلم هذه الفكرة ليحولها إلى قصة تنتمي لحقل الخيال العلمي، ففي تلك البقعة المختلَقة من العالم يولد الأطفال وداخل معصم أيديهم عدادات زمنية، وبفضل مجانية الحياة حتى سن الخامسة والعشرين، فإنهم يتوقفون عن النمو البيولوجي بعد هذا السن، فتبقى أشكالهم كما هي حتى آخر لحظة، لكن المعضلة أنه بعد بلوغ الخامسة والعشرين، ينبغي عليك أن تكسب العمر عن طريق العمل، وهكذا يتحول الزمن إلى عملة، بقدر ما تكسب من هذه العملة في ساعة معصم يدك تعيش، وإن لم تحصل عليها ستموت ببساطة.

على سبيل المثال: ستشتري كوب قهوة مقابل ثلاث دقائق تدفعها من ساعة يدك، هذه الثلاث دقائق تخصم من عداد عمرك في الحقيقة، ولكنك ستعمل ثماني ساعات مقابل أربعٍ وعشرين ساعة تضاف إلى رصيد عمرك، وهكذا يستمر سكان هذه المدينة في تبادل أعمارهم بيعًا وشراءً من أجل الاستمرار في الحياة.

العدالة
(الموت نتيجة تصفير عداد الساعة في معصم اليد)


– هل تبدو الفكرة غريبة؟

يمكن أن نراجع ذاكرتنا معًا، هل سمعتَ قصةً عن امرأةٍ ماتت أمام بوابة مستشفى لأنها لا تملك ثمنَ العملية التي ستنقذ حياتها، أو لأنها لا تملك تأمينًا صحيًّا؟ على الأرجح أنا وأنت نملك قصةً مشابهةً بتفاصيل مختلفة، القصة تبدو صادمة لأن معادلة (الحياة مقابل المال) كانت عملية سريعة وواضحة تمامًا، لكن ماذا إذا كانت هذه المعادلة هي المعادلة التي تنظم حياتنا بأكملها دون أن ندري؛ لأنها غير مباشرة وتنفذ ببطء شديد؟

لكي تصبح هذه المعادلة واضحة في الحياة اليومية يختصرها الفيلم في مشهد مروِّع، تحاول الأم أن تركب الحافلة لكي تصل إلى البيت، لكنها تفاجأ أن سعر التذكرة قد ارتفع، وهي لا تملك الوقت الكافي لتدفعه، حاولت إقناع السائق بأنها إذا دفعت كل ما تملكه من وقت في ساعة معصمها سينتهي زمنها في الحياة وتموت، لكن السائق يحفظ المعادلة (العملة مقابل كل شيء) فيرفض، تضطر إلى استهلاك زمنها في الجري وصولًا إلى البيت، عساها تصل قبل نفاذه، وحينها قد يمنحها ابنها مزيدًا من الزمن عبر عملية تبادل، لكن المسافة من موقف الحافلات وحتى المنزل تكون أطول من زمنها الذي تملكه، تموت قبل أن تصل معصم ولدها، لأن زمنها قد انتهى.

(مشهد موت والدة البطل بسبب عدم امتلاكها الوقت)

باختصار هذه هي حياتنا اليومية بشكل بسيط، سعي سريع ومحموم من أجل تأمين مصدر رزق يحفظ لنا الحياة، ولكن هل المدينة كلها تعيش في هذه السرعة المحمومة؟

كما في عالمنا، ورغم نظام المنافسة الحرة الذي يبدو عادلًا، يُولد البعض وفي أفواههم ملعقة من ذهب، بينما يولد آخرون وفي أفواههم لقمة تكفي يومًا واحدًا فقط، هناك في الأحياء المعزولة للطبقة الراقية، يولد الأطفال وفي معاصم أيديهم مئات السنين، بحيث لا يقلقون من الغد ولا بعد غد، يلعبون لعبة الزمن باحتراف، ولا يلاحقون الوقت رغبةً في الحصول على المزيد منه، لأنهم يحصلون على المزيد عبر تجارتهم الحرة التي يستنزفون خلالها أعمارَ الفقراء، كما يظهر في الفيلم.

