تطل على خفايا وأسرار الحياة..

غوايات القراءة كما يرويها المبدعون

القراءة متعة مختلفة (لوحة للفنان علي رضا درويش)

وارد بدر السالم

لفرجينيا وولف إطلالة لافتة بشأن القراءة تقول فيها إن “النّصيحة الوحيدة التي يستطيع أن يسديها شخص لآخر حول القراءة هي ألا يتّبع أي نصيحة. القراءة هي أن تتبع حواسك، أن تستخدم عقلك، وأن تتوصّل إلى استنتاجاتك الخاصة”. وهذه الإطلالة تلخّص غواية القراءة التي نقضي أوقاتا طويلة فيها ومن أجلها، حتى لتبدو أعمارنا أكداسا من الكتب المتراكمة بأحداثها ومعرفياتها الكبيرة والصغيرة. وعندما نفصّل

مثل هذا الحدث الإغوائي في الاستغراق اللانهائي للكتب الثقافية والبحثية، سنصل إلى أننا لم نقرأ شيئا بعد، فالمعرفة ليست لها حدود ومستجداتها الثقافية تتواتر مع وسائل الاتصال الحديثة. والكتب تجري كالأنهار الطويلة والعميقة المتدفقة. وما تركه لنا الأقدمون ينطوي على كنوز من جماليات الحكم والعبر كموجهات حياتية وخلاصات اجتماعية وسياسية وفكرية وفلسفية ومعرفية وعلمية. على أن الأفكار تبقى حية ما دامت هناك حياة، مهما اتفقنا أو اختلفنا حولها.

ولعل الكاتب العراقي علي حسين أراد من خلال كتابه “غوايات القراءة” أن يستطلع أزمانا متعاقبة لكتّاب وأدباء وفلاسفة وما تركوه من مقولات بشأن غوايات القراءة التي تستنفد أعمارنا وتوسّع فينا المدارك والإلهامات المتعددة. وأراد من هذا الكتاب أن يكون أرشيفا في القراءة عبر ترجمة أقوال كثيرة لكبار الأدباء والفلاسفة التي تتعاضد لتجعل من القراءة طقسا جماليا نافعا ومهما في توجيه الحياة بمعارفها وعلومها وآدابها.

ومع هذا نخلص بعدها إلى سؤال متكرر: لماذا نقرأ؟ وهذا سؤال يجيب نفسه بنفسه ومن خلال هذا التماهي مع الغوايات الأدبية والمعرفية في كتب الأقدمين والمحدثين لفعل القراءة العظيم، ونصل إلى أن القراءة بتعبير فرنسيس بيكون، وهو يوصل الفكرة بجمالية دقيقة “بعض الكتب وُجدت لتذاق، وبعضها لكي تُبتلع. والقليل منها لكي تُمضغ وتُهضم”. وتندم فرانسواز ساغان لأنها لم تستطع قراءة كل الكتب التي كانت تتمنى قراءتها.

 فالقراءة أقصر من الحياة بطبيعة الحال. فهناك “على الأرض ما يستحق القراءة” بتعبير غوركي وهي الجملة التي تذكرنا بما قاله محمود درويش “على الأرض ما يستحق الحياة”. ففعل القراءة عند غوركي يتحول إلى فعل حياتي عند درويش في تناص لا يمكن إغفاله. لكن أمبرتو إيكو يوسّع من هذا المفهوم اللفظي “من لا يقرأ يعيش حياة واحدة.. ومَن يقرأ يعيش خمسة آلاف عام”، وهو ما قال مثله جورج مارتين “الذي لا يقرا أبدا يعيش حياة واحدة فقط”، على أن المتنبي سبق الجميع “وخيرُ جليس في الزمانِ كتابُ”. أما فلوبير فينادي امرأة “اقرئي لإنقاذ حياتك”.

في كل هذه التشظيات الأدبية التي تحمل أقباسا منيرة لفعل القراءة، ثمة تعالق نفسي وواقعي مع القراءة، بوصفها مفتاحا ونافذة تطل على خفايا وأسرار الحياة التي نتجاهلها أو لا نعرفها على وجه الدقة أو نغض الطرف عنها، لكنّ مؤلفا في الطرف الآخر من الأرض؛ مثل كاليفينو ينبهّنا إلى أن القراءة تعني الاقتراب من شيء في اللحظة التي هو فيها على وشك أن يُخلق. بما يعني ولادة شيء مجهول في مكان ما. شيء يمكن أن يضيء جانبا مهما من الحياة.

وربما يضيء أنفسنا من الداخل. لهذا فإن مقولة الروائي النوبلي يوسا صحيحة حينما قال بأن معرفة القراءة هي أفضل شيء حدث لي في هذه الحياة، ويلتصق ثربانتس أكثر بالقراءة والكتاب لما يتحدث عن “جملة تنتظرنا لكي تعطي معنى للوجود”، ومثل هذا التماهي العجيب هو من إغراءات وإغواءات القراءة وأهميتها على الصعيدين الشخصي والعام، بما يوفر للمجتمعات حصانات كثيرة ضد التخلف والجهل، ويدفع بالحياة إلى الأمام، عندما يكون الأشخاص الأفراد قادرين على استيعاب وهضم الكتاب لا بوصفه ورقا بين دفتي غلاف، إنما بوصفه عالما استثنائيا يوفر للمجتمعات فرصة التأمل وإعادة النظر في معطيات كثيرة؛ فأناتول فرانس تجد في الكتب “ما لا أجده في عالم الواقع”، وجون لوك يرى أنّ القراءة توفر للعقل مواد المعرفة.

 وأرنستو ساباتو يجد في القراءة رحلة معرفية ووجدانية في الوقت نفسه. والرغبة في اقتناء كتاب ما لا يمكن مقارنتها بالرغبات الأخرى كما يقول ألبرتو مانغويل. وديكارت يجد أن قراءة الكتب بمنزلة محادثة مع أفضل الشخصيات في القرون الماضية، والكتاب سفينة من الأفكار بتعبير بابلو نيرودا.

 على هذا الاسترسال الجامع لمعظم ما قاله وكتبه المشاهير تأتي غوايات القراءة بسؤالها التاريخي: لماذا نقرأ؟ فتأتي الإجابات من عمالقة الفلسفة والسرد والشعر والفكر، لا لتبرر انصراف الوقت مع الورق والكتب والسطور والأحرف لكن لتقول جزءا من حقيقة القراءة التي تشابه اكتشاف أديسون للمصباح الكهربائي، فالإنارة الأديسونية خارجية تكشف لنا الطرق والمنعطفات وظلام البيوت، بينما إنارة الكتب داخلية تضيء النفوس والأرواح.

فتعلُّم القراءة بمنزلة إشعال نار كما يقول فكتور هيجو، والعملية اكتشاف حياة تعيش في الأرفف وخزائن المكتبات، وهي مقاطع من حياتنا بشكل ما سُجلت لتبقى، لتطيل فينا وقت الحب وجمال الوجود، وتأكيد وحدة البشر كما يؤكد ستيفان زفايج. ولهذا فمثل هذه الغوايات الإيجابية هي نتاج عقول فريدة واستثنائية، وإنما الكتب “هم الأصدقاء” كما يراها إليوت. أصدقاء البيوت والمكتبات الشخصية والعامة في تتبع الأثر التاريخي والاجتماعي والسياسي والعلمي، لهذا عبّر جيمس بالدوين “إنها الكتب التي علمتني بأن الأشياء التي كانت تعذبني هي التي تربطني بالناس الحية والميتة”.