علاج بسيط يمكن أن يقدم لنا مخرجاً

كيف يغير القلق من قناعاتك؟

يمكن للقلق أن يغير الطريقة التي ننظر بها إلى العالم، وآراءنا السياسية أيضا

بوبي أزاريان (القاهرة)

يمكن لحالة القلق التي تنتابنا في أوقات معينة أن تغير الطريقة التي ننظر بها إلى العالم من حولنا تماما، ويمكن أيضا أن تدفعنا إلى تغيير آرائنا السياسية. لكن هل يمكن لعلاج بسيط أن يقدم لنا مخرجاً من هذه الحالة؟

عندما تمضي أفكارك بلا سيطرة، تبدأ دقات قلبك في التسارع، ويصبح تنفسك أكثر صعوبة. وهذا الضيق يتبعه نوع من القلق، وبدون سابق إنذار، يصبح الارتباك هو سيد الموقف.

وفجأة تشعر بأنك غارق في المشاكل، وأنك تتحمل ما لا تطيق. إذا شعرت بهذه الأعراض بشكل متكرر، فكن على ثقة أنك لست وحدك في هذا الأمر.

فهناك ممثلون، مثل جنيفر لورانس، وإيما ستون، وموسيقيون مثل بريان ويلسون، وتايلور سويفت، وفنانون مثل فان غوخ، وكتاب من أمثال إيميلي ديكينسون، عانوا جميعا من نوبات من القلق كانت تعوقهم عن القيام بأي نشاط.

نعلم جميعنا أن القلق يؤثر على حالتنا العاطفية، ويجعل تواصلنا مع العالم صعباً، لكن الأمر الأقل وضوحاً هو كيف يؤدي القلق إلى تحول انتباهنا عن الشيء الذي كنا نركز عليه.

يغير القلق حالة الوعي لدينا، وذلك عن طريق تشتيت الانتباه، وبالتالي يغير أيضا الطريقة التي نعيش بها الواقع. ومن شأن ذلك أن يكون له نتائج كبيرة.

فتأثير القلق على قدرتنا على التركيز ربما يؤدي إلى تشكيل وجهات نظر خاطئة، وتشكيل الطريقة التي نرى بها العالم بصورة معينة. وربما يؤدي ذلك أيضاً إلى تغيير قناعاتنا السياسية دون أن نشعر بذلك.

وللوقاية من تأثير القلق على تشويه الواقع لدينا، ينبغي أولاً أن نفهم كيف يعمل انتباهنا، والطرق التي يمكن أن تؤثر فيه.

وباستخدام الاستعارة التي ابتكرها عالم النفس الأمريكي وليام جيمز من القرن التاسع عشر، يعمل نظام التركيز البصري لدينا من خلال بقعة ضوئية للانتباه، والتي تمر على جميع الأشياء من حولنا قبل أن تتركز على شي واحد في كل مرة.

وتمثل تلك البقعة الضوئية الخاصة بالانتباه دائرة محدودة تشغل بؤرة انتباهنا في لحظة من اللحظات. وما يقع داخل حدود تلك البقعة الضوئية يمكننا التركيز عليه، والتعامل معه بوعي، بينما لا يمكننا التعاطي مع ما يقع خارج تلك البقعة الضوئية بطريقة واعية.

وبتحريك عيوننا حول مشهد بصري معين، يمكننا تسليط تلك البقعة الضوئية للانتباه على أي منطقة من البيئة التي نريد أن نتفحص تفاصيلها. وفي الحقيقة، فإن التدقيق في أي شيء سواء كان نصاً مكتوباً، أو مكانا ما، لا يمكن أن يتم إلا إذا تم استحضاره أولا إلى داخل تلك البقعة الضوئية الخاصة بالانتباه.

ويمكننا أن نتفهم ما يفعله انتباهنا عندما نقرأ كتاباً في قطار مزدحم. إذ تنتقل عيوننا على الصفحة من اليمين إلى اليسار، سطرا وراء آخر، لننقل البقعة الضوئية للانتباه من كلمة إلى أخرى.

والسبب في أن تلك البقعة الضوئية للانتباه محدودة المجال هو أن تلقي كافة المعلومات البصرية من بيئة معينة مرة واحدة يتجاوز قدرة الدماغ، والذي يمثل نظاما محدود الموارد، يشبه في ذلك جهاز الكمبيوتر إلى حد بعيد.

