"إبداع متجدد عبر الزمن"..
الأنامل التي أضاءت المسرح اللحجي: شخصيات وأعمال خالدة
تطور المسرح في هذه المدينة الخضراء فقد كانت النقلة النوعية بشكل واضح وجلي في عام 1947م، حيث برزت فرقتان مسرحيتان، كانت الأولى تعرف باسم (العروبة) للتمثيل في الضاحية الشرقية من مدينة (الحوطة) أما الثانية فقد عرفت باسم الفرقة (القومية) للتمثيل، وكانت في ضاحيتها الغربية
المقدمة:
يُعرَّف فنّ المسرح بأنّه أبو الفنون، وذلك لأنّه أوّل أنواع الفن، ولقدرته على توظيف كل الأشكال التعبيرية المعروفة، من رقص وموسيقى وشعر ورسم. وقد بدأ فن المسرح منذ أيّام الإغريق والرومان، واشتهر لما كان له من أثر على النفوس، فقد كان يُعدُّ الفن المسرحي في ذلك الوقت الوسيلة الوحيدة التي يعبر الإنسان فيها عمّا يجول في خاطره وداخله.
ومن هنا فالمسرح أبو الفنون كلها إن لم يكن هو كل الفنون المتعارف عليها؛ لأنه يشتمل على معظم أنواع الفنون، ويمتلك خصائص ومميزات عدة أهمها التفاعل الإنساني الذي يرتكز على القدرة العالية في الأداء الدرامي الراقي وحنكة واقتدار تلقي المشاهدين وإعجابهم وتأثرهم بما يقدم لهم على خشبة المسرح، وعملية الوقوف على خشبة المسرح ليست بالعملية السهلة، لكنها عبارة عن عملية طويلة من المران والتدريب والشجاعة وحب فن التمثيل المسرحي، فضلًا عن امتلاك ناصية الثقافة والمعرفة، وهذه جميعها تمثل مواهب ذات قدرات خارقة لا يستهان بها.
ويمكن القول إن المسرح شكل من أشكال التعبير عن العواطف والمشاعر الإنسانية وعن آراء وفلسفة المجتمع، وأصبح له دور مؤثر وفاعل في مشاكل المجتمع وهمومه، ويُعدُّ أداة حضارية في تاريخ شعوب العالم، وفي تشكيل وتطوير ذهنية المجتمعات ومساعدتها على إعادة صياغة حياتها بشكل يتناسب مع مطامحها وتطلعاتها المستقبلية، وهو أداة تواصل مع التأريخ والعصر وحاجة ثقافية مطلوبة للمجتمع وظاهرة يسأل عنها إذا ضعفت أو اختفت ويدافع عنها ويقاوم من يحاول إعاقة خطاها ويعرقل امتدادها وانتشارها؛ ولهذا خصص له يوم يحتفل به على مستوى العالم.
وقد عرف الجنوب العربي النشاط المسرحي بمفهومه الحديث وإن كان بإمكانيات متواضعة، منذ مدة مبكرة في تاريخه الحديث والمعاصر، وقد سبق الإشارة إلى ذلك في دراسة سابق لنا عن المسرح في مدينة عدن، وتُعدُّ محافظة لحج أبرز محافظات الجنوب العربي نشاطًا وازدهارًا في مختلف أنواع الفنون بشكل عام، ونخصص هذه الدراسة لمتابعة النشاط المسرحي في هذه المحافظة بالاعتماد بدرجة رئيسة عما ورد عنها في كتابات صحفية ومواقع في النت، متابعين تاريخه والوقوف أمام أبرز شخصياته، على النحو الآتي:
أولًا: تاريخ المسرح في المحروسة لحج:
لقد عرفت لحج المسرح منذ عهد الاحتلال البريطاني بوساطة مسرح الدمى، وإن كان بشكل بدائي على يد تلك الشخصيات من أبناء عدن، كـ(شمسان حمبص) و(أبو شنب) و(أبو تمزة) الذين كانوا يتقنون ملاعبة الدمى وعرضها في المناسبات الدينية والأعياد، وزيارة الأولياء وموالدهم، والتنقل ما بين عدن ولحج بحسب المناسبات، وكانوا يقدمون في عروضهم بعض القصص باللهجة الدارجة وبقالب فكاهي يستهوي الصغار والكبار، وهو ما جعلهم يجذبون كل فئات المجتمع العمرية إلى مسرحهم رغم أنهم كانوا أميين، وكانت منتزعة من واقع حياة الناس البسطاء الذين يعيشون حياتهم في الأماكن العامة في الأسواق والشوارع، وكان مؤدو هذا الفن يمتلكون قدرات خارقة على تحويل المبكيات أو معاناة الفقراء إلى مضحكات شأنهم شأن المبدعين فكانوا يبتكرون كل جديد(ينظر: المسرح في عدن بين الهدف والاستهداف).
