شكّل إبحارا دراميّا ملحميّا..
مسرح الشباب يستعيد حقبة الفايكينغ بحثا عن السعادة

المسرحية طرحت أفكارا ورؤى متشعبة
أطلقت مسرحية “الملحمة”، التي عُرضت مؤخرًا في القاهرة، رسائل المحبة والتسامح بين الأديان والحضارات والشعوب، مستعيدة مرحلة زمنية بائدة في أوروبا، سادتها الغزوات العنيفة والحروب الهمجية الطاحنة.
جاءت المسرحية ضمن عروض الشباب الجريئة، التي أبهرت جمهور المهرجان القومي للمسرح المصري (17-30 أغسطس) بالأفكار الجادة العميقة والأداء الحركي المتناغم، لفرقة كلية التجارة على مسرح “الشباب والرياضة” بالقاهرة لتحوّل المسرح من عُلبة تقليدية ساكنة إلى ساحة للاقتتال وميدان للمعارك البرية والبحرية ودائرة موجية تتلاقى فيها الحشود وتتبدل الأمكنة وتتلاحق الأزمنة.
جوهر القيم
شكّل العرض المسرحي الشبابي “الملحمة” إبحارًا دراميًّا ملحميًّا في التاريخ، بهدف قراءته بوعي، وتمحيصه، واستخلاص عصارته، واستنباط قوانين ومؤشرات ملائمة لفهم الواقع وتفادي خطايا البشر الغابرة.
اختار فريق العمل الطريق الصعب في صياغة أحداث العمل، من خلال استيحاء سيرة شعوب “الفايكنغ” من الملاحين والتجار والمحاربين والقراصنة الإسكندنافيين الذين هاجموا السواحل البريطانية والفرنسية ومناطق من أوروبا في الفترة ما بين القرنين الثامن والحادي عشر، التي تسمى “حقبة الفايكنغ”.
وما زاد الأمر صعوبة، تعويل العمل الذي بلغت مدته أكثر من ساعة على “الفُرْجة الحية” والعناصر البصرية في المقام الأول، وليس على النص بحواراته وسرده وتأملاته، فاستلزم الإعداد بالضرورة مهارات فائقة في توظيف السينوغرافيا والملابس والإضاءة والموسيقى والأداء الحركي وكافة مفردات المسرحة المتطورة.
ضم فريق العمل مجموعة من المسرحيين الواعدين، الذين استحقوا العديد من الجوائز الفردية والجماعية في مسابقات الجامعة، ومنهم: المؤلف عبدالرحمن العربي، والمخرج مهند محمود المليجي، ومصممو الديكور والملابس أيمن صبحي وإيهاب صبحي وأميرة صابر، والإضاءة إسلام أحمد، والإعداد الموسيقي جابر فراج، وتصميم المعارك والأداء الحركي هاني فاروق، بالإضافة إلى أعضاء فريق التمثيل، ومنهم محمد يسري وعبدالعزيز مسعد، وآخرون.
تقصّت أحداث المسرحية حياة إحدى قبائل الفايكنغ، بما فيها من مراسم اجتماعية وطقوس عقائدية وتفاصيل يومية، ويعد القتال الدائم وسفك الدماء وشن الغزوات البحرية خصوصًا في اتجاه الغرب من الأمور المقدسة التي تُرضي الآلهة وفق الموروث القبلي الحافل بالعنف والرغبة في التمدد والسيطرة.
وعبر سلسلة من المعارك والحروب الضارية، توغلت دراما العرض في إبراز صراعات السلطة، والخيانات ونقض العهود طمعًا في الحكم، وامتد نطاق الهجمات البربرية الهمجية للفايكنغ ليصل إلى إنكلترا وفرنسا.
وفي خضم هذه المواجهات كشفت المسرحية خبايا صراعات أخرى أعمق بين الأديان والعقائد والأيديولوجيات المذهبية، لتتهاوى تدريجيًّا أصنام الآلهة الداعية إلى القتل والسبي والعنف أمام تعاليم الأديان السماوية المنادية بالتسامح والمحبة والإخاء، كالمسيحية في فرنسا، والإسلام في بلاد الأندلس.
