شائعات تجعل للفاشلين قيمة في منظومة التنظيم..
تقرير: ما مصداقية واشنطن حول اعتقال زعيم "القاعدة "خالد باطرفي
تنظيم القاعدة الذي يُعتَبر اليمنُ أحد أهم معاقله، يعاني مشاكل تنظيمية وصراعات داخلية وأزمة قيادة تكشفت مجدّدا مع الجدل المثار هذه الأيام حول إلقاء القبض على زعيم الفرع اليمني للتنظيم خالد باطرفي المرشح لقيادة التنظيم المركزي على سبيل الاضطرار بعد أن كان مرشحا للعزل بسبب فشله في قيادة التنظيم المحلّي.
تضاربت الأنباء بشأن اعتقال زعيم فرع تنظيم القاعدة في اليمن خالد باطرفي من عدمه، وبعد رواج أنباء استسلامه، ظهرت مؤشرات تثبت أنه لا يزال طليقا خلافا لما ورد في تقرير للأمم المتحدة، صدر مطلع الأسبوع، وقيل فيه إن باطرفي اعتُقل في أكتوبر الماضي.
موقع “سايت” الأميركي المتخصص في رصد ومتابعة التنظيمات الجهادية بعد أن نشر نبأ القبض على باطرفي ومقتل نائبه سعد العولقي عقب عملية استمرت قرابة العشرين ساعة بمدينة الغيضة التابعة لمحافظة المهرة شرقي اليمن على الحدود مع عمان في أكتوبر الماضي، عاد مدعوما بشهادة مسؤولين قبليين ليشكك في صحة النبأ.
لا جدال في أن القبض على زعيم القاعدة باليمن خالد باطرفي المعروف بـ”أبوالمقداد الكندي” حيا هو ضربة غير مسبوقة، فاعتقال الرأس يحدث هنا للمرة الأولى في تاريخ الفرع اليمني، حيث قُتل كافة الزعماء السابقين بغارات جوية، ابتداء من سالم سنان الحارثي عام 2002 إلى قاسم الريمي العام الماضي.
تداول أخبار عن استسلام قائدهم وضع المسؤولين عن إعلام قاعدة اليمن في حرج، وبعد أيام قليلة من الارتباك وعدم المقدرة على طرح دليل ينفي أو يثبت الخبر، نشرت مؤسسة “صدى الملاحم” الذراع الإعلامي للتنظيم، مساء الأربعاء، تسجيلا مصورا لباطرفي مدته 20 دقيقة بعنوان “أميركا والأخذ الأليم” يتحدث فيه عن اقتحام الكونغرس الأميركي الشهر الماضي، متوعدا الساسة الأميركيين بأن هذا الهجوم فضلا عن أعداد وفيات فايروس كورونا الكبيرة ليسا سوى غيض من فيض والقادم أعظم.
قبل إثارة هذا الجدل بفترة قصيرة كانت هناك أنباء عن عزل باطرفي عن قيادة التنظيم نتيجة تفرغه لتحقيق مصالحه الشخصية، واتباعه سياسة تنفيذ الإعدامات في حق كل من يشك به بذريعة اتهامه بالجاسوسية والعمالة، لكنها لم تثر الضجة ذاتها التي أعقبت تداول أنباء اعتقاله واستسلامه قبل نفيها.
وأعضاء القاعدة، حتى أولئك الذين يجهرون برفض نهجه وسياساته، عادوا سريعا ومحوا الأنباء المتعلقة باستسلامه من على حساباتهم، عندما صدمتهم أساليب أعضاء داعش في توظيف القضية من خلال تحويلها إلى أداة استقطاب لتنظيمهم الذي وصفوه بالمتماسك وغير المخترق على كل المستويات، وغير المنهار بفعل الانشقاقات الداخلية.
