هل هي مذنبة أم ضحية؟
"مشانق من فضة" حين يتحول الحب إلى قاتل

أحداث رواية تشو دا شين تدور في زمن لم يحدده الكاتب بدقة

كاتب هذه الرواية "مشانق من فضة" الأديب الصيني تشو دا شين كاتب معاصر من مقاطعة خينان بالصين، بدأ في نشر أعماله عام 1979. وله الكثير من الأعمال الأدبية المتنوعة من الروايات الطويلة والقصص القصيرة التي حصدت الكثير من الجوائز الأدبية، فمثلا حصلت روايته "مشهد البحيرات وألوان الجبال" التي ترجمت للعربية بعنوان "رحلة الانتقام" على جائزة ماودوين للأدب، وهي أرفع جائزة أدبية في الصين. كما حصل أيضا على جائزة أدب الشعب في دورتها الثالثة وجائزة أفضل قصة قصيرة على مستوى الصين، وتم تحويل العديد من أعماله إلى مسرحيات وأفلام ومسلسلات. كما ترجمت أعماله إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والكورية والتشيكية والعربية. ومن أعماله المترجمة، هذا العمل الذي بين أيدينا "مشانق من فضة" الذي ترجم من قبل إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية.
الأديب تشو دا شين ليس غريبا على القارئ العربي، فقد ترجمت له رواية "ترانيم الموت"، ورواية "رحلة الانتقام"، وتعد رواية "مشانق من فضة" هي الثالثة وفقا للمترجم د. أحمد ظريف الذي يشير إلى أن شين "يتميز أسلوبه بالسلاسة والاقتراب من الواقع عبر الحوار غير المتكلف المفعم بالمشاعر الطبيعية، وأيضا اختيار موضوعات نراها حولنا في حياتنا اليومية ويمكن بسهولة تخيل حدوثها، بل يمكن أن نكون قد مررنا بها سواء بصورة شخصية أو في الأشخاص المحيطين".
وتدور أحداث هذه الرواية الصادرة عن بيت الحكمة للثقافة والإعلام بالتعاون مع منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف، في زمن لم يحدده الكاتب بدقة، ولكن من خلال الإشارات والمسميات والجو العام للنص، يمكن أن نستنتج أنه يدور في خلال فترة المجتمع الإقطاعي في الصين، حيث تدور أحداث القصة في مدينة صغيرة، وعلى وجه التحديد في متجر متخصص في صنع الحلي الفضية، وفي منزل حاكم تلك المدينة، وتسرد لنا الأحداث العلاقة التي نشأت سرا بين ابن صاحب المتجر الشاب الفقير وزوجة ابن الحاكم الشابة الجميلة، وما الأسباب التي دفعت إلى تلك العلاقة الغريبة بين نقيضين، فالقصة بالأساس تحمل الكثير من المفاجآت في كل جزء منها، وتجلت موهبة الكاتب ـ حسب المترجم ظريف ـ في وصف الصراع الدائر داخل كل بطل من أبطالها، ليظهر للقارئ أن الكل قد تعرض للظلم بشكل أو بأخر.
العمل يجمع بين أساليب لغوية بسيطة ومعقدة، ويضم جوانب متعددة من ثقافة المجتمع الصيني أعتقد أنها ستكون ذات فائدة كبيرة للمهتمين بهذا الشأن
بطلة العمل هي الفتاة الشابة الجميلة بيلان، التي انتقلت من أسرة بسيطة لتصير زوجة ابن الحاكم متوقعة أن تعيش حياة رغدة هانئة، لتصطدم بالطابع الغريب لزوجها وبروده الذي لم تجد له تفسيرا في قلبها، ومدى الذل والعار اللذين شعرت بهما وهي تسرد معاناتها معه منذ البدايات الأولى لزواجهما، والصراع الذي يشتعل كل ليلة في غرفة نومها ولا يدري به أي ممن يعيشون معها في المنزل الكبير، حتى اضطرت للبحث عن الحب لتجده لدى ابن صانع الحلي الفضية، وتقيم معه علاقة تظل سرية حتى يتم فضحها، لتلقى في النهاية مصيرها.. الذي يجعلنا نتساءل هل هي مذنبة أم ضحية؟