وتتيح تلك البقعة الضوئية الخاصة بالانتباه لدماغك أن يركز على ما هو مهم فقط، بينما يهمل ما ليس كذلك. وهذا ما يجعل الواقع سهل الاستيعاب.

وهناك بعض الأشياء، مثل الوميض الساطع، أو حركة كبيرة مفاجئة حولنا، يمكن أن تستحوذ بشكل تلقائي على البقعة الضوئية لانتباهنا، وتحول ذلك الانتباه إلى شيء آخر غير الذي كنا نركز فيه.

وربما يبدو تحول الانتباه بصورة مفاجئة وغير متوقعة أمراً لا يبعث على الارتياح، لكن هذه العملية تحدث لسبب في غاية الأهمية. فهذا التحول المفاجئ في عملية الانتباه قد ينبهنا في الحال إلى شيء يمكن أن يؤثر على حياتنا.

وبالنسبة للإنسان البدائي، كان تحول الانتباه بشكل مفاجئ ينبه إلى مرور حيوان ما في الجوار يمكن صيده لوجبة العشاء مثلا، أو في حالة أخطر، يحذر من خطر كامن في الجوار، مثل حيوان مفترس أو عدو خطير.

وبسبب الارتقاء البشري، يتجاوب نظام الانتباه البصري لدينا تلقائياً مع مجموعة واسعة من التهديدات. فالثعابين، والعناكب، والوجوه الغاضبة والمخيفة، والمواقف التي تنم عن تهديد، كلها أمور تسترعي انتباهنا.

ويمكننا القول إن الانتباه البصري يعطي أولوية للتهديدات المحيطة بهدف الحفاظ على النفس.

وبينما تساعدنا هذه الوظيفة على النجاة من المخاطر، يؤدي القلق إلى أن يصبح نظام تتبع المخاطر هذا مفرطاً في الحساسية، ويغير بذلك سلوك تحول الانتباه بطريقة تسبب الضرر.

وبكلمات محددة، تتلاشي بعض السيطرة على توجيه البقعة الضوئية للانتباه، بينما يصبح تحول الانتباه سهلاً للغاية حتى مع عدم وجود شيء ما يمثل تهديداً.

وعندما يكون انتباه المرء مُركزاً فقط على التهديدات، تسيطر على وعيه معلومات خاطئة وذات طابع سلبي.

ولكي نفهم كيف يُغير القلق بالضبط مجمل الطريقة التي ينظر بها المرء للعالم من حوله، من خلال ذلك النوع من تحول الانتباه الذي يسببه القلق، يمكننا أن ننظر إلى الموقف التالي.

فقط، تخيل نفسك وأنت تقف على رصيف محطة قطارات الأنفاق، وتنظر إلى الناس من حولك. وقتها تنجذب البقعة الضوئية الخاصة بانتباهك إلى تعبيرات الوجه السلبية للناس بجوارك، بينما تهمل كل التعبيرات الإيجابية.

ونتيجة لذلك، سيبدو لك أن الضيق يظهر على وجوه كل من حولك، وفجأة ستبدو الصورة العامة لذلك المكان وللأشخاص قاتمة تماما بالنسبة لك.

وفي رحلة عودتك إلى البيت بالقطار، وعندما يكون القطار قد تجاوز كل المحطات وبقيت محطتك أنت، ستشعر بأن الرجل الضخم الجالس بجوارك يضع يده في جيب معطفه وكأنه يبحث عن سلاح، لكنها مجرد حركة طبيعية سوف تسترعي انتباهك بشدة.

لحسن الحظ، كان ذلك الرجل يخرج من جيبه هاتفه المحمول، لكن القلق لديك على هذا النحو، جعلك تفكر بأنك ستواجه تهديدا ما. فتلك التجربة بمجملها تعزز من تصورك لمحطة الأنفاق كمكان خطير يعج بالأشخاص الكارهين لك.

الآن تخيل أن ذلك السلوك المتعلق بالانتباه يصاحبك طوال الوقت. فبينما يؤدي تحول الانتباه إلى تصفية الإيجابيات وإهمالها، والسماح فقط بمرور السلبيات، سيتدفق الخوف والقلق إليك.

