15 عامًا من «حكم الفرد»..
تقرير: كيف وأد «أردوغان» المعارضة التركية؟

أردوغان

قبل وصوله لسدة الحكم في تركيا، ارتدى رجب طيب أردوغان، قناع الرجل الديمقراطي، والمدافع عن الحريات، والساعي إلى خلق تنوع في الحياة السياسية التركية، وراح يُطلق الكثير من الوعود الضامنة لهذا؛ إلا أنه وبمجرد توليه منصب رئاسة الوزراء في 15 مارس 2003، بدأ يتخلى عن هذه الشعارات الزائفة شيئًا فشيئًا.
وعقب توليه رئاسة تركيا في 10 من أغسطس عام 2014، تخلى «أردوغان» عن شعارات الديمقراطية التي كان يتشدق بها على غير قناعة منه، وراح يُظهر وجهه الديكتاتوري الحقيقي الذي عمل من خلاله على وأد أي مساعٍ من شأنها السير في طريق التحول الديمقراطي، والقضاء على أي بادرة تلوح في الأفق من أجل ضمان تداول السلطة بين جميع الأحزاب السياسية التركية، والتنكيل بكل معارضيه.
تغيير الخريطة السياسية
«أردوغان»، البالغ من العمر 64 عامًا، انتخب في 9 مارس عام 2003، عضوًا بالبرلمان التركي عن مدينة سرت، وفي 15 من الشهر ذاته صعد إلى سدة السلطة بتركيا؛ وذلك حين تولى منصب رئاسة الوزراء بتزكية من حزب العدالة والتنمية (صاحب الأغلبية البرلمانية حينذاك) الذي كان يترأسه.
كان الدستور التركي حين تولى رجب طيب أردوغان، رئاسة الوزراء، يقضي بأن نظام الحكم في تركيا برلماني، ورئيس الجمهورية مجرد منصب شرفي، وهو ما التزم به «أردوغان» لأنه ضمن له تحقيق أطماعه بتغيير الخريطة السياسية التركية، بحكم أنه الرجل الأول هناك.
ظل «أردوغان» رئيسًا لوزراء تركيا 11 عامًا، مارس خلالها كل أنواع التنكيل بمعارضيه وخصومه السياسيين، ونجح بفعل ديكتاتوريته (التي لم يشهد لها الأتراك مثيلًا من قبل) في جعل العدالة والتنمية هو الحزب الأوحد على الساحة السياسية التركية.
مخالفة الدستور التركي
لم يكن يحق لرئيس الوزراء (وفقًا للدستور التركي) البقاء في منصبه لأكثر من فترتين، وهو ما جعل «أردوغان» في 10 من أغسطس عام 2014، يتولى منصب رئاسة الجمهورية، الذي كان يعني حرمانه من الظهور على الساحة التركية الداخلية، فضلًا عن عدم أحقيته في التحدث باسم تركيا في أي شأن خارجي؛ إلا أنه تحايل على هذا الوضع أيضًا، وظل يمارس قبضته الديكتاتورية مهمشًا رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو (تولى المنصب منذ 28 من أغسطس 2014، وحتى 23 مايو 2016).
ضرب «أردوغان» عقب توليه منصب رئاسة الجمهورية، بالدستور التركي، الذي كان ينص على شرفية المنصب وعدم أحقية من يتولاه في التدخل بأي شؤون داخلية أو خارجية، عرض الحائط، وراح يتناول جميع القضايا عبر وسائل الإعلام المحلية والعالمية؛ بحجة أنه «مواطن» وله حق إبداء رأيه في كل القضايا التي تهم بلاده، مستغلًا في هذا كون «أوغلو» عضوًا بحزب العدالة والتنمية، وبالتالي ليس باستطاعته الاعتراض على هذه الخروقات الدستورية، وإلا كان سيعاقب بسحب الثقة منه وإقصائه من رئاسة الوزراء.