ومع بداية الأربعينيات من القرن الماضي وبشكل تدريجي عرفت لحج المسرح، وكانت الوسيلة التي يستخدمها المسرحيون القدماء في لحج هي إحضار عدد من (الفوانيس) الكبيرة التي كانت توزع متناثرة على مساحة المنطقة المراد إضاءتها، ولزيادة مساحة الضوء في المنطقة وتحديد المنطقة التي اعتمدوها بوصفها منصة مسرحية مرتفعة كانت توضع قطع معدنية من النوع اللامع بأحجام متفاوتة في الأبعاد الثلاثة للمنصة المسرحية ينعكس عليها ضوء تلك المصابيح الغازية، فيتمكن الأهالي من المشاهدة الجيدة والواضحة لما يدور أمامهم من أحداث المسرحية.
أما عن تطور المسرح في هذه المدينة الخضراء فقد كانت النقلة النوعية بشكل واضح وجلي في عام 1947م، حيث برزت فرقتان مسرحيتان، كانت الأولى تعرف باسم (العروبة) للتمثيل في الضاحية الشرقية من مدينة (الحوطة) أما الثانية فقد عرفت باسم الفرقة (القومية) للتمثيل، وكانت في ضاحيتها الغربية، وقد ضمت الفرقتان المسرحيتان نخبة طيبة من الشباب المتعلم والمثقف ومن كانوا على درجة كبيرة من الإلمام بالشعر والأدب أمثال المخرج والممثل المرحوم عبدالله عبدالكريم السلامي والأديب المرحوم عبدالله هادي سبيت والشاعر الشعبي المرحوم مسرور مبروك والفنان الكبير المرحوم محمد سعد الصنعاني، وكذلك المرحوم محمد فضل اللحجي، ومن أهم الأعمال المسرحية التي قدمتها الفرقتان وكان لها حضور دائم آنذاك مسرحية(المروءة والوفاء) و(قصر الهودج) و(أوبريت بنت الناس) و(طرفيشة)...
وبعد الاستقلال من الاستعمار البريطاني تشكلت فرقة المسرح الوطني على مستوى الجنوب، فقدمت بعض الأعمال المسرحية خلال عامي 1968- 1969م ذات الاتجاه السياسي ومنها مسرحية: شهيد الوطن، وقصة الثورة، وأقوى من الموت، ثم انتهىنشاطها في منتصف 1969م. ونتيجة فشل الفرقة في استمرارها وفشل القرار السياسي بإلغاء تعدد الفرق استعادت الحكومة بتقديم كافة الدعم المادي والمعنوي، وتشكلت فرق عديدة في محافظات الجنوب العربي، وتضمنت عناوينها إبراز صورة النضال الوطني ضد المستعمر، فقدمت فرقة لحج مسرحية (خائن في خط النار) و(وميلاد الثورة)، كل هذه الأعمال أسهمت في خلق الحركة المسرحية وتطورها بشكل عام وارتقت بالمسرح السياسي إلى أجنحة الفن المسرحي وقواعده المتطورة.