أما البطل الشاب الفقير شاو هينغ فهو من البداية للنهاية نموذج لشاب عادي بسيط حركته في البداية شهواته وتحكمت فيه بعدها عواطفه، وانبهر بحب بيلان زوجة ابن الحاكم، وانغمس في علاقة حميمة ليصير في النهاية ضحية أخرى من ضحايا الحب، وبدوره يثير في نفس القارئ نفس التساؤل السابق هل هو مذنب أم ضحية؟
الضلع الثالث لمثلث أبطال العمل هو زوج بيلان، ابن الحاكم غريب الأطوار ذو النزعات الغريبة، العاشق للحلي الفضية النسائية، الكاره لعشقه، المعذب بنزواته، المطارد برغبة حارقة للتحول لامرأة، تارة تحسبه شيطانا وتارة تراه مجرد مبتلى بما لا ذنب له فيه. تلك الشخصية تثير رغما عنا نفس التساؤل، هل هو مذنب أم ضحية؟
ويرى أحمد ظريف أن القصة ما هي إلا انعكاس أدبي نرى من خلالها الجوانب المختلفة لحياة البشر، وتعلمنا ألا نصدر أحكاما من جانب واحد، فكل فعل سيئ صدر من الأبطال الثلاثة كانت له أسبابه الخفية التي لا يراها من حولهم ولا يعرفها إلا صاحب الفعل نفسه. ويظل السؤال في النهاية معلقا متروكا لحكم القارئ، هل استحق الأبطال مصائرهم في النهاية نتيجة لما اقترفوه أم أنهم تعرضوا للظلم نتيجة مصائرهم المكتوبة؟
ويضيف "تلك القصة وعلى الرغم من أنها وقعت في زمن سابق ربما منذ مائة عام أو أكثر، فإنه لا يمكن اعتبارها قصة تاريخية بالمعنى المعروف، فهي لا تكشف الكثير من جوانب المجتمع في هذا العصر، ولا تحكي أحداثا تاريخية حدثت بالفعل، لكنها استخدمت بعضا من جوانب المجتمع وقتها لتنسج الأحداث تاركة مجالا لتخيلات القارئ ومعارفه السابقة حول العصور القديمة.
ويشير د.ظريف إلى أن القصة تتميز بقصرها، فعلى الرغم من الأحداث الدسمة بها، فإنها تعد قصة متوسطة الطول، ورغم هذا لا تشعر أبدا بجزء منقوص منها، وربما ذلك إثبات على براعة الكاتب وحسن تطويعه للغة، وقد تجلى ذلك في الحوار القصير المعبر الذي نراه وسط السرد، فلا ثرثرة زائدة عن الحد، بل جملا قصيرة معبرة تصل للهدف بأقصر الطرق، حتى أنني فكرت في استخدام اللغة العامية لترجمة الحوار كمحاولة لتقريبه أكثر إلى واقعنا العربي اليومي، ولكن عدلت عن ذلك في اللحظة الأخيرة تاركا تلك المحاولة لأعمال مترجمة قادمة".
ويؤكد د.ظريف أن الرواية تشكل إضافة إلى المكتبة العربية من الأدب الصيني والتي تزداد ثراء يوما بعد يوم، وأهديه بوجه خاص لدارسي الترجمة من الصينية إلى العربية ومحبيها في الوطن العربي بشكل خاص، فالعمل يجمع بين أساليب لغوية بسيطة ومعقدة، ويضم أيضا جوانب متعددة من ثقافة المجتمع الصيني أعتقد أنها ستكون ذات فائدة كبيرة للمهتمين بهذا الشأن خاصة إذا سنحت فرصة المقابلة مع النسخة الصينية وهو ما يجعلني أتمنى أيضا إصدار طبعة باللغتين العربية والصينية".
لمعت كلمة ضخمة سوداء أمام ناظريه: لص.. وانفجر صوت أبيه في الوقت نفسه بجوار أذنه قائلا: لص"
مقتطف من الرواية
أرخى الليل سدوله وتغطى بها منزل السيد "لو" المبنى على الطراز القوسي، ولم يبق منه إلا كلمة "مينغ ديفو" المطلية بالفضة التي ظلت ظاهرة للعيان؛ كانت الساعة قد جاوزت منتصف الليل وعم السكون أرجاء مينغ ديفو، وسكن كل الأصوات بالمدينة خارجة، ولقد تثاءبت الخادمة ثلاثا قبل أن تذهب ناصحة السيد "لو داو جينغ" بالذهاب إلى غرفة النوم ليستريح؛ لكنه كان لا يزال جالسا بلا حراك في غرفة مكتبته؛ لكنه لم يكن يقرأ الكتب، فلم تعد لديه الرغبة في ذلك؛ بل كان يستعرض بحرص شديد مقتنياته الثمينة؛ وهي عبارة عن حلي نسائية من كل صنف ولون ومصنوعة من خامات مختلفة.
