المطرب الشعبي المصري..
حسن شاكوش مطرب المهمّشين المصريين يكسر جدار العالمية
في يوم وليلة صار المطرب الشعبي المحلي الذي اعتاد على التنقل بين الأفراح الشعبية البسيطة وحفلات الفقراء والمهمشين، أو ”المجتمع التحتي“ كما يحلو للبعض تسميته، نجما عالميا لتسجل أغنيته “بنت الجيران” المرتبة الثانية على مستوى العالم في موقع “ساوند كلاود” متجاوزة 160 مليون زيارة، بينما استقبلت قناته على يوتيوب 220 مليون مشاهدة، وبات النجم مطلوبا للغناء في عدة دول.
من الظل أطل، وكسر قواعد اللعبة المعتادة، وانطلق نحو فضاءات أرحب ليُحلق في سماء العالمية. لم يكن حسن منصور المشهور بشاكوش يحلم بالنجومية المحلية لتباغته نجومية عالمية ساهمت في صنعها وسائل التكنولوجيا الحديثة التي تتخطى الحدود السياسية والجغرافية وتتجاوز اختلاف اللغات وتباين الثقافات.
قبل سنوات قليلة لم يكن شاكوش، سوى شاب من ملايين الشباب المصريين الواقفين على أبواب الحزن. كان كل ما لديه يؤكد سمة البؤس التي تلتصق بأناس منغمسين في لجاج الحرمان، بدءا من تعليم بسيط لم يتجاوز يضع سنوات في المدرسة الابتدائية، وفقر شديد في محيط شعبي يعاني فيه الجميع من قلة المداخيل ونقص الخدمات، وحتى الأحلام المؤجلة بالثراء والتطور يؤمن الناس أنها شبه مستحيلة.
رحلة مع المعاناة
ولد شاكوش في العام 1987 في حي بولاق الدكرور بمحافظة الجيزة الملاصقة للقاهرة، وهو حي من الأحياء العشوائية العديدة التي تزدحم بها مصر، إذ تتجاور فيها البيوت كعلب ثقاب مستندة على بعضها البعض، وتضيق الشوارع والحارات، ويتكدس السكان في مساكن ضيقة وغير مخططة، ما يجعل وسيلة المواصلات الوحيدة الممكنة داخل كل حي هي التوك توك.
هناك وفي تلك البيئة المصدرة للإحباط والمعاناة، ولد حلم حسن بالتميز والثراء، وهو حلم طبيعي كرد فعل مقاوم للواقع وغالبا يخالط الكثير من سكان الأحياء الفقيرة ويعافرون من أجله
رأى الصبي الصغير في كرة القدم طريقا للتغيير والكسب السريع، وهو طريق سبق أن سلكه سابقون من أحياء فقيرة وغيروا به حيواتهم. وقدم نفسه للعب في نواد صغيرة، قبل أن يلتحق بفريق الإسماعيلي، وهو ثالث فرق كرة القدم أهمية في مصر بعد الأهلي والزمالك. وهناك اكتسب لقب شاكوش باعتباره لاعب دفاع قويا قادرا على الأداء برجولة واجتهاد وبراعة.
لم يقدر للاعب البسيط أن يكمل مشواره نظرا لاحتياجه في كل تدريب لأجرة السفر إلى مدينة الإسماعيلية التي تبعد عن القاهرة نحو 150 كيلومترا، ما كان صعبا على أسرته أن تتحمله. تخلف كثيرا عن التدريب ليجد اسمه خارج تشكيل الفرقة، فينتقل إلى ناد أقل كثيرا هو نادي سمنود الرياضي.
عمل شاكوش في مهن عديدة ليوفر لنفسه تكاليف التنقل إلى النادي كان من بينها، حسبما ذكر لاحقا، بائعا في محل أحذية، مساعدا لنجار، ومراقبا في محل ألعاب إلكترونية “بلاي ستيشن”. ولم يستطع التوفيق بين العمل والموهبة، وسرعان ما انهار حلمه بعد استبعاده من فريق سمنود، فوجد نفسه شريد الحلم ومنعدم الآمال.
رغم تلك الظروف حافظ على موهبة اكتسبها من والده، هي الغناء في الأفراح الشعبية كنوع من المجاملة لأصدقاء وجيران ومعارف في الحي الفقير، حيث لا يوجد لدى أصحاب الكثير من الأفراح المال الكافي لاستئجار مطرب محترف.
وقتها كانت معظم الأغاني التي غناها في تلك الأفراح للمطرب الشعبي عبده الإسكندراني، وهي أغاني حزينة من عينة “عصفور ضعيف الجناح”، “عجبي عليك يا بن آدم”، و”يا بحر الدموع”.
كانت تتناسب مع حزنه، كما تلائم مناخ المعاناة الذي يعيشه سكان الحي العشوائي، ما جعله معروفا لدى الناس، ولم تمر سنوات قليلة حتى ذاع صيته في مناطق شعبية أخرى، انتقل إليها لإحياء أفراحها.