وقد تسنى للحج أن تشارك بأعمالها المسرحية في ثمانينيات القرن الماضي في محافل عربية خارج الوطن، وقد عرضت المسرحيات اللحجية على الجمهور العربي في ليبيا، الكويت، السعودية، العراق، في مهرجانات للمسارح، وقد نالت إعجاب واستحسان الجماهير العربية في تلك البلدان؛ لكن كانت أهم حقبة مميزة للحركة المسرحية اللحجية هي حقبة السبعينيات، بعد ضم الفرقتان(العروبة والقومية) في فرقة مسرحية واحدة ثم إدراجها ضمن أقسام الإدارة العامة للثقافة في لحج، وقد ركزت الفرقة في نشاطها على الجوانب الاجتماعية ونقد السلبيات والممارسات الخاطئة، وكانت تقوم بدور تعبوي وتحريضي في توعية الجماهير بدورها في بناء المجتمع وتنميته.
ومن أهم الأعمال المسرحية في هذه الفترة نذكر(وامصيبتش وانويرة) (زواج بلا سكن)، محو الأمية واجب) وكذا الأوبريتات الفنية مثل أوبريت(أمس والشعب) للشاعر حمود نعمان صالح، وكذلك المشاركة في تمثيل عدة مسلسلات إذاعية كان أهمها المسلسل الاجتماعي الكوميدي الشهير(شروى) لمحمد قائد صالح، ومسلسل (أحمد فضل القمندان).
لكن بعد الوحدة لم تسلم الحياة الفنية، في الجنوب عامة ولحج خاصة، من محاولة وأدها من قبل أساطين الدولة الجديدة، دولة رجال القبائل والدين الذين لا يفكرون إلا بالمكاسب المادية التي تودع في مصارفهم الخاصة، واستهدافهم الممنهج في القضاء على كل حياة وثقافة وتاريخ وفن وجمال في الجنوب، وكانت لحج ضمن ذلك الاستهداف، وإن كانت أفضل من غيرها مقاومة بما تمتلكه من عراقة وأصالة فنية، وتجدد روح الفن، ببروز الموهوبين فيها، فكانت إرهاصات الفن الثوري المقاوم للحالة الواقعية تحت الاحتلال الجديد، لدولة رجال القبائل والدين، تنبعث منها، ليس هذا فحسب بل رافق فنها تثوير الثوار وبث الحماسة فيهم، فكان فنانوها الغنائيون أصاحب الصوت الصادح والتأثير البالغ في نفوس الثوار الجنوبيين، في هذا المعمعان الثوري الجديد ضد الاحتلال الجديد.
وفي مارس 2019م شهدت لحج بلد الثقافة والفن محاولة العودة لتحريك عجلة الحركة الفنية والمسرحية برئاسة الفنان المسرحي والكوميدي عيدروس عبدون، كان ذلك بأداء أول عمل مسرحي بعد غياب طويل تحت عنوان (غائبون عن الذاكرة). بمشاركة ألمع نجوم المسرح بمحافظة لحج، على خشبة مسرح الثقافة بحوطة لحج.
ويأتي عرض تلك المسرحية بمناسبة اليوم العالمي للمسرح الذي يصادف كل 27 مارس من كل سنة، وأقيمت الفعالية تحت رعاية ودعم القيادة المحلية للمجلس الانتقالي بالمحافظة، وشهدت الفعالية كذلك عرض ربورتاج مصور عن تاريخ لحج، وعراقتها من كافة الجوانب، وشهدت تلك الفعالية تكريم أقدم رواد المسرح من أبناء لحج.
ثانيًا: شخصيات بارزة في سماء المسرح اللحجي
يتميز الفن المسرحي بأنه نشاط جماعي، أي أنه من الفنون التي لا يؤديها شخص واحد بمفرده، وإنما هناك مجموعة أشخاص تتوزع الأدوار ما بين كتابة النص والإعداد والإخراج والتمثيل...، لكن الشهرة والرواج لدى عامة الجمهور المتلقي تكون للممثلين فوق خشبة المسرح، وفي هذا العرض المسرحي تتميز شخصيات تكون لها الشهرة والحظوة لدى الجهور لما تتمتع به من قدرة على التأثير في الجهور المشاهد للعروض المسرحية، وسيتم هنا تناول شخصيتين متمايزتين نوعًا، كانت لامعة في مجال النشاط المسرحي في المحروسة لحج، الأولى لول نصيب، والأخرى عليوة
1_ لول نصيب
_ لول سعيد نصيب، الميلاد 15 إبريل 1958م الحوطة م. لحج.