تنافس على خلافة الظواهري
ترشيح خالد باطرفي لخلافة أيمن الظواهري على رأس التنظيم المركزي للقاعدة عكس الفقر الشديد الذي يعاني منه التنظيم على مستوى القيادات
تنبع أهمية وقيمة الجدل المثار بشأن إلقاء القبض على باطرفي من عدمه من كونه مرشحا لقيادة التنظيم المركزي، حيث يصبح ساعتها عنوانا أكبر للفشل لدرجة تصل إلى مستوى الفضيحة غير المسبوقة، لكونه أول قيادي قاعدي بهذا المستوى يُلقى القبض عليه حيا ولا تكون نهايته القتل، وهي النهاية المعبرة عن “شرف وبسالة” القادة وفق ما يعتقدون.
الإصدار المرئي الذي بثته مؤسسة صدى الملاحم نافية به نبأ القبض على قائد القاعدة باليمن متوعدا الساسة الأميركيين، أكد دخول باطرفي سباق المرشحين لقيادة القاعدة المركزي خلفا لأيمن الظواهري، ما يوسع مساحة الاهتمام باستهدافه أو القبض عليه لدى قوى تحرص على التحكم في توجيه مسارات وسياسات القاعدة مستقبلا.
كان القبض على مرشح لقيادة القاعدة المركزي من شأنه أن يقود إلى بنك معلومات يكشف المزيد من الأسرار التي تفيد القوى الحريصة على استئصال بنية وتكوين القاعدة الأم.
يبدو باطرفي دون الارتباط بالمسارات “الجهادية” خارج الحدود اليمنية شاملة نشاطات القاعدة في العديد من دول العالم، فاقدا التأثير ويعاني من أزمة مستعصية على رأس جماعة شبه منهارة داخل الساحة اليمنية، ولا جديد سيضيفه إذا جرى اعتقاله بشأن تنظيمه المحلي بعد أن بات مكشوفا للأجهزة الأمنية بفضل القدر الهائل من المعلومات التي سربها المئات ممن انشقوا عنه، أو يتعاونون مع الأجهزة ولا يزالون منضوين داخله.
يعكس فشل باطرفي التفاوت الكبير بين الكفاءات التي يتمتع بها القادة، ويثبت من جهة أخرى الفقر الشديد الذي يعاني منه تنظيم القاعدة على مستوى القيادات، فاللجوء لتسميته قائدا لفرع القاعدة في جزيرة العرب اضطرارا نتيجة فراغ الساحة، صاحبه اضطرار لترشيحه لخلافة أيمن الظواهري على رأس التنظيم المركزي، كمنافس للقيادي المصري سيف العدل المعروف بـ”محمد صلاح الدين زيدان”، والمقيم بإيران.
يمثل الصعود على رأس القاعدة المركزي فرصة ثمينة لباطرفي للهروب من فشله وعجزه في اليمن، مخلفا بقايا تنظيم منهار، مستغلا عجز سيف العدل ووضعه الصحي المتدهور ووجود معارضة أقوى ضده داخل التنظيم تعارض تولية أحد نشطاء الفرع المصري بعد الكوارث التي ألحقها أيمن الظواهري بالقاعدة.
يرفض قطاع داخل القاعدة تولية أحد القيادات المقيمة في إيران بغرض التحرر من الاستقطابات الدولية التي أنتجت تنظيما مفككا فاقدا لهويته، ويعاني من صراعات داخلية بين أجنحة منفصلة عن المركز وأخرى ملاحقَة ومطاردَة تواجه التحدي في الإبقاء على الحد الأدنى من تماسك التنظيم المركزي، مع استمرارية نهجه القديم المرتبط بالجهاد العالمي.
انطوى تنافس باطرفي على قيادة القاعدة المركزي خلفا للظواهري على عطب مستحكم في عجلة قيادة القاعدة، وعجز واضح عن الدفع بشخصية قيادية مؤهلة لإصلاح ما أفسده الظواهري، ومنح الثقة مجددا للتنظيم داخل الأوساط الجهادية، لأن باطرفي لم يقدم أثناء عام توليه فرع اليمن ما يشجع على الدفع به قائدا للتنظيم الأم، بالنظر للأعداد الكبيرة التي انشقت خلال عام توليه القيادة متجهة إلى داعش والأخرى التي فارقت الحالة الجهادية برمتها معلنة توبتها وانخراطها في المجتمع والقبيلة.