ولأن هذه المعادلة لا ترضي الفتى فإنه يحاول إعادة توزيع الثروة من خلال سرقة بنوك الوقت، وتوزيعها مجانًا على الأحياء الفقيرة، حول جدوى هذا التوزيع المتساوي للثروة يدور حوارٌ أخير بين الشاب، ومدير البنك الثري:

– المدير: حتى لو منحتَ مليون عام لمليون شخص، فإنك لن تزيد سوى صراعاتهم.

– بل إنك هكذا ستطيل حيواتهم.

– تدفق مليون عام إلى المنطقة الخطأ قد يفسد النظام.

– هذا ما نأمله.

– ربما يمكنك الإخلال بميزان جيل أو جيلين، لكن لا تخدع نفسك، فلن يتغير شيء في النهاية، الآن الجميع يودُّ العيش أبدًا، يحسبون جميعًا أن لديهم فرصة للخلود، بينما كل الدلائل الملموسة تنفي ذلك. يحسبون أن القدر سيستثنيهم جميعًا، لكن مفاد حقيقة الأمر، أن ثمة بضعة ليخلدوا، والكثير ليموتوا.

هذا التساؤل الأخير حول ما إذا كان الصراع البشري سيتوقف في حال التوزيع المتساوي للثروة أو لا، يظل تساؤلًا خطرًا، فهل يضمن أحدنا بالفعل أن النفس البشرية لن تتوق إلى المزيد من السلطة والقوة والتفرد في حال شعرت بأنها تملك ما يملكه الجميع؟ وهل الحقيقة بالفعل أن فقط قليلين –دائمًا- سيكونون النخبة عبر السلطة والمال، بينما الآخرون لم يزيدوا عن كونهم جماهير فقط؟

في حوارٍ آخر بين الشاب والفتاة المتمردين على النظام، وبين الشرطي «صائد الوقت» حول عدالة هذا النظام، يعزو الشرطي إيمانه بمهمته لمرجعيات متجاوزة ومجهولة، يقول: «لستُ من بدأ ساعات الحياة، ولا يمكنني العودة بالزمن لتصويب ذلك. إنني أحافظ على سير عجلة الوقت، وأصون الوقت».

توحي هذه العبارة بأن الاختلاف فيما نملكه ذو مرجعية غيبية لا يمكن الاعتراض عليها، ولكن يمكن تكريسها حفاظًا على النظام، هل يقارب هذا معنى الآية: «نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيّا».
في حال تجاوزنا التتمة الأخلاقية لها بأن رحمة الله خير من هذه الأنصبة؟

2. «Fight Club».. حين يكون العنف وسيلةً للخلاص

من المعروف أن كل أيديولوجيا أو نظرية سياسية إنما تعِد من يعتنقها بخلاصٍ ما، لكن في فيلم نادي القتال -المستوحى من رواية- لا يجد البطل أي طريقة للخلاص سوى العنف.

في كثير من أعمال العنف، يصف الأفراد المحيطون بمرتكب الجريمة صديقهم بالهدوء، ويبدون استغرابهم من كونه قد ارتكب هذه الجريمة بالفعل، وهو نفسه البطل في هذا الفيلم، شخصٌ هادئ، موظف في شركة كبرى ملتزم بعمله وجاد، لكنه يحتفظ خلف وجهه الهادئ وبدلته الرسمية بوجهٍ آخر ناقم على هذا النمط من الاستعباد اليومي للوظيفة المرموقة ببروتوكولاتها ومهماتها المملة التي لا تتغير.

يعاني البطل من أرق دائم حتى إنه لا ينام أبدًا، ويحاول التخلص من حالة الأرق التي تجعل إدراكه للزمن، وبالتالي للأمور عامةً، مضطربًا، فينضم إلى جلسات الدعم النفسي التي تقام لمرضى السرطان وغيرهم، في هذه الجلسات يستطيع أن يبكي، ولأول مرة يستطيع أن ينام.

لكن الأمور لا تستمر بهذه الطريقة، ويعود إلى حالة الأرق الأولى التي تسبب له انفصامًا حادًا في شخصيته. هذه المرة يظهر «المتمرد» المتواري وراء وجه الموظف الهادئ الذي يطيع مديره في العمل، ويخضع تمامًا لعالم استهلاكي بامتياز، يظهر المتمرد ليؤسس ناديًا للقتال، يتقاتل المشاركون لا لشيء، إنما لأن هذا العنف يحررهم من أسر الحياة الجديدة.

