"عماد الخيمة العربية"..
قراءة حول الهويّة والماهيّة وتفعيل دور الشعب في إدارة حياته

بيانات إحصائية

حافزي لكتابة هذا المقال هو ما صدر عن "مركز الحوار العربي" والذي أصف نشاطه المتواصل منذ ١٩٨٩ بالجزيرة الديمقراطية العائمة في بحر الظلمات العربي، فقد عقد المركز ندوات حول الهوية العروبية والماهية الوطنية وجهاده متواصل لخلق الجو الصحّي للحوار وتبادل الأفكار من المشرق العربي إلى الغرب الأميركي.
والهدف المرجو من المقال هو العودة أو البحث عن "عماد للخيمة العربية" الحاضنة لكل العرب على اختلاف الجغرافيا واللهجات وحساب البنوك والنظام أو ألاّ نظام السياسي والتركيز على وحدة الهوية وحق المواطنة والعيش بكرامة على بقعة معينة من هذا الوطن الممتد من الماء إلى الماء.
والسؤال الذي لا يتسلل النقاش فحسب بل ينفجر ويأخذ المركز في هذه الحضرة الفكرية هو:
ما هو عماد هذه الخيمة وما هي الضّالّة المنشودة؟ ما هو الخيط الحريري أو الذهبي الذي يجعل من حبات المسبحة المتناثرة مسبحة؟ ما هو وما هويته وماهيته حتى يكون مثل نصف قطر الدائرة على نفس المسافة من ملايين النقاط على محيط الدائرة؟
من المسلّم به أن الهوية القومية العربية تصطدم بعشرات الإثنيات المتناثرة في الوطن العربي وتخترقها أو بعضها وساوس شيطانية من أعداء الأمة في داخل عدة أقطار عربية.
أيضاً، الطائفية ودمويتها غنية عن الوصف في عدة بلدان. والليبرالية والدينية واللادينية والأممية ولبعض منها أهداف تهدد ولا توحّد حتى لو كان الهدف المتوجب مواجهته بحجم الفيل البنفسجي الذي يقع بثقله على صدورنا، وهو الإحتلال الصهيوني، وحيث الفشل في توحيد "ضَيْعتين" في قُطر محتل - رام الله وغزة - فكيف بتوحيد قُطرَين؟
الرياضيات - ملكة العلوم - تقوم بدور الأساس لبناء برج ، جسر، حسابات محطة فضائية... ولكنها الفيزياء التي تضع المحطة في الفضاء وتصميم القطار المغناطيسي يعوم فوق سكة الحديد وتضع الميكروويف في المطبخ.
إن كل هذه الأفكار من هويّة و ماهيّة و"العروبة هي الحل" أو "الإسلام هو الحل" والأسس والمبادئ المذكورة تشبه الأرقام الصمّاء في الرياضيات كالجذر التربيعي لرقم ٢… معرفة مهمة وضرورية ويُبنى عليها ومنها الكثير ولكنها الفيزياء هي التي تحوّل هذه الأرقام إلى جسور وطائرات وخبز وأجبان.
والفيزياء المطلوبة هي رغيف الخبز...ولا يجتمع الناس على اختلاف مشاربهم ومآكلهم ونزاعاتهم مثلما يجتمعون على أمرين: العزاء في ميّت أو الفرح احتفاءً واحتفالًا بإنجاز أو نكاح…. جذورها مغروسة في القلب والوجدان والمعدة والحواس وليس في اللوغاريتمات والتفاضل والتكامل.
وبناءً عليه فإن عماد الخيمة العربية يجب أن يتكوّن قلباً وقالباً من شيء يتجاوز كل من الشروخات الأيديولوجية والدينية والعرقية إلى القاسم المشترك الأعظم وهو رغيف الخبز الذي لا يعيش بدونه حي مهما كان أصله وفصله وفصيله ، والذي لا يخرج من الأرض مثل النبات الشيطاني ولكنه بحاجة الى فكر وتخطيط وسواعد وعرق ودم ليصل إلى المائدة….
يصل الرغيف للمائدة في يد النجار والحداد والحلاق والمعلم والخياط والمحامي والطبيب والممرض والكاتب والفنان ….كل هؤلاء يجمعهم الرغيف… وهؤلاء هم البلد وهم الشعب وهم أدوات الإنتاج مهما استبد المستبد وظلم الظالم. لهم ولهم وحدهم الحق في إدارة أمور حياتهم.
تنظيم هؤلاء يجب أن يكون الهدف، وجلّهم من المنتظمين بداهة ولكن بدرجات متفاوتة بين قطرٍ وآخر. فانتظار وصول قطار الحرية والديمقراطية والوقت المناسب هو كانتظار (الرفيق أو الضابط جودت في مسرحية صموئيل بيكيت Godot) في محطة القطار…الذي لن يصل.