انحصر التنافس على خلافة الظواهري على رأس تنظيم القاعدة المركزي، بين سيف العدل الموصوف بالتكبر والاستعلاء والاستبداد بالرأي والقسوة الشديدة في حق المخالفين، وباطرفي الذي لجأ لقتل وإعدام كل من خالفه بتهمة التجسس مخلفا أكثر تجارب قيادات القاعدة فشلا في ساحة مهيأة لنموه وتطوره وليس العكس، خاصة مع النشاط الحوثي الذي اعتمد منذ البداية على تضخيم الوجود الإرهابي الذي يزعم مناهضته، ومع المظالم القبلية التي يرتكبها الحوثيون والتي من المفترض أن تستفيد منها القاعدة.
يواجه كل من باطرفي وسيف العدل رفضا واسعا داخل القاعدة وفق مضمون النقاشات بين عناصره على حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ما يجعل العنوان الرئيسي لأزمة القاعدة اليوم هو الافتقار للقادة، بعد أن حصدت غالبيتهم الطائرات المسيرة الأميركية، مقابل انسحاب عدد غير قليل منهم إما باتجاه الانشقاق لتنظيمات أخرى، خاصة تنظيم داعش، أو إلى خارج الحالة الجهادية.
وأبدى البعض اندهاشه من تصرف عُد تناقضا وقع فيه باطرفي؛ حيث ظهر طوال الوقت بشكل صارخ حريصا فقط على تحقيق مصالحه الشخصية متذمرا من أي نقد لا يتورع عن قتل كل من يعارض قراراته، وهو ما دفع الكثيرين منهم إلى مغادرة التنظيم، في حين حرص على تسجيل دروس ومحاضرات تربوية عرضتها مؤسسة صدى الملاحم الذراع الإعلامي للقاعدة باليمن بعنوان “تأملات ودروس في تفسير سورتي النور والحجرات” و”أصول التعامل مع أهل البدع والمخالفين”.
ما طرحه باطرفي في دروسه ومحاضراته المصورة لم يكن موجها في الأساس لعناصر القاعدة في الداخل اليمني؛ فنشاط التجسس والخيانات والانشقاقات يتعامل معه بالقوة الحسية وسلاح الإعدامات الذي لا يتسق معه درس تربوي مستقى من تعاليم القرآن بسورة الحجرات.
أراد باطرفي من وراء الظهور الإعلامي المكثف الذي يجيده، حيث تتمحور مواهبه حول مقدرته على التنظير أن يثبت جدارته بمركز قائد القاعدة المركزي الذي لا يحتاج في ظل تآكل أدوار التنظيم الأم لأكثر من منظر يضخ محتوى إعلاميا بشكل منتظم وهو ما واظب عليه الظواهري خلال السنوات الأخيرة.
فشل محلي
برز خالد باطرفي كأحد تجليات التيه وفقدان البوصلة، نتيجة عدم مقدرة بعض أفرع القاعدة التي صُممت استراتيجياتها وتكتيكاتها وفقا للسياقات العالمية لاستهداف العدو البعيد على التحول للسياقات المحلية وتشبيك علاقات مع النخب والمكونات المجتمعية.
لم ينجح الرجل في إعادة اكتشاف تنظيمه باليمن ومعاودة إنتاجه في خضم الصراعات متعددة الجوانب التي تدور رحاها على الساحة اليمنية.
وبعد أن كان فرع اليمن هو أنشط وأقوى فروع القاعدة ويحظى مقاتلوه باحترام حتى من خصومه لما يمتلكونه من خبرات والتزام تنظيمي، صار أثناء ولاية باطرفي أكثرها تمزقا، حيث صبّ قائده جهده في ملاحقة وإعدام المنشقين عنه أو الهاربين منه إلى حضن القبيلة والمجتمع.