صعد صيت شاكوش بسرعة الصاروخ، كما يقول من تابعوه، ومعه حلمه بالتحقق والثراء، وربما كانت عينه على مثال سابق لمطرب شعبي من أصول متواضعة، وغير متعلم هو الراحل شعبان عبدالرحيم الذي صعد كنتاج حراك اجتماعي لطبقة سائقي الميكروباص. تلك السيارة التي شاعت وانتشرت كمشروع للباحثين عن عمل منتصف التسعينات، حيث كان السائقون يستعذبون صوته وهو يغني أغنية “أحمد حلمي اتجوز عايدة، كتب كتابه الشيخ رمضان”، وتأقلموا مع الكلمات التي تعبر عن محطات رئيسية في خطوط سيرهم هي: أحمد حلمي، عايدة، الشيخ رمضان.
أما شاكوش، والكثير من نجوم الأحياء الشعبية المعروفين حاليا، فلمعوا في ظل حراك آخر هو حراك التوك توك، ذلك الناقل الصغير الذي انتشر كالنمل في عشوائيات مصر وأحيائها الشعبية بتراخيص ودون تراخيص حتى أنه صار مصدر رزق لملايين العاطلين من العمل والمفتقدين لحرف أو تعليم.
يتبارى سائقو التوك توك في تشغيل أغاني مناسبة لشوارع غير ممهدة وضيقة، تمر في زحام شديد، وكانت ثيمة المهرجانات هي الأنسب لتلك المناطق فلمعت أسماء عديدة مثل حمو بيكا، مجدي شطة، وأبوالشوق، وغيرهم. لكن شاكوش كان أكثرهم تفوقا ولمعانا حتى أن بعض الفنانين رأوا فيه صوتا مختلفا، وحسا إبداعيا، فاستعان به الفنان أحمد مكي في مسلسل “الكبير آوي”، في الجزء الثالث ليغني أغنية “أشكرك”، واستعان به محمد رمضان في فيلم “واحد صعيدي”، وغنى في فيلم “علي معزة وإبراهيم” من إخراج شريف البنداري.
لغة الشارع التحتي
توالت مهرجانات شاكوش ليخطف محبة الجمهور بكلمات بسيطة دارجة، تعبر تعبيرا مباشرا عن الشارع المصري التحتي مثل أغاني “صاحب جبان”، “ليه يا قلبي يا هرم”، “شبح الحتة”، “إحنا جدعان وأنتو لا”، “وداع يا دنيا وداع”، “أنا لما بغيب مبغيبش أونطة”، “كعب الغزال”، “جبل الحلال”، و”شمس المجرة”، قبل أن تنطلق “بنت الجيران” بالتعاون مع عمر كمال، من كلمات الشاعر الشعبي مصطفى بدران المعروف بمصطفى حدوتة.
هنا فقد تميز شاكوش عن جيله باختيار كلمات تحمل رنة حزن وشجن بريء، ويمكن أن تدخل إلى البيوت دون حرج، بخلاف الكلمات التي يختارها حمو بيكا ومجدي شطة، فنسمعه مثلا يغني في أغنية “وداع”: “عدت الأوقات وعمرنا ضاع على الفاضي/ جوه مني جراح ومش مرتاح ومش راضي/ كل ما فرح يوم ألاقي هموم تحزني/ مين في وقت الضيق يكون لي صديق يشيل عني”.
حتى أغنية “بنت الجيران” إذا حذفنا منها كلمتي “خمور وحشيش” التي اعترضت عليها نقابة الموسيقيين بمصر، فإن كلماتها تميزت بالتلقائية والبساطة والتراكيب الجميلة إذ تقول “بنت الجيران شغلالي أنا عنيا/ وأنا في المكان في خلق حواليا/ مش عايز حد ياخد باله من الليّ أنا فيه/ شوفت القمر سهرني لياليا/ وهموت عليكي رَبِّي العالم بيا/ سيبي شباكك مفتوح لَيّه تقفليه”.
رغم جاذبية الكلمات وتماسها مع معاناة الشباب عاطفيا، وتوافقها مع مجتمعات شعبية، فإن مجتمع المثقفين ما زال يرى الظاهرة برمتها، بما فيها شاكوش وأقرانه دليلا على انحدار الذوق العام، وسمة من سمات مجتمع يعاني خللا أخلاقيا، حيث تنطلق فيه الفنون بلا ضوابط ولا معايير للجمال والإبداع الحقيقي.
غير أن ذلك التصور ليس جديدا على فئة المثقفين، فقد كان دوما يمثل الموقف ذاته من كل ما هو شعبي، ومن كل ما هو مختلف، وغريب، وغير معتاد. وليس أدل على ذلك من النقد الساخن الذي تعرض له المطرب أحمد عدوية، صاحب الحنجرة الذهبية عندما صعد نجمه بشدة خلال حقبة السبعينات والثمانينات بأغاني تبدو كلماتها وكأنها كلمات شوارع مثل “سلامتها أم حسن”، “السح الدح إمبو”، و”كراكشندي دبح كبشه”.
