قصة قصيرة..
ويبقى حلما

جلس فوق تلك الصخرة العجوز المتشققة الصامدة امام حماقات الموج الهائج - أرشيف

أخيراً و بعد سير استمر بعض الوقت استقر به الأمر وجلس فوق تلك الصخرة العجوز المتشققة الصامدة امام حماقات الموج الهائج وغضب الطبيعة التي لا ترحم ، تلك الصخرة التي تفتح قلبها و تحكي أحزانها والآمها لمن يتقن لغة الصمت لكن قليلون جدا من بني البشر هم الذين يعرفون لغة الصمت ، كان البحر هادئاً و كان الموج يداعب تلك الصخرة بلطف لكن الصخرة لم تحرك ساكنا لانها تعلم بأن هذا البحر المجنون ربما يغدر في اي لحظة ، فهو كالانسان تمام متمرد على نفسه و على الطبيعة كلها و يتغير بين لحظة و اخرى.
في اسفل الصخرة كانت هناك الكثير من السرطانات التي تسكن تلك الصخرة ، لكن ما شد انتباهه هما تلك السرطانان التي كانا يلهوان و يمرحان في حبا و سعادة شعور للأسف فقده الانسان لانه اصبح ماديا الى اقصى ما يتصوره العقل و أخذ يتأمل تلكم السرطانات بتدبر و قال في نفسه على الارجح انهما ذكرا و انثى ، نظر هناك في الافق البعيد حيث لا وجود لشىء سوى السماء و الشمس التي كانت قد زينت الكون بأشعتها الذهبية و كأنها تقيم حفلة وداع لترحل بعد ذلك الى العالم المجهول القابع خلف الافق لتترك في نفوسنا بريق امل يضىء لنا ظلمات الليل القادم و يحيي في وجداننا اشواق اللقاء بها من جديد .
هناك في افق الاحلام بنا لنفسه بيتا صغيرا ليس به حجرات و حديقة حوله ليس به اثاث بيتا صغيرا ، تماما كعش العصافير لا بل بيتا صغيرا يشبه بيوت تلك السرطانات ، كان ذلك الحلم البعيد الذي دائما ما يراه في الافق هو كل ما يملكه من حطام هذه الحياه الغامضة ، انه حلم اولئك المغفلون الغارقون في اوهامهم حتى اللامعقول ، انهم يرفضون حتى الحديث عن المادة يالا المساكين الا يعرفون انهم بتصرفاتهم الجنونية هذه انما يسبحون ضد التيار و يعبرون عن احتجاجهم ضد المجتمع و ضد الحياة كلها ، يالهم من اغبياء .
حسنا يجب ان أعود الى البيت فالشمس قد غابت و الوقت يمر بسرعة ، وداعا ايتها السرطانات المخلصين لبعضكم البعض ، وداعا ايتها الصخرة الطيبة اعتني جيدا بهؤلاء المساكين وداعا ايها البحر ارجوا ان تبقى هادئا دائما .
في طريق عودته الى البيت كانت هناك عربة حصان واقفة موازية للرصيف ، وقف قليلا يتأمل الحصان كان الحصان يقف على ثلاثة سيقان و الساق الرابعة معلقة و من ثم يعلق ساقا اخرى و ينزل الساق التي كانت معلقة و هكذا بالتناوب حتى يعطي سيقانه بعض الراحة ، كان الحصان يبدو مرهقا جدا ، كيف لا و هو يعمل طوال النهار و ساعات من الليل ، من كرم الله علينا انه خلق هذه الحيوانات لتساعدنا على التنقل و نقل امتعتنا و اوصانا بالرفق بها و لا نعذبها ليل نهار و نقسي عليها من اجل بضعة نقود اضافية يمكننا الاستغناء عنها .
تأمل قليلا في وجه الحصان ، شعره و عيناه ، ابحر بعيدا في اعماق تلك العينان الصادقتان ، ثم تابع سيره عائدا الى البيت ، لكن اي بيت هذه غرفة صغيرة لها باب حديد تماما مثل ابواب الزنازين و حمام و ليس به الا نافذة واحدة صغيرة جدا تطل على منور صغير خصص لمواسير المجاري و اشعة الشمس لا تدخله .
تذكر انه تأخر خمسة ايام على دفع إيجار الشقة و صاحب الشقة قطع عليه الماء منذ ثلاثة ايام بتلك الحجة ، يا إلهي صاحب هذا الشقة قاسي جدا، آه ..... كلا انه رجل طيب و لكن الحياة هي القاسية ، على اي حال يجب ان اغتسل الليلة فانا لم اغتسل منذ ثلاثة ايام و الجو حار جدا ، اه لكن ماذا لو اصر على ان ادفع الايجار اولا فانا لا املك حتى ربع مبلغ الايجار ياله من شهر تعيس ، بل يالها من حياة تعيسة و لكن برغم تعاستها فهناك شيء يجذبنا اليها ، حسنا ساوعده وعدا كاذبا بأني سأدفع له غدا ، يجب ان اكذب عليه فأنا لست كالصخرة الصخرة وحدها لا تكذب لانها لا تنطق .
