قصة قصيرة..
اختفت من حياته للأبد

اختفاء

بعد انتهاء المأتم، ازداد موقفي حرجا، وأنصرف عنا الأصدقاء وحتى الأقارب، وبقينا وحدنا في البيت، فقط هو وأنا، أصبح من الواجب على أن أظل إلى جانبه، أتحدث إليه لأخفف عنه حزنه، لكن النطق خانني وتهرب من الكلمات التي أعددتها في ذهني.
إنه يحملق بي على غير عادته، تخيفني نظراته الثاقبة ، ترعبني .. وتخترق رأسي كسهام مسنونة لتستقر في دماغي .. أخشى أن يلمح شيئا فيكتشف السر الرهيب الساكن في أعماقي .
لم أعد أستطيع النظر في عينيه ، لاشك أن نظراته تلاحقني كيفما تحركت.. أيجد تصرفاتي غريبة ؟ .. أيريبه صمتي واضطرابي وذهولي ؟ .. أم أن الوهم يصور لي ذلك ؟ .. أم هي حقيقة الواقع ؟ .. يا إلهي ، كيف أستطيع أن أبدو أمامه تماما على طبيعتي ؟ .. أنني أكاد أجن .
عندما عاد اليوم من عمله إلى البيت ، حياني بلطف وحنان ، وحاول أن يبتسم على الرغم من جراحه العميقة وحزنه الشديد ، أحاول أن أستجمع قواي الذهنية لأتحدث إليه، لكن ماذا أقول لأب فجع بفقد طفلته الوحيدة في حادث مروع ومؤلم، كما أن نظراته ظلت ثاقبة كشبحا يطاردني أينما كنت، أو هكذا خيل إلي .. ارتبكت ورحت أرتجف، وأتحاشى النظر إليه قدر المستطاع، دخلت إلى غرفة نومي، فإذا بعيني تقع على المرأة اللاصقة بباب دولاب ملابسي لتعكس وجهي الشاحب المخيف وبدء لون وجهي بالأصفرار، حتى كدت لا أعرفه أنا، نظرات زائفة، شعر منفوش، كأنه وجه مجنونه، .. لا .. لا أنه وجه أمرأة مجرمة آثمة .. يا إلهي ، يكف لا يلفت نظره الذعر الواضح في وجهي، ونظراتي التائهة .. وكلماتي المبعثرة!
أم أنه يتأنى حتى يتأكد مما أنا خائفة منه ويكتشف أنني .. لا .. لا .
دخل علي غرفة النوم وأمسك بيدي وسحبني إلى الصالة، وجلس قبلي على الأريكة، فلم أستطع الجلوس معه وظللت واقفة أمامه ورجليا تكاد لا تستطيع حملي ، أخذ يديا وراح يمررها على وجهه .. نظر إلي والدموع تملأ عينيه وقال لي بحنان لم أعهده في حياتي : " أجلسي بجانبي يا حبيبتي " وضمني بين ذراعيه واستمر قائلا : لم يعد لي في هذه الدنيا أحد سواك .. كم أنت امرأة طيبة ورائعة، وأنا أخشى عليك أن يعرضك الحزن، لا شئ أراك أشد حزنا مني .. لم يخطر لي أبدا أنه توجد أمرأة مثلك تحزن على موت ابنة زوجها كما تحزنين أنت على فقد ابنتي .. من الضروري جدا أن نتعاون على النسيان يا حبيبتي.
في تلك اللحظات سيطرت على رغبة ملحة في أن اعترف له بكل شئ فأقول له: أنا.. أنا أألقاتلة!.. لأن كلماته كانت كخناجر حادة تمزق قلبي ولم أشعر بألم في حياتي مثل هذا الألم .. شعرت بدوخة ، ثم تخاذلت ركبتاي، بركت أمامه فدفنت رأسي في حجره ورحت أفيض بالبكاء دون أن أشعر.