ويذكر الكاتب الصحافي محمد الباز في كتابه “أيام الوعظ والسلطنة” أن الكاتب وديع فلسطين نقل له قول الشاعر الكبير نزار قباني ممتعضا من ظاهرة عدوية، ولا يمكن أن يعيش في بلد عنوان ثقافته أحمد عدوية.
كما أبدى معظم الأدباء والمفكرين الاستياء من لمعان عدوية، واعتبروه رمزا للإسفاف السائد، حتى أن عبدالقادر حاتم رئيس المجالس المتخصصة في مصر في ذلك الوقت شكل لجنة لدراسة ظاهرة عدوية وبحث أسباب انجرار المجتمع خلف أغانيه التي يراها هو مسفة.
ويقول الباز إن العودة الآن إلى كلمات أغاني عدوية تشعرك إلى أي مدى كانت جميلة، بسيطة، ومعبرة عن أفكار الناس الغلابة، ونستطيع القول إن التطور المجتمعي الآن صار مستوعبا لها، بل ويمكن كذلك ترميزها للتعبيرعن أزمات سياسية.
ببساطة يمكن أن نشير إلى أن أم حسن هنا يمكن أن تكون مصر التي اعتبرها الناس مريضة في حقبة السبعينات تعاني من الفساد المالي، والتفاوت الاجتماعي، وصعود طبقة من الطفيليين الأثرياء، ونمو التشدد وشيوع ظاهرة التدين الظاهري، ونستطيع أن نقول إن عدوية كان يتماشى مع الحزن المكبوت لدى الناس في البلد البائس.
صعود نجم المهرجانات
بهذا المنطق يمكن الوقوف عند ظاهرة الفن التحتي المتنامية بفضل تطبيقات السوشيال ميديا، ووصول التكنولوجيا إلى الجميع، أغنياء وفقراء، مثقفين وجهلة، نخبويين ومهمشين، فالمهرجانات الشعبية التي عرفتها مصر قبل أكثر من عشر سنوات أصبحت الآن الأكثر ترحيبا واهتماما.
وحسبنا أن نرى ذلك في حفل “الفالانتين” بالقاهرة يوم 14 فبراير الماضي، ففي حين لم يزد عدد الحاضرين في حفلات نجوم غناء كبار مثل آمال ماهر، تامر عاشور، هيفاء وهبي، وخالد سليم، عن بضعة آلاف متفرج، فإن الحفل الخاص بشاكوش والذي أقيم في استاد القاهرة حضره أكثر من خمسين ألف شخص.
الإدانة ليست حلا لما نتصوره هبوطا للذوق العام، وعلينا أن نفهم أولا ظاهرة المهرجانات ونجومها ومبدعيها قبل أن نستسهل الشجب والبكاء على الرقي والتحضر المتراجع. وقد حاول الناقد المسرحي المصري يسري حسان ذلك في كتابه الجديد الصادر عن دار بتانة للنشر والذي حمل عنوان “هتاف المنسيين، قراءة في ظاهرة أغاني المهرجانات”. قال “أمضيت شهورا طويلة أسمع وأشاهد أغاني المهرجانات لأتعرف على عالم ثري بقصصه وحكاياته ورحلات كفاح نجومه الذين صاروا نماذج مضيئة لشباب فقير ومهمش للتطور الاجتماعي”. أما المهرجان الغنائي، فيعتبره نمطا موسيقيا يعبر عن حالة الكرنفال الذي يتيح مشاركة أكثر من مطرب معا في أغنية واحدة تندمج فيها موسيقى الراب مع الموسيقى الشعبية التقليدية.
ويرجع ميلاد الظاهرة إلى عدة أسباب، أهمها سهولة صناعتها، ويسر تداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلى جانب أنها حاولت التعبير عن لغة جديدة يتم تداولها في الشارع ولا تلتفت لها الأغاني التقليدية أو يتعامل معها المطربون باستعلاء.
كما أن جمهور الأحياء الشعبية في مصر، وهو حزب الأغلبية الصامت في المجتمع صار نافرا من نجوم الغناء التقليديين الذين يبدون دوما من المتعالين على الفقراء وترتفع أسعار تذاكر حفلاتهم إلى مئات وآلاف الجنيهات، فضلا عن شعور الجمهور بأن هؤلاء النجوم لا يمثلونه، ويعيشون حياة مترفة، صاخبة، هنيئة، في الوقت الذي ما زال نجوم المهرجانات حتى بعد الثراء يعيشون وسط أحيائهم الشعبية.
هؤلاء أذكياء بتواصلهم مع المجتمع التحتي وإشعاره أنهم جزء منه، وتبدو أخلاق الحارة المصرية القديمة التي تجمع بين الشهامة والجلد والكرامة ما زالت منغرسة في نفوسهم.
هناك حكايات عديدة دالة على ذلك، منها ما حكاه شاكوش في إحدى حواراته التلفزيونية، عندما كان يأتيه في بعض الأحيان أناس فقراء يطلبونه لإحياء أفراحهم وليس لديهم المال الكافي لدفعه له، فيقرر التبرع بأجره للعروسين، ومثل هذه الممارسات تحول أصحابها إلى رموز الشهامة واستحقاق لقب “ابن البلد”.