ميله إلى الأخذ عن سابقيه..
فرنسا تحتفي بالباروكي الإيطالي لوكا جوردانو

شخصيات تبدو وكأنها تدور حول نفسها
لأول مرة في فرنسا، يقام معرض استثنائي للرسام الباروكي الشهير لوكا جوردانو، الذي حاز شهرة واسعة في كامل أوروبا خلال القرن السابع عشر، وهو معرض يقام في القصر الصغير بباريس ويتواصل حتى نهاية شهر فبراير القادم.
من الفنانين الكبار الذين طواهم النسيان، الباروكي لوكا جوردانو (1634– 1705) الذي لمع نجمه باكرا، واعتُرف له بنبوغه في أوروبا كلها، ولكنه لم يحظ بمعرض يليق بمقامه إلّا في مطلع هذا القرن، وفي مناسبات قليلة؛ واحد في نابولي مسقط رأسه عام 2001، واثنان في مدريد سنتي 2002 و2008. ومن ثمّ اعتبر المعرض الذي يقام له حاليا في متحف القصر الصغير بباريس حدثا بالغ الأهمية.
ورث جوردانو فن الرسم عن أبيه أنطونيو، وكان ذا موهبة مبكرة، إذ تمكن منذ سن الثامنة من رسم صورة ملاك على إحدى لوحات والده. ولما علم وليّ العهد بهذا الطفل النابغ، وكانت نابولي وقتها تحت حكم كارلوس الثاني ملك إسبانيا، أمر بتسجيله في ورشة الإسباني خوسيبي دو ريبيرا، الذي اختار الاستقرار بنابولي. وكان دو ريبيرا وريث المذهب الطبيعي الذي سار عليه كرفاجو، ما جعل بورتريهات الفلاسفة التي رسمها جوردانو في شبابه، وكذلك أعماله الدينية الأولى مثل “سان سيباستيان”، متأثرة بأسلوب أستاذه من جهة ألوانه العاتمة وأجوائه الكئيبة.
ولو أن جوردانو كان يتنقل من الظل إلى الضوء في المرحلة نفسها، نظرا لإقباله على رسم جداريات المعابد وتزويق أسقف بعض القصور، ما يضطره إلى استعمال ألوان مشرقة.
لم يقتصر عمله على المواضيع الدينية وحدها، بل أقبل أيضا على رسم مظاهر الحياة مع إحالات حسية على ميثولوجيا مسكونة بالعري، من فينوس إلى أريان المهجورة. وكان أيضا يرسم أعمالا ذات صبغة تراجيدية مثل لوحة “شمشون والأسد”، أو لوحة “سان جينّارو” عن الوباء الذي فتك بنصف سكان مدينة نابولي عام 1656، حيث جثث الموتى تتكدّس فوق بعضها بعضا.
في ورشة دو ريبيرا، ما لبث الفتى جوردانو أن تمرّس بأدوات فنه، وبدأ يرسم لوحات وجداريات للكنائس النابولية، قبل أن يسافر عام 1652 إلى مراكز الفن التي شهدت بزوغ فجر النهضة الإيطالية، فزار روما حيث اكتشف أعمال مايكل أنجلو، ورفائيل، وأنيبالي كرّاتشي وكرفاجو، وانتقل إثرها إلى البندقية، ثم إلى بارما وفلورنسا حيث أنجز أهم سقف باروكي في القرن السابع عشر بإيطاليا، وهو سقف مكتبة قصر ميديشي – ريكّاردي.
جوردانو بمثابة بيكاسو في قدرته على استيعاب أساليب أعلام آخرين وهضمها
بعد عودته من رحلة أخرى إلى روما، حيث ازداد اطلاعا على أعمال روبانس وبيير دو كورتون، أنجز عدة أعمال ضخمة؛ أربعة منها معروضة في باريس، بصورة مؤقتة، في شكل إعارة من متحف كابوديمونتي وبعض كنائس نابولي، ومتحف برادو بمدريد.
عام 1657 استقر في إسبانيا، حيث عمل في بلاط الملك كارلوس الثاني، وأنجز عدة جداريات في وقت قياسيّ، مستعملا أحيانا يديه في تلوين لوحاته، ومستعينا في أحيان أخرى بفريق من الرسامين يعملون في ورشته، ما دفع الإسبان إلى تلقيبه بـ”في عجلة من أمره” (ir temprano) شأن الإيطاليين الذين كانوا يقولون عنه هم أيضا (va presto). في تلك الفترة قام بتزيين الكنائس، ودَيْر الإسكوريال الملكي، وكاتدرائية طليطلة. وكانت كلها تقريبا أعمالا لامعة، متألقة، مسكونة بشخصيات تبدو وكأنها تدور حول نفسها، أو تخبق في الفضاء كالملائكة.
ولكي يقدّم المعرض هذا الجانب من عمل جوردانو، أعِدّت قاعة تبث على ثلاثة من جدرانها صور جامعة أو مفصلة عن جداريات الإسكوريال وكنيسة سان أنطوان الألمان في مدريد، المكسوة من الأرضية إلى السقف.. وبعد عشر سنوات قضاها في البلاط الملكي، عاد عام 1702 إلى نابولي حيث أنجز ست لوحات أخرى لكنيسة مجمع جيرولاميني، ولكن كان عليه أن يواجه منافسين جددا، مثل فرنشيسكو سوليمينا، رغم أن الأجيال اللاحقة سوف تهتم بتجربته وتستفيد منها، بدءا بالرسامين الفرنسيين في القرن الثامن عشر.
إن ما يميز لوكا جوردانو، إضافة إلى سرعة إنجازه لمشاريعه وغزارة إنتاجه، ميله إلى الأخذ عن سابقيه والتصرّف في ما يأخذه بمهارة، وقد شبهه كريستوف ليريبو، مدير القصر الصغير، بإسفنجة حقيقية، فهو يمتصّ تجربة كل من يصادفه، ويلتقط دورسا كثيرة من فناني الماضي، مهما كان انتماؤهم، أمثال دورر ورفائيل وتيسيانو وفيرونيزي وكورّيجو.
ولا يعني ذلك نقصا في إلهامه أو ضعفا في موهبته، وإنما ذلك شأنه، فهو يأخذ من كل مراحل الفن الماضية، ليعيد تشكيل أشياء راهنة على طريقته.
مثلما شبهه ستيفانو كوزا، أستاذ تاريخ الفنون بجامعة نابولي، ببيكاسو في قدرته على استيعاب أساليب أعلام آخرين وهضمها، وفي طاقته العجيبة على الإنتاج بشكل وافر، فقد ترك جوردانو نحو خمسمئة ألف أثر، دون اعتبار الرسوم.
لقد استطاع لوكا جوردانو أن يستلهم أفضل ما في التيارات الأسلوبية في عصره، وأن يستوعب فن التلوين لدى أعلام النهضة، وبفضل أنسجة لوحاته المخملية وأضوائها اللامعة صارت تجربته من أكثر التجارب إثارة للإعجاب في عصره، وجعل صاحبها أكبر فنان باروكي في إيطاليا، وهو ما يؤكده ستيفانو كوزا.