العرض تعمق في الوصول إلى جوهر القيم والأخلاقيات الإنسانية، كالشجاعة والصدق والشرف، وصولًا إلى المعنى الحقيقي للإيمان
تعمق العرض في الوصول إلى جوهر القيم والأخلاقيات الإنسانية، كالشجاعة والصدق والشرف، وصولًا إلى المعنى الحقيقي للإيمان، “كنت أظن أن الإيمان بسفك الدماء، اتضح أنه بالإيمان نفسه”، كما قال قائد الفايكنغ، وهو شاب يافع وجد نفسه وأخاه على رأس منظومة القبيلة، في شؤونها الداخلية، وغزواتها الخارجية عبر البحار.
طرحت المسرحية أفكارًا ورؤى متشعبة، من قبيل معيار المفاضلة بين البشر على أساس العدل والنقاء والحب وليس القوة والغلبة والحرب، واتخذت من الشقيقين القائدين مجالًا لإبراز هذه الفروق بين إنسان وآخر، فكلاهما نشأ في بيئة بربرية واحدة، لكن استجابة كل منهما لمستجدات العمر وتعاليم الأديان وخبرات الحياة وفصول الحروب المتتالية جاءت متفاوتة، ومن ثم تغير مفهوم “المجد” لدى أحدهما، فلم يعد مجدًا ذلك النصر العسكري المبني على القتل، ولم يعد شرفًا إهداء الشعب البائس الكنوز الملوثة بالدماء، كما صار للسعادة مذاق آخر هو “الرضا عن الذات، وصحوة الضمير”. يذكر التاريخ أن سكان الفايكنغ المتفرّقين كانوا يعيشون على الزراعة وصيد السمك والتجارة البحرية، ثم سلك المحاربون والقراصنة والمغامرون طريق البحر في هجماتهم وحملاتهم على أوروبا.
هاجم الفايكنغ الجزر البريطانية وفرنسا والأندلس، وتحولت حملاتهم لاحقًا من الكر والفر إلى غزوات استعمارية كبيرة منظمة، ثم اعتنقوا المسيحية، واختلطوا بالسكان المحليين، وتواصلوا معهم ثقافيًّا وحضاريًّا وانصهروا تجاريًّا واجتماعيًّا.
عالم خاص
نجحت المسرحية في تصوير هذه الأمور التاريخية بسلاسة، من خلال العلاقات بين البشر، داخل القبيلة، وخارجها، في دراما متصاعدة رصدت معالم الحياة في بلاط الحكم، وفي بيوت العاديين من أبناء الشعب، وأبرزت أن الهمج من ملوك وقادة وجنود محاربين، ومن رجال ونساء كذلك، هم في حقيقة الأمر نسيج واحد.
يمكن القول إن “الملحمة” عرض ناطق بلغة العيون، أي أنها مسرحية الرؤية البصرية، والفُرجة الممتعة لمجموعات الممثلين المدربين بعناية، المتحركين طوال العرض دون توقف.
وسحبت المسرحية جمهور المشاهدين إلى عالمها الخاص وأجوائها المثيرة، إذ جاء كل شيء صادقًا واقعيًّا، من ديكور وملابس وماكياج وملامح، سواء في مشاهد الحياة الاعتيادية، أو القتال والمبارزات والمعارك البرية والبحرية، وجاءت المشاهد الدائرة في فرنسا والجزر البريطانية مقنعة، ورسمت المسرحية صورًا مألوفة للملوك الأوروبيين ورجال الدين والقساوسة المسيحيين في ذلك العهد.
استخدم العرض اللغة العربية الفصحى السهلة كأداة للتوصيل فقط، وليست كغاية للفخامة شأن الكثير من الأعمال التاريخية القائمة على التقعر والمبالغة، واستكمل الممثلون بالأداء الجسدي والاستعراضي الحوار القليل، فكانت رسائل العنف مثلًا من خلال سفك الدماء والذبح والطعن، لتوضيح عقيدة الفايكنغ ووصايا الآلهة للمحاربين، كما عبرت صلوات المسيحيين في الكنائس والمسلمين في المساجد عن تعاليم الأديان السماوية وسماحتها وسلامها وروحانياتها. استثمر العرض طاقة الأضواء والظلال والموسيقى ودقات الطبول والأصوات البدائية ونفير الحروب وغيرها من المؤثرات من أجل استكمال الحالة الكاملة لواقعية الأحداث والمعارك