تنظيم الشعب حسب وسائل إنتاج الرغيف هي أضمن وسيلة لتفادي الصراع بين الشعب والإستبداد الذي دائما ينتهي بغلبة المستـبـِدِّ وجزّ رقبة المستَـبَــدِّ به وتخطيه … الشعب في قـُطرٍ ما يخاطب الشعب في قطرٍ آخر ويتبادل الفريقان المعلومة عن وسائل الإنتاج في شتّى المجالات وسبل تطويرها إن كانت في زراعة القمح في حوران أو تعليم الرياضيات في فلسطين. لنتصور النشاطات التي تنفخ الحياة في كل ما يتعلق بالحياة اليومية من تعليم وصحة وزراعة وصناعة ورياضة وملبس ومأكل وقانون وأمن وإدارة …. لنتصوّر اللقاءات يوما في صنعاء ويوما في الجزائر ويوما آخر في عمّان…. دراسات … اكتشافات في شتى المساحات واختلاف الجغرافيا…. تبادل المدرسين والمدرسات طلّاب وطالبات أطباء ومحامون وخبراء بيئة وتخطيط مدن….
لنتصوّر آثار ذلك على الناس وقيمهم وأخلاقهم وسلوكياتهم وكيف ستقود هذه الى الشفافية وبناء الثقة عبر الحدود والتخفيف من العوائق للاستيراد والتصدير وتطوير المواصلات وبناء الطرق والجسور وسكك الحديد… التي ستصبح في أهميتها " تحصيل حاصل" ولا حاجة إلى تبريرها.
ولنا في التاريخ الماضي والحاضر لَعِـبـْرة للمستقبل وعـَبـَرات على ما فات. فعندما زار الكاتب الفرنسي توكفيل أمريكا ونشر كتابه "الديمقراطية في أمريكا" في١٨٣٥..حسبما رأى أنها خير تمثيل للشعب بكل فئاته، فكانت القرارات والتوصيات تبدأ من الشعب الذي كانت تمثّله جمعيات ونقابات وروابط في كل المدن والنجوع والمزارع حتى أن مهنة حذو الخيل لها جمعيات في كل أنحاء أمريكا حتى الآن وترأسها قبل سنوات صديقي الدكتور المهندس جاك "Evers" الذي امتهن هذا الفن ليصبح حذّاءً Farrier بعد تقاعده من درجة بروفيسور في هندسة البترول في جامعة وايومنغ.
وفي كتابه "الإنحطاط العظيم - كيف تتعفّن المؤسسات وتموت-٢٠١٢" أسهب نيال فيرغسون (زوج الناشطة الصومالية عضو البرلمان الهولندي والداعية المتنمّرة لحقوق المرأة) في شرح العلاقة العضوية بين العدالة الاجتماعية وتطور الأمة وبين الحركات والتنظيمات العمالية كما تبين اللوحة هذه:
وعلّل تآكل المؤسسات وتهديد مستقبل الديمقراطية إلى تحجيم وتهميش المؤسسات المدنية:
وهذه اللوحة من دراسات أخرى تبيّن بوضوح المسار الخطير بين الحضور الفعال للمنظمات العمالية في أمريكا وتقلصها المتسارع بين ١٩٦٤-٢٠١٠.(Ross Eisebrey 20 Jun 2007)
ومن الحاضر نذكر بفخر واعتزاز حصول منظمات المجتمع التونسي على جائزة نوبل للسلام في ٢٠١٥ بعد أن فشلت الأنظمة المتلاحقة في النيل منها. فنّ الممكن يجعل من المستحيل ممكناً.
وفي دراسة "المنظمات العمالية في العالم العربي" التي تم نشرها في ال "مديل إيست جورنال" في شتاء ١٩٥٢ بقلم توماس ستوفر- في زمن الجيل الأول بعد الاستقلال، عندما كانت الآمال في حياة حرة كريمة مزدهرة كانت المنظمات العماليّة في أوج نشاطها. مصر مثلا كان فيها ٤٥٠ تنظيم عمالي وسوريا كانت العمالة تفوق ال ٦٥٠،٠٠٠ على الأقل ١٠٪ منهم كانوا منخرطين في منظمات عمالية وخصوصا عمال النسيج. في لبنان كان هناك أكثر من ٢٠ تنظيم عمالي وعشرون آخرون من ضمن الحزب الشيوعي اللبناني. والعراق كان هناك أكثر من ١٥ تنظيم عمالي من البصرة الى الموصل.
بيت القصيد ومربط الفرس هو تفعيل دور الشعب وتمكينه من إدارة أمور حياته اليومية بحرية وتوحيد هذا الدور على مستوى الأمة ، والتخلي عما يفرّق بين فئات الشعب والالتفاف حول الاستبداد، وتجنب الوقوع في مصيدة الشعارات والتنظير التي تتخذها القوى السلطوية مبررا للبطش بالناس.