والنتيجة، هي تصاعد الوعي بوجود تهديد من البيئة المحيطة، وسيبدو العالم بشكل جوهري بالنسبة للشخص القلق مكاناً مرعباً، ولا يبعث على السعادة.

هذا التغيير المتطرف في طريقة النظر إلى العالم يمكنه أن يشكل وجهات نظر أشمل للعالم قد تؤثر على معتقدات الناس السياسية، وأفكارهم.

وقد أظهرت دراسة نشرت في عام 2009 على سبيل المثال أن القلق يمكن أن يحول انتباه المرء بطرق معينة تخلق انطباعاً سلبيا عن الناس من منطقة الشرق الأوسط كمصدر تهديد عموما، وهو أمر بلا شك سيؤثر على وجهات النظر السياسية المتعلقة بالهجرة، على سبيل المثال.

وقد أجرى الباحثون تجربة على مجموعة من الأشخاص الغربيين تضم عددا ممن يشعرون بالقلق، وآخرين ليس لديهم هذا الشعور. وطلب منهم تنفيذ مهمة على أجهزة الكمبيوتر تتضمن تجاوباً مع محفز بصري محدد يظهر على شاشة مجهزة بلوحة مفاتيح.

في البداية، قدمت للمشاركين كلمات محددة، ثم ظهر معها وجهان أمامهم على الشاشة، أحدهما عربي والآخر أوروبي أبيض، وتبع ذلك نقطة ضوئية متحركة يمكن أن تظهر خلف أحد الوجهين.

وكشفت النتيجة عن أن أولئك المصابين بالقلق كانوا أسرع في الاستجابة للنقاط الضوئية التي تتحرك خلف الوجه العربي عندما كانت الكلمة التي قيلت أمامهم قبل ذلك بقليل لها علاقة بالإرهاب، مثل كلمة "قنبلة".

وهذا يعني أنه عندما تم توجيه الأشخاص القلقين للتفكير باتجاه الإرهاب، تركز انتباههم البصري نحو الوجه الذي يحمل ملامح شرق أوسطية، وهو ما يشي بأن لديهم تحولا في الانتباه، ويقظة من وجود تهديد.

هذه النتيجة تجعل من السهل فهم السبب الذي يجعل الأشخاص القلقين يميلون نحو السياسيين الذين يروجون لقدرتهم على حماية المواطنين من المخاطر، من خلال سياسات معينة، كمنع الهجرة بصورة متشددة للغاية، وفرض إجراءات أمنية صارمة على المستوى الوطني.

وفي عام 2012، توصل فريق من جامعة نبراسكا إلى أن الناس الذين يعيرون اهتماماً أكبر لصور غير محببة إليهم، يميلون إلى تأييد الاتجاه السياسي اليميني.

وقد عرض الباحثون في تجربتهم أمام الليبراليين والمحافظين صوراً سلبية وأخرى إيجابية على شاشة كمبيوتر، بينما رصدوا انتباههم جميعا من خلال تسجيل حركات العينين.

وأظهرت النتائج أن أولئك الذين يميلون للنظر بسرعة أكبر، ولوقت أطول إلى الصور السلبية التي تعد مصدر تهديد (كالصور التي تمثل حادث سيارة، أو جروح، وجثامين موتى) كانوا على الأرجح من المحافظين.

وحسبما يقول الباحثون في هذه الدراسة، فإنه من المعقول أن أولئك الأكثر تكيفاً وانتباهاً للتهديد يميلون إلى يمين الوسط من الناحية السياسية، والذي يهدف عادة إلى حماية المجتمع من التهديدات الخارجية عبر تعزيز قوة الجيش، والأجهزة الأمنية، وتطبيق عقوبات أشد قسوة، وكذلك معارضة تدفق المهاجرين إلى بلادهم.

ويمكن أن يمثل القلق في أسوأ صوره حالة استنزاف لصاحبه، لكن بحثاً جديداً يظهر أن هناك مجالاً لتصحيح هذه الأعراض بصورة مباشرة باستخدام أنواع متعددة من التدريبات على الانتباه.

فضلاً عن ذلك، يقدم مثل هذا التدريب الآن عبر برمجيات سهلة الاستعمال، وحتى عبر تطبيقات الهواتف الذكية.