المؤهل ثانوية عامة دبلوم مسرح.
عضو في مسرح القمندان مكتب الثقافة م. لحج.
الإرهاصات الفنية الأولى للول نصيب:
من المسرح المدرسي تمثيل... غناء... رقص.. كانت بداية المشوار المشاركة في تمثيل مسرحية عن الخليفة عمر بن الخطاب بإشراف المعلمة سعود المنتصر، لم يتم عرضها لأسباب مجهولة رغم تجهيز البروفات حين ما كانت الفنانة لول نصيب في الصفوف الابتدائية دراسيًا...
وفي الابتدائية أيضًا وفي أوائل السبعينات قدمت أول عمل عن الأم من تأليف الفنان المسرحي الراحل محمد أحمد كرد.
البداية الفنية الحقيقية:
تعد بداية مشوارها الفني الحقيقي، مع فرقة العروبة التي تم الانضمام إليها في 1973 تجسدت بالمشاركة في تقديم أول عمل مسرحي مع العروبة، وهو (تعليم المرأة واجب) تأليف الشاعر والمسرحي الفنان الراحل أحمد صالح عيسى إخراج المخرج والمؤلف المسرحي والصحفي الملحن والشاعر الراحل حمود نعمان صالح (أبو كدرة).
بعد ذلك توالت الأعمال حيث قدمت الفنانة لول نصيب ما يقارب ال 24 عملًا مسرحيًا خلال مشوارها وحياتها الفنية المسرحية، أهمها:
وامصيبتش وانويرة، طريق الهلاك، عرض زواج، الزواج مسؤولية، الرجل الذي أصبح كلبًا، الزوج المنحوس، في البدء كان القربان، وغيرها من الأعمال الأخرى.
مشاركتها في أعمال إذاعية وتلفزيونية.
لقد شاركت الفنانة المسرحية لول نصيب في عدة أعمال إذاعية وتلفزيونية، أهمها:
مسلسل(شروئ)، تمثيلية وامصيبتش وانويرة، تمثيلية هذا جناه، مسلسل القلب القاسي، مسلسل الصراع من أجل الأرض، مسلسل سلومة وسالم، وغيرها من الأعمال، كما شاركت في عدة أوبريتات ولوحات فنية، منها:
أويريت المشوار تأليف الشاعر الراحل أحمد سيف ثابت تلحين الفنان الراحل محسن عبدالكريم عطا، لوحة عيد الأعياد للشاعر محمد حسين الدرزي تلحين محسن عطا.
شاركت في برنامج التثقيف الصحي بتقديم أعمال اجتماعية توعوية متعلقة بأضرار الزواج المبكر وبصحة الأم والطفل والصحة البيئية، وشاركت في العديد من الاحتفالات والمهرجانات والسهرات الفنية التلفزيونية والإذاعية منذ بداية المشوار مع الفرق والندوات الفنية وفرقة مكتب الثقافة م. لحج داخليًا وخارجيًا، ومنها مشاركتها في الكويت، فرنسا، العراق.
وقد كانت أبرز مشاركتها في مهرجان المسرح العربي بمسرحية (في البدء كان القربان) في 1988م الذي أقيم في بغداد تأليف الكاتب فيصل صوفي، إخراج المخرج جميل محفوظ.
وشاركت في مهرجان القمندان الثالث للعام 1997م في مسرحية (القمندان ومملكة الزمان) تأليف محمد مصطفى كرد، إخراج محمد أحمد مسعد، كما كان لها آخر المشاركة الأخيرة مسرحيًا في العمل المسرحي (القرار) الذي تم تقديمه من أجل تخرج دفعة من المعهد الصحي بمحافظة لحج في العام 2004م تأليف وإخراج محمد قائد (شروى).