«الفوضى» هي العدالة المقترحة في هذا الفيلم، يخاطب البطل المتمرد أتباعه في خطابٍ يوجز مأساة الإنسان الحديث في العصر الرأسمالي؛ فيقول:

«جيل كامل يضخ الوقود، يخدم طاولات المطاعم.. استعبدتنا الياقات البيضاء. الإعلانات تمتلكنا وتدفعنا لمطاردة السيارات والملابس. نعمل في وظائف نكرهها لنشتري تفاهات لا نحتاجها. نحن الأبناء المتوسطون للتاريخ، لا غرض، ولا مكان، ولا نخوض حربًا عظيمة، ولا كسادًا كبيرًا. حربنا العظمى هي حرب روحانية، كسادنا الكبير هو حياتنا. كما تربينا أمام التلفاز لنؤمن أننا ذات يوم سنصبح أصحاب المليارات ونجوم سينما ومطربين كبار، لكننا لم نصبح، ندرك هذه الحقيقة ببطء».

(خطاب تايلر دردن في نقد الحياة المعاصرة)

هذا الاحتجاج على مظاهر الحياة الاستهلاكية الحديثة بكافة أشكالها يدفع البطل لتوسيع مشروع الفوضى، ينضم إليه الخاسرون والفاشلون والناقمون على حياة أصبحوا يشعرون أنهم لن يملكوها يومًا، إنما سيستمرون في مطاردتها فقط، حتى الأشياء التي نملكها يرى البطل الناقم أنها هي التي تملكنا، وأننا لن نصبح أحرارًا قادرين على فعل أي شيء إلا إذا خسرنا كل شيء، بعد وقتٍ من الانفصال عن عجلة الدوران في هذا النظام تتغير نظرة البطل؛ فيقول:

«اختلفت نظرتنا جميعًا للأمور، أينما ذهبنا كنا نعيد تقييم الأمور، أشفقت على الأشخاص المكدسين في القاعات الرياضية محاولين أن يبدوا كتصميمات (كيلفن كلاين) أو (تومي هيل)».

لم تعد العضلات المفتولة حلمه كما كل الشباب في عصر الاستهلاك الذي يصور أن جاذبية الرجولة لن تكون إلا بمقاييس كتلك، لقد تحرر من كونه هدفًا للدعاية.

جيشٌ من الخاسرين في هذا النظام، والذين شعروا بأنهم مستعبدين له رأوا في الفوضى والسخرية تحقيقًا للعدالة. ينتهي الفيلم بمشهد تفجير كافة مباني المؤسسة الاقتصادية الكبرى، فهل تحققت العدالة حين عاد الجميع إلى الصفر كما أراد البطل من هذا التفجير؟

3. «The Dark Knight Rises»: الانتقام الشامل هو العدالة

تقوم أخلاقيات الاقتصاديات الحديثة على ادعاء مساواة الجميع في فرصة العمل، والدخول الحر إلى السوق، لكن هل هذه هي الحقيقة؟

أولئك الذين وُلدوا في العشوائيات الفقيرة بلا حظ جيد من التعليم، والصحة، هل يمكن أن يحتملوا المنافسة والدخول إلى السوق؟ الأمر كما في هذا الفيلم يشبه أن يُلقى بك في كهف عميق مظلم لا تملك للخروج منه سوى حبل طويل، ستجاهد آلاف المرات، وربما ستفشل في النهاية في الخروج من هذا القاع المظلم.

«تاليا» الطفلة التي لم تكن مقبولة، ألقي بها مع والدتها في هذا العالم السحيق منذ الطفولة، وكان عليها أن تجاهد يوميًا من أجل محاولة الخروج من هذا القاع بحماية صديقها باين، الجميع قبلهم فشلوا؛ إذ لم يستطع أحد تجاوز تلك الحافة التي تمنع من الوصول إلى السطح، لكنه كان عنيدةً وقويةً بما يكفي لتخرج في النهاية، رغم أن باين سيدفع ثمن المساعدة في هذا الخروج.يخرج باين أيضًا بعدها، هما اللذان عانيا آلام النبذ في هذه البقعة السحيقة من العالم السفلي، لا يريان سوى الانتقام من مدينة جوثام الافتراضية؛ جوثام هي النموذج المصغر للعالم اليوم، حين تأخذ الكاميرا مشهداً واسعاً لتصميمها العمائري يظهر هذا التناقض الفظ بين عالمين: عالم ناطحات السحاب، وعالم الفقر والمعاناة شديد البؤس، هذه صورة الكرة الأرضية من الخارج: عالم أول (صناعي)، وثانٍ (نامٍ) وثالث(متخلف).