أكثر أنواع هذه التدريبات شيوعاً يعرف باسم "التدريب على تعديل إنحراف التركيز" (إيه بي أم تي)، والذي يعرف أيضا باسمه الأكثر شيوعاً "تعديل الانحراف الذهني" (سي بي أم).

وعلى الرغم من تعدد أنواع التدريبات المستخدمة، إلا أن الفكرة العامة واحدة تقريباً. وفي جلسة تدريب معتادة، تظهر على الشاشة كل عدة ثوان صورة سلبية، وأخرى إيجابية (عادة وجه عابس ووجه مبتسم)، ويتم تكرار ذلك مئات المرات.

وحيث أن القلق مرتبط بالميل إلى التركيز على محفز سلبي، يتمثل الهدف من التمرين في التجاوب مع الصور الإيجابية عن طريق زر للإجابة أو لمسة على الشاشة.

وبالقيام بهذا مرات كثيرة، وبشكل نموذجي على مدى أيام أو أسابيع، يتدرب الدماغ على تركيز الانتباه بحكم العادة بعيدا عن التهديد والمعلومات السلبية، وباتجاه المعلومات الإيجابية.

وقد أكدت عشرات الدراسات فعالية هذا النظام التدريبي، وتوصلت دراسة نشرت في مجلة "علم النفس الإكلينيكي" إلى أن ممارسة تدريب "إيه بي أم تي" على تطبيق "gamified" على الهواتف الذكية يؤدي إلى خفض الشعور بوجود تهديد بنسبة كبيرة، وكذلك القلق الموضوعي، وردود الفعل الناتجة عن التوتر، كل ذلك في جلسة واحدة تستمر من 25 إلى 45 دقيقة.

ويمكن للذين يعانون من القلق ممن لا يطيقون تلقي العلاج أن يجدوا بعض العلاج النفسي في ممارسة تلك اللعبة على الهاتف المحمول.

لكن هناك من يشكك في جدوى تلك الطريقة للعلاج. فقد أظهرت دراسة حديثة أن جلسة واحدة من جلسات تدريب "إيه بي أم تي" لا تؤدي إلى تحسن أكثر من طرق علاج القلق الأخرى، مثل علاج السلوك الذهني، وفي بعض الحالات، العلاج بالإيهام.

وبينما يعترف عالم النفس بير كارلبرينغ من جامعة ستوكهولم بصحة هذه الانتقادات، يقول إننا ينبغي ألا نتخلى كلياً عن التدريب على التركيز، مشيراً إلى أن التحليل النفسي توصل إلى أن تحويل الانتباه أثبت فعاليته الكبيرة لدى المرضى تحت سن 37 سنة، خصوصاً عندما جرت جلسات العلاج في عيادات أو مختبرات، وليس عن بعد.

وقد لاحظ كارلبرينغ أن طريقة "إيه بي أم تي" للعلاج لا تنجح في تقليل مستوى القلق عندما تخفق في تحويل الانتباه عن الأمور التي يظن الشخص أنها مصدر تهديد وهي ليست كذلك.

لذلك، من المرجح أنه يمكن تحسين فعالية التدريب بشكل كبير بالقيام بتدريبات أكثر ديناميكية تستعمل محفزات واقعية إلى حد كبير.

وفي جهد لزيادة قوة وفعالية تدريب الانتباه بدرجة كبيرة، تلقى كارلبرينغ منحة لتطوير واختبار نوع من تدريبات الانتباه يحاكي الواقع، ويكون أكثر طبيعية وشمولية.

ويقول عن ذلك: "أعتقد أن نقل التدريب إلى بيئة تحاكي الواقع الحياتي سيكون فتحاً جديداً. لن أكون متفاجئاً إذا أصبح التدريب على الانتباه أمراً شائعاً بحلول عام 2020".

وعليه، فقد يتسنى منع القلق من تشويه الواقع، وإثارة الخوف، وتغيير منظومات القناعات والأفكار، وذلك عن طريق تدريبات تعمل على التخلص من تحول الانتباه تجاه التهديد الناتج عن القلق، وعن طريق الوعي الذاتي بالطريقة التي يؤثر بها القلق على البقعة الضوئية للانتباه لدينا.