مواهب الفنانة لول نصيب:
لم يقتر نشاط الفنانة لول نصيب على الفن المسرحي بل لها مواهب وأنشطه أخرى كثيرة في جانب الشعر، فقد كتبت العديد من القصائد، وأدت العديد من الأعمال الغنائية، ومنها: أداؤها لأغنية (صحيني) كلمات عبدالله الشريف لحن محمد سعد الصنعاني في 1978م، كما أدت العديد من المنلوجات بصوتها منها منلوجي (من ذا النكد آح واغلبي، ونقلك عيب ياهنسوس) كلمات محمد حسين الدرزي، لحن أحمد فضل ناصر، ولحنت منلوج من كلمات حمود نعمان.
سيدة لحج الخضيرة لول نصيب، فنانة المسرح والفنون الشعبية كانت وما زالت قمة في الإبداع، وكنزًا زاخرًا بالموروث الثقافي، وقبولها المشاركة في فيلم التعبيري الراقص "الضوء الأسود ٣" إنما هو إضافة جميلة وإبداعية من فنانة قديرة وشاملة وذاكرة غزيرة في مشوار الزمن الجميل والنهوض الثقافي.
2_ المبدع الشاب المسرحي عليوة(الله يرحمه)
هو سلطان الفرح ... صانع البسمة... ومنبع البساطة والطيبة... من يراه لا يستطيع مقاومة كارزيما يبعثها تجعل للابتسامة مكانًا في قلبك، ولو كنت في قمة الحزن، هكذا وصفه أحد أصدقائه، بعد رحيله، إذ كان يعاني تضخمًا بالقلب.. ذلك القلب الكبير، الطيب، قلب إنسان لا يحمل في قلبه مثقال ذرة من حقد أو حسد أو كره أو زعل، إنسان صافي، شفاف كالماء..(عليوة)، الشاب الكوميدي والمبدع الذي سخر نفسه ووقته وموهبته؛ لإحياء مسرح الشباب في حوطة لحج.
من هو (عليوة)؟
عليوة هو شاب لحجي بسيط، اسمه: علي أحمد ناصر طفيح، لكنه اشتهر باسم (عليوة)، وكان يكني نفسه دائمًا (أبو وداد)، ولد في عام 1986م، في قرية سفيان لأسرة فقيرة، أبوه من أبين وله أختان وأخ في أبين من أبيه، درس في مدرسة طارق بن زياد في قريته سفيان ثم انتقل لإكمال الثانوية في مدرسة الفاروق للبنين بمدينة الحوطة.
الحديث عن عليوة حديث متصل دومًا بمركز شباب الحوطة الذي اتصل اسمه دومًا بهذا المشروع الشبابي الذي حاول ويحاول جاهدًا أن يعيد الابتسامة والأمل لمحافظة عريقة فقدت ألقها منذ زمن رغم كل الصعوبات والتحديات والمكايدات التي تعرض لها هذا المشروع من قبل من لا يريدون لهذه المحافظة الخير والنهضة على أيدي الشباب.
(الطيب عمره قصير)، الطيبون يرحلون تباعًا عن واقعنا؛ ليتركونا مفعمين بالحيرة والحسرة، لكنه القضاء والقدر، ونحتسبه عند الله شابًا رائعًا أراد أن يهدي الحياة ابتساماته الكثيرة ونجح في إهدائها إلا أن القدر لم يسمح له بأن يضيف المزيد والمزيد. عليوة كان عاشقًا للرياضة والمسرح منذ نعومة أظفاره... فتراه في سفيان يدرب الأطفال مع التحفيز المليء بالنكات والمرح فترى الجماهير تلاحقه أينما ذهب... بحثًا عن المتعة والنكات والكلمات المضحكة التي يخرجها عفوية، ففي كل جلسة معه مسرحية تنزل الدموع من الضحك، فهكذا هو دائمًا.