جوثام القائمة على اقتصاديات متوحشة، والتي تطور أسلحتها باستمرار، ستدفع ثمن خطيئة «عدالتها المزورة» عبر باين وأمثاله من من يشعرون بأن هذه المدينة لا «أبرياء» فيها، كما تقول تاليا، سيقدم باين نفسه كمخلص يريد إعادة المدينة إلى عدالةٍ حقيقية، تتمثل في شيوعية الملكية بدلا من «العدالة المدمِّرة» لاقتصاديات البنوك والبورصة.

يلقي باين خطابه لأهل مدينة جوثام قائلاً:

«سوف نأخذ جوثام من المفسدين، الأغنياء، الظالمين، الأجيال التي ظلت تعدكم بتحقيق فرصة أسطورية، سنعيد السلطة إليكم، إلى الشعب! جوثام لكم، ولن يكون هناك أي تدخل، افعلوا ما يحلو لكم، سنبدأ باقتحام Blackgate (سجن المدينة)، وتحرير المظلومين (السجناء المجرمين)، على الذين يرغبون في التطوع أن يتقدموا، سيرفع لواء الجيش، سنمزق الأعشاش المنحلة للأغنياء، وسُيلقي بهم في العوالم البارد التي نعرفها جيدًا، وسوف تعقد المحاكم. سنستمتع بالغنائم، وسيسفك الدم».


(خطاب باين)

هذه هي العدالة الحقيقية التي يراها باين، أن تعمَّ حالةٌ من المساواة، ما أخذه الأغنياء سيصبح ملكية الفقراء، وما أخذته السلطة بالقانون سيصبح غير معمولٍ به؛ لأنه قانون قائمٌ على الخداع، بل إن رموز السلطة والقانون ستعقد لهم المحاكم العرفية وسيكونون أمام خيارالإعدام السريع أو النفي إلى مناطق الجليد ليتذوقوا برودة معاناة القاع – حسب باين – وإلا فلتتدمر هذه المدينة كلها.

إن عدالة باين المقترحة ربما يراها البعض متطرفة، تمامًا ككل العنف المتطرف الذي نراه في الجماعات المسلحة في الوقت الحالي، «تنظيم الدولة الإسلامية» (داعش) وغيره من الجماعات التي أخذت تصدر صور عنفها بلا خوف، وكأن كل هذا العنف فيه من الأخلاقية ما يكفي لنشره.

لا ينحاز الفيلم إلى عدالة باين المقترحة، ولا لأيٍّ من نماذج العدالة المقترحة في الأجزاء السابقة من فيلم باتمان، بل يتبنى رؤية باتمان القائمة على ضرورة السعي للتغيير الإيجابي، وتحقيق العدالة من خلال القانون ومؤسسات الدولة، وخلق النموذج المثالي الذي هو باتمان نفسه، لكن تظهر التقارير أن تعاطف المشاهدين لم يكن غالبًا مع باتمان، بل مع الشخصيات المضادة، خاصةً شخصية الجوكر.

شخصية الجوكر توصلت إلى استحالة تحقيق العدالة على وجه الكوكب، وتبنت لعبة الحظ عبر وجهي العملة النقدية: صورة/ كتابة، كوسيلة ساخرة لتحقيق المصائر البشرية، أضحت نموذجًا لكل الساخطين على العالم، اليائسين من عدالته، وحققت تعاطفًا معها أكثر من التعاطف مع باتمان.

(الفوضى هي عدالة الجوكر)

في نظر البعض، فإن حلم العدالة الشاملة والمساواة التامة ليس سوى يوتوبيا، وقد أرادت هذه الأفلام السينمائية تحطيمها بقسوة توازي قسوة الواقع، وكأنها تقرُّ أن الخلاص الأرضي الأبدي لن يتحقق، وإذا كان ثمة أمل فلن يكون له فرصة سوى في عالمٍ آخر، بموازين مختلفة.