ها قد اقترب من العمارة التي يسكن فيها و لكنه محتار هل يدخل شقته اولا ام يذهب الى صاحب العمارة و يستأذنه ان يفتح له الماء ، حسنا سأدخل شقتي اولا لربما يكون الرجل قد شفق على وفتح لي الماء ، خطوات قليلة و يصل لباب الشقة ادخل يده في جيبه و اخرج المفتاح ، اه لكن هذه حاجياتي اما الباب يا إلهي بطانيتي و مخدتي و قميصان و بنطلونان و فنجان و معلقة صغيرة و ابريق شاي نعم هذه حاجياتي ، يا إلهي ما هذا قفل اخر جديد مقفولا به الباب ماذا حصل ؟ يجب ان اذهب الى ذلك الرجل المزعج و اتحقق من الامر حسنا سأترك حاجياتي هنا و اذهب اليه ، و قبل ان يذهب جاء الرجل صاحب العمارة و قال له :
خذ حاجياتك و اذهب من هنا ..
لكني سأدفع لك ايجار الشقة غدا صباحا .....
قلت لك خذ حاجياتك و اذهب من هنا ..
ارجوك امهلني فرصة حتى صباح الغد .....
لا استطيع ان امهلك اي فرصة فقد اجرت الشقة لشخص اخر ، انظر ها هي نقوده ....
و لكن اين اذهب الان ؟
هذا ليس من شأني ...
أخذ حاجياته و انصرف ولكن الى اين ؟ سؤالا ظل يحيره بعض الوقت ، و اخيرا اهتدى به الامر و فكر بالصخرة .... فهي ارحم من البشر التي قلوبها اقسى من الحجر لا معاذ الله فأن في الحجر و الصخر صفات الرأفة و الرفق و العطف و الصمت الذي يفتح مسامعه لكل الامنا و اوجاعنا و همومنا التي قاسيناها من البشر القاسية .
حسناُ سأذهب و انام على تلك الصخرة الامنة ، عاد من نفس الطريق الذي جاء منه ، كان الحصان لا يزال واقفا مقيدا بتلك العربة اللعينة و كان صاحب العربة مستلقيا بداخلها ، رجلا في الستينات من عمره و يبدو عليه اللامبالاة بالحصان و العربة بل و بالحياة كلها .
تابع سيره و هو حاملا حاجياته ، حلمه اصبح بسيطاً جدا من اي حلم يتصوره الانسان فقط يحلم بالنوم فوق تلك الصخرة الامنة ، و عند وصوله فرش بطانيته و وضع مخدته و استلقى بجسد المرهق ، كان الليل شديد الظلام لكن هناك شعاع املا تركته في نفسه الشمس قبل رحيلها خلف تلك الافق الغامض ، نزلت من عينه دمعة ( لماذا لا تأخذيني معك ايتها الشمس ) قالها في نفسه بمرارة ، لكن لا بأس مادام حلمي قد تحقق في النوم على هذه الصخرة ، و قبل ان يغمض عينيه فاذا بصوت سيارة قادمة نحوه ، يحاول تجاهل الامر تقف السيارة على بعد بضعة امتار منه يتحقق منها و هو في مكانه ، اه انها سيارة الدوريات الامنية ينزل منها ظابط و جنديان و يتقدم الجنديان نحوه و يسأله احدهم :
ماذا تفعل هنا ؟
لم اجد مكانا انام فيه الا هنا ....
يشدانه من من يداه نحو السيارة .... هيا اركب.
ليس لدي نقود اجرة السيارة ، قالها بسخرية .
يتلقى صفعة على وجهه و يدفع بقوة الى داخل السيارة و يساق لمركز الشرطة و عند وصولهم ادخلوه زنزانة صغيرة كانت بها شخصان و لا نافذة بها و الضوء خافت جدا .
هذه الغرفة تشبه تلك التي كانت مستأجرها كم يأخذون منكم ثمن اجرتها ؟
تتعالى الضحكات الساخرة ويرتفع صوت لقد جاءونا بمجنون .
في الصباح احيل للتحقيق .
س – ماذا كنت تفعل فوق تلك الصخرة ؟
ج – لقد بنيت بيتا صغيرا في الافق و اخذته الشمس معها ، و اردت ان انام على تلك الصخرة مع السرطانات و اخذتموني انتم الى هنا .
يتلقى صفعة قوية على وجهه تشعره بالدوار و تفقده توازنه ، رد على السؤال وإلا ....... يصمت ولم يكمل جملته الظابط الذي صفعه .
حسنا يحال الى مستشفى الامراض العقلية لتشخيص حالته ، يأخذونه بالسيارة و في الطريق الى المستشفى نظر من نافذة السيارة رأى الصخرة من بعيد كان البحر هائجا جدا و الامواج تتلاطم بالصخرة بلا رحمة و كان الحصان مازال واقفا .