تخيلت نفسي في تلك اللحظة بأنني أبوح له بالسر الرهيب الذي أشعل في كياني نارا تأبى أن تنطفئ ، بل إنها تزداد وتزداد ، وأقول له : سامحني يا حبيبي فأنا من قتل صغيرتك الجميلة ، ها أنا ذا أضع نفسي بين يديك ، فأفعل بي ما شئت، فانتقم مني .. وأطفئ النار التي تلهب قلبي وعقلي ، فأنا من قتل تلك الطفلة البريئة ، فقط لأنها كانت وحدها عن تستأثر بحبك وحنانك وشغلتك عني .. نعم لقد قتلتها أتدري كيف ؟ .. لأنني رأيتها حين تسللت إلى الشرفة، ثم رأيتها وهي تتسلق الكرسي الذي نسيته أنت في الشرفة عندما كنت تشرب القهوة في الصباح، لقد تسلقت عبر الكرسي وجلست فوق الحائط لتنظر إلى الشارع يمينا وشمالا قبل أن تقع من الشرفة إلي الشارع وكان بإمكاني إنقاذها بكل سهولة، لكني تجاهلتها وذهبت إلى المطبخ ورحت أتشاغل عنها في إعداد الطعام، فقد خشيت أن تخونني عاطفتي فأسرع إلى نجدتها، أنا التي يمزقني الغيظ منها في كل لحظة فأتمنى لها الموت.. في تلك اللحظات كنت أنت في الحمام وكنت أتمنى أن تتأخر أنت في الحمام حتى تسقط أبنتك من الشرفة وتموت، خصوصا ونحن نسكن في الدور السابع فأن سقوطها يعني الموت حتما، ويالا حظي لقد كان لي ما تمنيت . أنت الذي دفعتني لأفعل ما فعلت من حيث لا تشعر، نعم لقد كنت أنت السبب، تصرفك الفظ معي جعلني أحقد على طفلة بريئة وأكرهها وأتمنى لما الموت.
لم أشعر أبدا بأنك عدت في يوما إلى البيت وبك حنين إلي وإهمالك لي، أنا التي أحببتك من كل قلبي .. كنت تفتح ذراعيك وتضمها إلى صدرك بحب عجيب، دون أن تتنازل وتعطف على بنظرة واحدة مهما تزينت وتأنقت ومهما بذلت من جهد لأثير اهتمامك.. وتظل تداعبها حتى انتهي أنا من إعداد المائدة وكنت تصر على أن تجلسها بيننا وتأكل أنت وتطعمها بيديك ، دون حتى أن تجاملني بكلمة واحدة مثل " شكرا يا حبيتي الطعام لذيذ " ولم تحدثني إلا عنها ، لقد ذهب ولعك بها إلي حد جعلك تضع سريرها في غرفة نومنا كي لا تغيب عن ناظريك لحظة واحدة، وكم من مرة قلت لي وأنت تمعن النظر في وجهها : ألا ترين أن عينيها جميلتان جذابتان تماما كعينا أمها ؟ وتروح تقبلها من عينها .. وكأنك كنت تنسى وبغير قصد بأن التي تحدثها قد أصبحت زوجتك وتجرح كرامتي كامرأة .. ولم تشعر بأن تصرفك هذا يثير غيرتي ، ويهين كبريائي أيضا.
لقد كانت تصرفاتك معي تأكد لي يوما بعد يوم بأن طفلتك التي تشبه أمها ستظل حاجزا منيعا بيني وبينك وأنها سببا في تعاستي ووجودها سيحول دون محو ذكرى أمها من ذهنك وستبقى حياتي جحيما وإلي الأبد.
أتذكر أيام عودتك من أوروبا بعد أن أنهيت دراستك فيها ، وكيف كنا نحتفي بك نحن بنات عمك وأنا أكبرهم التي أنا زوجتك الآن ، كنا بنات الأسرة وشبابها نقيم لك في كل بيت من بيوتنا حفلة تكريما لعودتك من الغرب. لست أدري ما الذي دفعك في تلك الأونة لأن تتودد إلي ؟ .. أكان توددك لي مجرد مجاملة ؟ .. أم كجبر خاطر لأبنت عمك أن الفتاة العانس التي قلما يتودد أحدا إليها ؟ .. كيف أنسى قولك لي ذات ليلة في إحدى الحفلات بينما كنا واقفين أنا وأنت وحدنا نشاهد الحفل عندما قلت " أنت جميلة جدا ورائعة ، لك أسلوبا خاصا بتعاملك مع الآخرين تتعاملين مع الأخرين بأدب وأسلوب راقي " وأضفت تقول : " أن أهل هذا البلد لا يدركون معنى جمالك وأخلاقك ، عندما أقف معك وحدنا ونتحدث أحسبني واقفا مع امرأة أوروبية أنيقة، كما أن ذوقك رائع جدا في اختيارك لملابسك وعطورك .. أما ابتسامتك فلها سحرا خاصا.
لقد كنت مستسلمة إلي واقعي وراضية به ، فقد كنت أدرك بأنه قلما تتزوج في بلدنا فتاة قد تجاوزت الثلاثين من عمرها ، لكن اهتمامك بي أعاد إلى نفسي الأمل ، وكلماتك التافهة تلك التي لم يسبق لي أن سمعتها من أحدا غيرك فعلت بي الكثير والكثير ، لقد حركت في شعورا غريبا ، وأصبحت دائما أتخيل نظراتك وابتسامتك لي، وكلما خلوت إلى نفسي كنت أردد كلماتك الرقيقة وأتغنى بها بنشوة لم أذقها في حياتي، وأصبح شغلي الشاغل هو أن أبدو أمامك جميلة وأنيقة مهما كلفني ذلك من جهد ومال، ولست أدري لما أصبحت على شبه يقين بأنك تحبني ولابد أن تخطبني ورحت ارتقب تلك اللحظة بكل لهفة .. لكن أمالي وأحلامي أنهارت وتحطم قلبي في طرفة عين ، لحظة أن بلغني إنك خطبتها ، صديقتي الصغيرة ذات الواحد والعشرون ربيعا وذات العينين الخضراوين .. وللأسف لقد كانت أنا واسطة التعرف بينكما وهذا ما يؤلمني أكثر فأكثر .. لأني لم يخطر لي أبدا إنك أنت الذي تقدر الذكاء والذوق والأناقة والجمال كما كنت تدعي ، بأن ستعجب بتلك الدمية الفارغة.