الديكتاتورية التي مارسها «أردوغان» على مدار 11 عامًا (مدة توليه رئاسة الوزراء)، ثم عدم احترامه للدستور التركي عقب توليه الرئاسة، وغيرها من القرارات والأفعال التي جرفت الحياة السياسية التركية، قابلها الأتراك بموجة غضب عارمة، تجسدت نتائجها على أرض الواقع في الانتخابات التشريعية التي أجريت عام 2015، حيث تراجعت شعبية حزب العدالة والتنمية، ولم يحصل على الأغلبية البرلمانية لأول مرة منذ 15 عامًا.
تزوير الانتخابات التشريعية
كان فشل «العدالة والتنمية» في الحصول على الأغلبية البرلمانية، يعني بالضرورة عدم أحقيته في تشكيل الحكومة، وبالتالي كان منصب رئيس الوزراء سيذهب إلى أي حزب (أو ائتلاف حزبي) آخر، وهو ما يعني تفعيل الدستور مرة أخرى وعودة رئيس الجمهورية إلى شرفية المنصب، ووقف خروقات «أردوغان» الدستورية.
تحايل «أردوغان»، على إرادة الشعب التركي، ووجه حزب العدالة والتنمية إلى معارضة تشكيل ائتلاف حكومي مع أي من الأحزاب الأخرى (كانت الضرورة الدستورية تقتضي تشكيل ائتلاف حزبي لعدم حصول أي حزب على الأغلبية البرلمانية في انتخابات 2015)، إضافة إلى إفشال أي محاولات تقوم بها القوى السياسية لإتمام هذا الأمر.
وأمام هذا الوضع السياسي المتأزم الذي تعمد «أردوغان» خلقه، دعا أعضاء حزب العدالة والتنمية إلى انتخابات برلمانية مبكرة في نوفمبر من العام 2015، بالرغم من أنه لم يمضِ على إجراء الانتخابات سوى أشهر معدودة، وزعموا حيال هذا أنهم يسعون إلى التغلب على الأزمة الدستورية التي أوجدها عدم موافقة باقي الأحزاب التركية على تشكيل ائتلاف حكومي.
ولأن الأمر كله كان خديعة ومخالفة للدستور فقد أجريت الانتخابات البرلمانية المبكرة بالفعل، ثم أُعلن فوز حزب العدالة والتنمية بالأغلبية البرلمانية الساحقة، وكأن الناخب التركي الذي رفض هذا الحزب منذ شهور رضي عنه فجأة ووثق به من جديد، وأمام هذا الوضع الديكتاتوري تحقق لـ«أردوغان» ما أراد، حيث ضمنت له هذه النتائج المزورة البقاء في السلطة منفردًا.
خديعة الانقلاب الفاشل
عقب تزوير الانتخابات التشريعية التركية في العام 2015، حاولت الأحزاب والقوى السياسية التركية توحيد صفوفها للتخلص من هيمنة حزب العدالة والتنمية على المشهد التركي؛ فلم تكن قبضة الديكتاتور حينذاك قد أحكمت سيطرتها على كل أنحاء تركيا، وبالفعل شعر «أردوغان» بالخطر، ولذا فكر في حيلة جديدة تضمن له التنكيل بكل معارضيه، وهو ما تحقق له عقب خديعة الانقلاب العسكري الفاشل التي جرى تنفيذها في 15 من يوليو عام 2016.
وتؤكد أكثرية الأدلة أن حزب العدالة والتنمية برئاسة «أردوغان»، هو المُدبر الرئيسي لهذا الانقلاب الفاشل؛ لكي يتمكن من تنفيذ مخطط «العثمانية الجديدة» (يهدف إلى إعادة الإمبراطورية العثمانية عن طريق احتلال الدول الإسلامية والعربية عقب تخريبها)، وبالفعل وفي غضون أيام تمكن الديكتاتور التركي من فرض سيطرته على كل مؤسسات الدولة التركية، وهو ما ضمن له تقرير سياساته بصلاحيات أكثر ودون أي مساءلة؛ لأنه لم يعد هناك معارضون له.
تمكن «أردوغان»، عقب خديعة الانقلاب الفاشل، من إحكام قبضته الديكتاتورية على كل أنحاء تركيا، وراح ينكل بكل خصومه السياسيين دون أن يجرؤ أحد على معارضته، ثم بدأ في التغيير الكامل للتركيبة السياسية التركية (دستورًا وأحزابًا) بما يضمن له البقاء في الحكم إلى الأبد.