التصقت شخصيته بالطرافة والفكاهة.. بدا ساخرًا من كل شيء ومن أي شيء قد يراك لأول مرة فيشعرك في لحظات أنه صديقك منذ زمن لا بل أحد أفراد العائلة، بدأ مشواره في المسرح من مكتب الثقافة بحوطة لحج، إذ فرض نفسه بروعة إبداعه على ذلك المكتب الذي أهمله كعادته مع أي فنان مبدع مرتبط بالأرض وأهلها، وهذا هو ديدن كل الجهات الحكومية تجاه المبدعين والرواد وما ذاقه نجوم لحج ومبدعوها الكبار منذ زمن، تجرع عليوة وفرقته المسرحية من ذات الكأس لا بل ربما أمر لكنه وبرغم كل الصعوبات والمشاكل المادية وحالته الصحية أيضًا فقد ولد مريضًا منذ طفولته بتضخم بالقلب، لكن كل ما سبق لم يكن عائقًا له لتحقيق حلمه فاستمر بنشر الابتسامة بين الأزقة والحارات، وحتى في الشارع ترى الناس حوله، وهو بحركاته وكلماته يتراقص... والناس تثمل ضحكًا وقهقهةً.
حين يمر في شارع الحوطة يضفي ألقًا مميزًا، يعرف الجميع أن عليوة على بعد أمتار، فيجتمعون حوله لممازحته وتغيير جو، وهو بدوره يقابل الجميع بود وحب وبقلبه الكبير جدًا الطيب والمتضخم بالمرض، بالألم والأمل. أدمن المسرح ولم يحبه أو يعشقه وحسب بل أدمنه إدمانًا شديدًا رغم كل الإحباط والإهمال المحيط.
_ تأسيس الفرقة المسرحية:
رأت النور الفرقة المسرحية لأول مرة في العام 2009م إلا أن الأحلام سبقت هذا التاريخ بكثير، اجتمع ساعتها عليوة بصديقه المقرب منذ أيام الدراسة (عادل حزام) المبدع الآخر الذي اعتاد كتابة النصوص المسرحية وإخراجها، أنضم لهم الممثل حسين الشخط، ثم أنضم لهم الفنان المبدع كرم عبد علي، فكانت البداية مع مسرحية (المداعيس) في العام 2009م لتدشن ولادة جديدة للمسرح اللحجي بشكل عام ولمسرح الشباب بشكل خاص، فظهرت المسرحية في أسبوع الطالب الجامعي بجامعة عدن، وحصلت على المركز الأول على جميع كليات الجامعة، وحصل عليوة ساعتها على جائزة أحسن ممثل.
شكل ذلك النجاح انطلاقة الفرقة وانتشارها شعبيًا، وها هو الحلم في طريق نحو التحقق، ثم توالت تباعًا الإبداعات والمسرحيات التي كان (عليوة) الركيزة الأساسية في نجاح كل الأعمال، فجاءت مسرحية(جني الكتلي) التي تدور فكرتها حول معاناة الشباب الجامعي بعد التخرج وصعوبة الحصول على وظيفة، ولاقت أيضًا نجاحًا باهرًا وتوالت الأعمال ساعتها فكانت مسرحية (كوكريم) التي عرضت في مكتب الثقافة في فترة الأعياد منذ حوالي ثلاث سنوات، وكانت بطائق دخول المسرحية يومها قيمتها مائتين ريال، انتقد بعضهم ذلك فقال عليوة: "على الناس أن يعرفوا أن للفن ثمن ويستحق الدفع" رحمه الله.
شخصية عليوة جذبت المشاهدين والمعجبين والمهتمين بالمسرح حتى الشباب الذين حلموا بامتطاء خشبه المسرح، فضم مبدعين رائعين أمثال: علي مهدي ورؤوف الدجير ورامي مهدي ومحمد فرج ومراد الدامس وعبدالرحمن السقاف والمنولوجست وجدي خرابه. وأيضًا أضاف نكهة الحداثة باكتشاف وتبني فرقة لرقص الراب والبريك دانس بقيادة مراد مبروك وسهل سرور وصبري ثابت.