ولم يحلو لك إلا أن تسكن أنت وعروستك قبالة بيتنا تماما وكان هذا يزيد في تعاستي، وما من أحدا يعلم بالذي قاسيت في وحدتي سوئ وسادتي التي شربت من دموعي حتى رويت ، لقد حولتني إلى أتعس مخلوقا على الأرض ، أدركت مدى سخافتي واحتقرت نفسي أشد احتقار وكثيرا ما فكرت في الانتحار.
أربع سنوات مضت ، فإذا بالموت ينتصر لي ذات يوم ويخطف منك تلك التي خطفتك مني .. لم تجد أمامك من يواسيك ويرعى طفلتك اليتيمة التي لم تتجاوز السنتين ونصف السنة من عمرها ، سواي أنا بنت عمك الكبيرة العانس وجارتك القريبة، وكنت تأتي كل يوما إلي بيتنا ومعك طفلتك لتبدد أحزانك بيننا ، وراحت جراحي تلتئم شيئا فشيئا وبدأت أشعر نحوكما بعطفا وحنان وتناسيت الماضي.
وذات مساء طلبت مني التحدث معي على انفراد وقولت لي ببرودا قاتل، كأنك التي تتحدث إليها ليس لها مشاعر وأحاسيس قولت : " ما رأيك في أن نتزوج ؟ .. فأنا بحاجة إلى امرأة ترعى ابنتي وأنا متأكد بأنني لن أجد أحسن منك لرعاية طفلتي".
طعنتني كلماتك الباردة وقلت في نفسي إنك رجل غريب الطباع، كيف سمح لك ضميرك بأن تتخاطب معي بهكذا كلمات ؟ .. إذن تريد أن تتزوجني فقط لأرعى أبنتك.. كدت أرفض طلبك الغريب هذا، ويا ليتني رفضته ، حاولت أن أرفض فلم أستطع ، فقد كان شعاع أملا في قلبي لعلك تتغير على مر الأيام وأجد في قلبك مكانا لي ، واعتقدت حتما بأنني سأجده حين أغمرك بحبي وحناني، لكن كل محاولاتي فشلت ، لأنك أغلقت باب قلبك، وكنت مصرا على أن تظل أسير ذكراها ذات العينين الخضراوين اللتين كنت دائما تراهما في وجه طفلتها التي أصبحت أنا مجرد مربية لها.
كنت تجرح كبريائي في اليوم الواحد مئة مرة بقصد أو بغير قصد، وكنت أنا لا شيء في حياتك، ولأن الطفلة كانت تذكرك بأمها فقد كانت الطفلة هي كل شيء في حياتك.
أرأيت كيف جعلتني أحقد على طفلة بريئة حتى أتمنى لها الموت؟
وحين جاء الموت من تلقاء نفسه ليبتلعها تركته يفعل ذلك .. تركته بلؤم، وكان بإمكاني إنقاذها، لكني لم أفعل وبذالك أكون قد اقترفت بسببك جريمة .. جريمة نكراء.. أصرخ بها من أعماق قلبي .. أنا مجرمة .. نعم مجرمة ، كيف أستطيع أن أبرئ نفسي ، وقد تشنجت ذراعاك على الجثة الصغيرة وأنت تحتضنها ، والناس من حولك يحاولون انتزاعها منك.
لقد حفرت تلك اللحظات في ذاكرتي وأصبحت أراها في كل لحظة أينما نظرت، خمسة أيام لم أعرف فيها النوم أبدا.
كل هذا كان يمر في خاطري , وكان رأسي لا يزال مدفونا في حجره , وكانت أصابعه تتخلل شعري وتعبث به بكل رقة وحنان .. شعرت أنني أختنق , لم يعد أمامي سوى أن أختفي من حياة هذا الرجل الذي خلق ليكون جحيمي.
في اليوم التالي ذهب إلى العمل كعادته , وكنت قد أعددت نفسي للذهاب إلى مكانا بعيد , وعندما عاد من عمله إلى البيت لم يجدني .. لأنني اختفيت من حياته .. إلى الأبد.
كاتب القصة يمني الجنسية مقيم في القاهرة – مصر