العربية اختصت دون غيرها بالاشتقاق اللفظي والمعنوي
اللغة العربية.. بحر لا آخر له
أتعجب ممن يحسنون الكتابة ويشكلون بأقلامهم قصصًا وخيالات وينسجون أحاديث قد يعجز اللسان عن صياغتها، وعندما تنظر إلى كتاباتهم تتمنى أن تصل لربع ما يفعلون، الأغرب ليس في إبداعاتهم وأسلوبهم الراقي والمميز في الكتابة، لكن في خزينة الأسرار التي يملكونها من اللغة، وتلك الحصيلة الهائلة من المرادفات والجمل التي يستطيع أن يضعها ذلك الكاتب في المكان المناسب وبالطريقة المناسبة.
فارق ما بين كتاب زماننا وكتاب الأزمان الماضية، هو هذه الحصيلة الهائلة والكم الكبير الذي ملكه هولاء العظماء القدامى، من مفردات اللغة وأسرارها وغرائبها ومتشابهها، فتجدهم يضعون الكلمة ومفرداتها ومعانيها، تباعًا دون أن تستشعر أنت ذلك التكرار لكنه يحدث بالفعل، فهو تكرار يؤيد الفكرة والمعنى الذي يريدون، بشكل رائع وسلس، وعندما تقرأ تشعر كأنك وسط بحر هائج.
ما يعيب كتاب عصرنا -إلا القليل- أنهم على الرغم من جمال عباراتهم وسلاسة موضوعاتهم إلا أنهم بخلاء في حصيلتهم اللغوية ومرادفاتهم من الكلمات التي يضعونها، وإن حاولوا وضعها يستشعر القارئ هذا الأمر ويمكن أن يكون ناقدًا ويتساءل لماذا هذه الكلمة وهي قد وضعت من قبل؟
ما جعلني أكتب هذه الكلمات ما قاله الشيخ إبراهيم اليازجي وهو من أكبر علماء اللغة، الذي قال عنه معاصروه «أنه كان شديد البيان، وبارع الإنشاء، وقوي اللغة» يقول اليازجي «لم يبقَ في أرباب الأقلام ومنتحلي الإنشاء من هذه الأمة من لم يشعر بما صارت إليه اللغة، لعهدنا الحاضر من التقصير بخدمة أهلها والعقم بحاجات ذويها، حتى لقد ضاقت معجماتها بمطالب الكتاب والمعّربين، وصارت الكتابة ضربًا من شاق التكليف وبابًا من أبواب العنت».
نعم هذا ما يحدث في زماننا فقد استشكلت اللغة على كثير من الأدباء، والكتاب، والمتعلمين، حتى أنهم يجدون من الصعوبة من جلب المعاني لتركيب جملة من الجمل، بل قد يجدون غرابة إذا كان هناك مرادف للكلمة لم يسمعوه من قبل.
وأضاف اليازجي، أن اللغة العربية اختصت دون غيرها بالاشتقاق اللفظي والمعنوي، لذلك اتسعت كلماتها ومفرداتها، لكن استبدلت تلك المعاني بكلمات كثيرة وردت على القاموس العربي بسبب الانفتاح على حضارات أمم أخرى كالعجم والفرس والغرب وغيرهم وتطورت هذه الكلمات حتى أزاحت الكلمات الأصلية، مثل كلمة «مرحى» التي استبدلت بكلمة «برافو» وهي كلمة تعني المديح والاستسحان، لكن غاب عن هؤلاء كم كبير من كلمات الاستحسان كان العرب يذكرونها قديما لكنها اندثرت بمرور الزمان، مثل أحسنت، وأبدعت، وأجدت، ولله درك، ولله أنت، ولله أبوك، وما شاء الله.
كذلك في معاني المدح «بخٍ بخٍ»، و«بهٍ وبهٍ»، وفي معاني التقبيح «سوءة لفلان»، و«قبحا له»، و«خزيا له»، و«تبا له»، و«أفٍ له»، و«لا أبا له»، كذلك استبدلت تحية الصباح عندنا بـ«بنجور» و«بنسوار»، على الرغم من أكثر الكلمات العربية التي دلت عليها مثل «عم صباحا»، و«عم مساء»، و«نهارك سعيد»، و«صباح الخير»، و«أسعد الله مساءك»، وغيرها من الكلمات العربية التي استغنى عنها الكثيرون.
هذه الأمثلة التي نضربها ليست من باب المطالبة باستبدالها في الكتابة، فلكل مقام مقال، وقد لا يصلح لفظ من الألفاظ أو جملة من الجمل القديمة لعصرنا هذا، يمكن لصعوبة ذلك على الأفهام والعقول، أولعدم قبوله في السياق الأدبي والكتابي، لكن نذّكر ذلك، لنؤكد أنه على المشتغل بالأدب والكتابة، أن يكون ملما بهذه الحصيلة اللغوية التي اندثرت وغابت وتوارت تحت التراب.
أفضل ما قرأت في النصائح عن أهمية المواصلة في القراءة والكتابة لتكون مبدعًا، كلاما لأحد اللغويين، فقد قال «تريد أن تكون أديبًا مبدعًا يحسن صناعة الصراع، والحبك، والسبك، والصعود، والنزول، والبدء والختام، ودس الأفكار، والشغب، على أسطح الكلمات، والمرور عبر خنادق المشاعر، ومداعبة حسنوات الخيال تحت سفح جبال الأحلام بالأقلام.. يكفيك جلسات متكررة على نواصي حارات نجيب محفوظ.
وأضيف إلى نواصي وحارات نجيب محفوظ -التي لا تعد ولا تحصى ويكفيك منها «الثلاثية»- نواصي ووديان، أيضا كتابات أنيس منصور، فإذا فعلت فأنت ممن يتقنون الأدب ودهاليزه، ويكفيك أن تتعرف على صياغتهم وعلى حسن دس أفكارهم التي تصل إليك وإلى عقلك بأسهل الطرق، دون أن تدري، لأنها تتسلل إليك خفية، وغير هؤلاء الكثير والكثير لكن أنت من يجب أن يبدأ.
وإذا أردت أن تكون كاتبًا مفكرًا تغزل من قماشة خواطرك جُملًا تتنفس وتتحسس وتمشى على رجلين وأربع وتغمز بعينين وتشير بأصبع، وتقفز في دهاليز المرض وضبابيات العقول برشاقة ولياقة فتشخص وتحلل وتمنطق وتدلل، وتكتب في النهاية روشتة دواء.. يكفيك زيارة متكررة لعيادات الأدباء وأهمهم في رأيي المتواضع مصطفى لطفي المنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي، لذلك ما عليك سوى البحث وستجد إن فعلت ذلك الكثيرون، قد تفضل واحدًا وتترك آخر لكن، ما عليك سوى البحث فابحث.