وفي وسط وضع متأرجح وأمان مفقود طلب عليوة من الكاتب عادل حزام كتابة نص مسرحي عن الأوضاع المتدهورة جدًا التي آلت إليها محافظة لحج من الفقر والبطالة، وتراكم القمامة، وتدهور التعليم والانفلات الأمني، وطلب ساعتها أن يتم عرضها في الشارع في الهواء الطلق، ورغم التحدي والصعوبات إلا أن مسرحية (من حقي أن أعيش) ظهرت بوصفها أول مسرحية في الهواء الطلق منذ عشرين عامًا منذ توقف المسرح المفتوح قسرًا في لحج وكانت آخرها مسرحية (وامصيبتش وانويرة) للمبدعة لول نصيب. كانت المسرحية بحضور لافت واستحسان بالغ حيث شاركت فرقة الطيور المهاجرة بقياده العازف على الأورج الشاب أمجد الحجر وصوت البلابل كرم عبد ووسام حسن وعلي حسين.
أضحى ساعتها المستحيل واقعًا، وتوالت البشائر بتحقيق حلم عليوة ورفاقه فتبعتها مسرحية (من حقي أن أتطوع) بقاعة الثقافة بدعوة من جمعية الهلال الأحمر التي تنافس فيها عليوة مع فرقة خليج عدن... حيث قال الفنان عدنان الخضر أنت مبدع وأعجوبة يا عليوة من نوع نادر وطلب منه مشاركته معه بالتمثيل.
استمر عليوة بمسرحيات يحارب فيها واقع ألمه، فكان ملهمًا للشباب وقصة كفاح وعلم من أعلام المسرح بلا منازع. ومن أجمل مسرحياته أيضًا مسرحية عن دور رجال الأمن في المجتمع.. بعنوان (الأمن للمواطن مش ضده). ولا تحصى تلك الاسكتشات التي أسهم عليوة فيها مع جمعيات الصم والبكم وجمعية ذوي الاحتياجات الخاصة وجمعية المعاقين حركيًا... في مساهماته لتظهر معاناتهم وهموهم للمجتمع. وهكذا كان يسهم في فنه بتناول أعمال مسرحية تعالج قضايا وظواهر اجتماعية سلبية ودخيلة على المجتمع، فكان من آخر أعماله مسرحية بعنوان (في حافتي مدمن) تحاكي ظاهرة الإدمان على الحبوب المخدرة، التي تفشت في المجتمع وأصبحت تهدد أمنه وسلامته وسكينته العامة، وفي هذا العمل تقمص عليوة دور الشيخ (حرزمة العرطوط) تاجر المخدرات. فأبدع كعادته.
رحل المبدع (عليوة) وهو يخطط ويرتب لعمل مسرحي أمام قصر دار الحجر عن حياة القمندان والفرق بين الماضي الجميل والحاضر البشع. ووافق المخرج الرائع والإعلامي عادل مبروك على تنفيذ العمل، واجتمع بعليوة ورأى فيه الموهبة التي انتظرتها لحج دهرًا. أو مثلما وصفه الشاعر عارف كرامة عندما حضر البروفات لعدة مسرحيات للفرقة، فقال لعليوة: "أنت المسرحية بكلها".
هكذا عاش الفنان المسرحي عليوة رغم قصر حياته، وفي زمن طغت فيه رائحة الدم والبارود على رائحة الفل وصوت اللحن والأغنية والضحكة اللحجية إلا أنه كان القائد الملهم والطموح ضرب أروع مثال في التمرد على الواقع، على المرض، على أوجاع الفقر، وضنك العيش مع أسرته بعد موت والده، فهو كغيره من شباب لحج كان عاطلًا عن العمل ووجد نفسه رب أسرة تتكون من أربع نساء (أمه وخالته وأختاه) بمعاش لا يذكر لوالده المتوفي (حوالي ثلاثون ألف) يتقاسمه مع زوجة أبيه وأخيه في أبين.