على الرغم من أن "لو داو جينغ" لم يتجاوز الخامسة أو السادسة والعشرين من عمره فإن مقتنياته كانت غنية للغاية؛ كان كل ما يقتنيه عبارة عن حلي نسائية، منها المصنوع من الخشب والبامبو والعظام وقرون الحيوانات والعاج واليشم والفضة والذهب، كانت تلك المجموعة من الحلي تستعرض المسار التاريخي لتطور حلي النساء.
كانت هواية "لو داو جينغ" - وهو رجل - في جمع الحلي النسائية هي أمر غير مفهوم؛ لكن هوايته تلك بدأت منذ كان في السابعة أو الثامنة من العمر، وكان أول من اكتشف أن لديه تلك الهواية هما أختاه الأكبر منه؛ فقد لاحظتا سرقة حليهما، ولقد شكتا في أن الخدم هم الذين سرقوها؛ لكن التفتيش المفاجئ لمساكن الخدم والاحتياطات الشديدة ضد السرقة كلها لم تجد نفعا، وذات مرة اكتشفتا بالصدفة أخاهما "لو داو جينغ" يقف أمام المرآة في الحجرة متزينا وعلى رأسه ورقبته ويديه وقدميه كل الحلي التي ضاعت منهما، حينها شعرتا بالرغبة في الضحك وبالغضب في آن واحد، وأخبرتا والدهما بذلك الاكتشاف، وفي ذلك الوقت كان الأب "لو جينغ رين" لا يزال يشغل منصب محافظ، وما أن سمع بالأمر حتى سبه قائلا: "يا لحقارة هذا الصغير". ثم أمسك بكرباجه وأوسعه ضربا على مؤخرته؛ بعدها انخرط "لو داو جينغ" في صراخ وبكاء؛ لكنه لم يقلع عن حبه للحلي النسائية؛ ومع بلوغه تدريجيا صار جمعه للحلي النسائية يتم بشكل أكثر سرية، فكان في الغالب يشتريها بنقوده، كان يستخدم مصروفه الذي يعطيه إياه والداه، والعيدية التي يعطيه إياها الأقارب والأصدقاء لكي يشتري الحلي؛ وبالطبع كان في بعض الأحيان يقايض خلسة بعض الأشياء الثمينة بالمنزل؛ لذا فتلك الحلي التي تملأ صندوقين صغيرين كلها تقريبا أتت بتلك الطريقتين.
في هذه اللحظة وتحت ضوء الشموع نظر إلى تلك الأشكال والخامات المختلفة وغرق قلبه في شعور لذيذ ومخدر؛ فلا توجد أي امرأة في مدينة تانيانغ بأكملها تملك كل تلك الحلي، بمن فيهن السيدات الثريات، بالطبع لم تكن أنواع الحلي الفضية وأعدادها كبيرة في تلك المجموعة ؛ لكن لا داعي إلى القلق، فالحلي الفضية صارت رائجة الآن، آجلا أو عاجلا سأجمع كل أنواع الحلي الفضية وأشكالها؛ لكن المشكلة الأساسية هي غياب النقود؛ فالنقود التي يعطيني إياها أبي وأمي قليلة للغاية، ما إن تصير معي نقود حتى أذهب إلى حانوت فو هينغ لصنع بعض منها، سأصنعها نوعا نوعا حتى أجمع كل الأنواع.
عندما عبثت أصابعه وبصره بتلك المقتنيات الفضية، شعر برغبة تتصاعد بشكل غامض من صدره، ارتداء تلك الحلي النسائية، ارتداء جلباب "بيلان" ليصير امرأة لفترة وجيزة في تلك الغرفة. تلك الرغبة ازدادت تدريجيا وأرغمته على أن يمسك بذلك العقد الفضي ليضعه على عنقه، ثم يمسك بمشبكي الشعر ويضعهما على شعره، وعندما كان يقوم بكل هذا كانت سعادة تبعث على الدوار تغلفه بالكامل، لكن في تلك اللحظة لمعت كلمة ضخمة سوداء أمام ناظريه: لص.. وانفجر صوت أبيه في الوقت نفسه بجوار أذنه قائلا: لص".