انتهج باطرفي أسلوبا حادا ودمويا ضد كل من يعارضه داخل التنظيم متبعا سياسة البتر في حق المشتبه في تورطهم في الجاسوسية والعمالة لجهات أمنية داخلية أو أجهزة استخبارات خارجية، وهو ما استنفذ طاقاته في معارك داخلية، فشل في إثبات كفاءته في القيادة بعد قائدين كان لهما حضورهما وتأثيرهما الملحوظ وهما ناصر الوحيشي وقاسم الريمي.
يوجد المئات من المنشقين والمفارقين لفرع التنظيم باليمن، ومنهم قادة ميدانيون وأمراء مناطق ومسؤولون عسكريون وأمنيون، أورد أسماء البعض منهم تنظيم داعش في اليمن في بيان بعنوان “الاعتزال الكبير” تناول الانشقاقات داخل القاعدة، وأبرزهم أبوعمر النهدي الذي مثل انسحابه وتوبته عن التطرف والفكر التكفيري ضربة قوية لتنظيم يعاني في الأصل من الإفلاس المادي والمعنوي والانكشاف المخابراتي.
تيار داخل التنظيم يرفض إسناد قيادته لأحد عناصره المقيمين في إيران لتجنب الاستقطابات التي أنتجت تنظيما مفككا
إذا كان باطرفي اجتهد طيلة عام في قتل كل من يشك في عمالته واشتغاله بالتجسس، فالنهدي الذي وصل إلى أعلى الرتب القيادية وهو أحد شرعيي التنظيم وكان أميرا للمكلا أثناء احتلالها من قبل القاعدة، من المفترض أن يكون قد حرق كل هذه الجهود التي تعد بلا طائل مع ما أدلى به من معلومات عن أدق أسرار التنظيم.
تعقيدات المشهد اليمني وصراعاته المتشابكة المتداخلة وتكتيكات لاعبيه التي تعكس قدرا كبيرا من الدهاء في ساحة تشبه رقعة الشطرنج، احتاجت إلى لاعبين على نفس المستوى من المهارة، لديهم المقدرة على استثمار الحروب المستعرة، والاستفادة من أوضاع سائلة وتحالفات دائمة التغير بين الأطراف المتحاربة ومؤيديها ورعاتها من الخارج.
على الرغم من الروابط المحلية التي امتلكها باطرفي بفضل جذوره الحضرمية وزواجه بامرأة يمنية، إلا أنه فشل في تقديم نفسه كشريك لحركات المقاومة القبلية ضد الحوثيين، ما يعني الإخفاق في كسب البيئة الاجتماعية والسياسية المرشحة للتعاون مع التنظيم لتحقيق مصالح مشتركة.
تعين على قيادة القاعدة التواصل مع شبكات التجارة غير الشرعية للحصول على النفوذ المادي وجمع الأموال وضمان استمرار طويل الأمد للتنظيم، بينما دل واقع فرع القاعدة باليمن اليوم على عجز القيادة عن تدبير الحد المقبول من المكاسب المادية والسيولة المالية التي تقنع عناصره بمواصلة ارتباطها به وولائها له.
لم تحل القناعات الأيديولوجية ونداءات الالتزام التنظيمي التي أطلقها باطرفي من خلال فيديوهاته دون انشقاق المئات من قادة التنظيم وعناصره بحثا عن الدعم المادي وسط ظروف حرب بالغة القسوة حتى ولو لدى أطراف تجمعها خصومة وعداوة مع القاعدة.
لا تعني أنباء القبض على باطرفي إن ثبتت صحتها الكثير بالنسبة إلى مستقبل التنظيم باليمن على المستوى العملياتي والاستراتيجيات طويلة المدى، حيث لم يعد هناك تنظيم بالمعنى المتعارف عليه سواء حركيا وميدانيا أو وفق التراتبية الهرمية المتماسكة للتنظيمات الجهادية، لكنها أثارت الحمية العصبية لدى مؤيدي القاعدة خاصة بعد استغلال أتباع داعش للحدث الذي جعلوه مادة للسخرية والشماتة.