حملات اعتقال عشوائية
ووفقًا لصحيفة «الزمان» التركية؛ فإن نظام «أردوغان»، منذ 15 من يوليو 2016 (تاريخ الانقلاب الفاشل) شنَّ حملات اعتقال عشوائية طالت جميع فئات المجتمع التركي، ويقبع داخل السجون والمعتقلات التركية منذ ذلك اليوم وحتى الآن 50 ألف معتقل، إضافة إلى 70 ألفًا آخرين من الطلاب الدارسين بمختلف مراحل التعليم الثانوية والجامعية والأقسام التمهيدية للدراسات العليا، و252 ألف سجين، من بينهم 768 طفلًا، و135 صحفيًّا، و361 سجينًا حالتهم الصحية حرجة ولا يسمح لهم بتلقي العلاج.
وتؤكد الإحصائيات الصادرة عن مراكز حقوقية وهيئات دولية، أن عدد الطلاب الأتراك الذين اعتقلهم نظام «أردوغان» منذ صعوده إلى سُدة الحكم وحتى اليوم، يعادل «ثلثي» عدد المعتقلين والمسجونين الأتراك، إضافة إلى ما يزيد على 100 ألف طالب آخرين مازالوا يحاكمون دون إصدار قرار اعتقال أو احتجاز بحقهم، وهو ما يعني أن عدد الطلاب المعتقلين يفوق تعداد 699 مدينة تركية.
وتؤكد الإحصائيات التي نشرتها صحيفة «الزمان» التركية، أن نظام «أردوغان»، عزل منذ يوليو 2016 وحتى الآن 150 ألفًا كانوا يعملون في الجيش والشرطة ومختلف القطاعات، إضافة إلى فصل 4500 قاضٍ ومدعٍ عام من عملهم، وأغلق 2349 مؤسسة تعليمية وصحية، و30 دار نشر، و15 جامعة، واستولى على 1000 شركة يُقدر رأس مالها بـ46 مليار ليرة تركية.
دستور يخدم أردوغان
وفي فبراير من العام 2017 (عقب مرور 8 شهور من الانقلاب)، عدَّل حزب العدالة والتنمية 18 مادة من الدستور التركي، جميعها تخدم «أردوغان»، وتُكرث بقاءه الأبدي على سدة السلطة، وتمكنه من التنكيل بأي معارضين له في حال ظهورهم.
ولم يكتفِ «أردوغان»، بكل هذه القوانين والممارسات الديكتاتورية السابق ذكر بعضٍ منها؛ بل أعاد وبقوة تفعيل أداة تنكيل دأب على استخدامها قبل محاولة الانقلاب الفاشلة، وهي توجيه تهمة «إهانة الرئيس» لكل مواطن تركي لا ينتمي لـ«العدالة والتنمية»، وهو السيف الذي يسلطه الديكتاتور التركي على رقاب كل أطياف الشعب التركي.
وتفعيلًا لوطأة ديكتاتورية قانون «إهانة الرئيس» الذي تنص عليه المادة 299 من قانون العقوبات التركي، رفع البرلمان في الأربعاء 26 من ديسمبر الحالي، الحصانة عن 68 نائبًا، أغلبهم من حزب الشعب الجمهوري الذي يتزعم المعارضة التركية، عقب توجيه النيابة العامة لهم تهمة «إهانة أردوغان»، وهو ما جعلهم معرضين للسجن مدة تتراوح ما بين عام و4 أعوام.
ووفقًا لما نشرته صحيفة «جمهوريت» التركية؛ فإن «نظام أردوغان» منذ عام 2015 وحتى الآن، وجَّه تهمة «إهانة الرئيس» لأكثر من 68 ألفًا و817 مواطنًا تركيًّا، وحوكم 12 ألفًا و839 شخصًا منهم أمام القضاء، إضافة إلى اعتقال 3 آلاف و414 مواطن آخر بالتهمة نفسها.