الإرث الثقافي في الجنوب..
مهرجان يافع للتراث.. تقليد سنوي يعود للتاريخ الحِمْيَري في الجنوب
"خلال موسم عيد الأضحى يتوافد العديد من أبناء يافع، والزائرين من مختلف المحافظات، للمشاركة في التقليد السنوي، في لوحات استعراضية تعكس الهُوية الثقافية ليافع"
منذ آلاف السنين، ومن مرحلة التاريخ الحِمْيَري القديم، ما تزال قبائل يافع الحِمْيَرية، تحيِي مهرجان الموروث الشعبي الثقافي، والذي يعد تقليدًا سنويًّا يهدف إلى إبراز الهُوية التاريخية، والثقافية التي تتميز بها منطقة يافع التي تتبع إداريًّا محافظة لحج، وجزءٌ منها يتبع محافظة أبين (الجنوب)، لتحافظ عليها عبر الأجيال المتعاقبة .
خلال موسم عيد الأضحى يتوافد العديد من أبناء يافع، والزائرين من مختلف المحافظات، للمشاركة في التقليد السنوي، في لوحات استعراضية تعكس الهُوية الثقافية ليافع، والتي تتمثل برقصات "البرع"، والزوامل الشعبية "التراثية"، والقصائد الشعرية، وعرض الأسلحة القديمة، والزيّ الشعبي اليافعي المتمثّل بغطاء الرأس (الشبكة التي تطرز من الخيوط الملونة)، والكساء ذي الألوان الزاهية، وقد حمل هذا العام شعار "يافع التاريخ والحضارة"، لتتوالى فعالياته في مناطق "الهجر" لبعوس، والموسطة، و"القراعي" بالمفلحي .
القديم والجديد في الاحتفالات
في العقود الماضية، اتّخذت هذه المهرجانات الطابع الديني لارتباطها بمناسبة عيد الأضحى، ثم مزارات "الأولياء والصالحين" الذين كانوا ينتشرون في مناطق يافع، ولذلك تنطلق هذه الاحتفالات بعد أيام العيد، وتبدأ في مناطق عديدة في يافع، كما أنّها ظلت في الماضي تتخذ الطابع الاجتماعي، لأنّ الناس يشاركون فيها في مهرجانات الفرح التي كانت تتزامن مع تلك الزيارات التي تتخللها الرقصات مع البرع اليافعي وجلسات الشعر التي تقام بين صفوف النساء، حيث يشارك فيها الشعراء لطرح هموم المنطقة في مختلف مراحل التاريخ.
يقول الباحث والكاتب علي صالح الخلاقي " إنّ مظاهر الاحتفالات قديمًا وحديثًا تتمثل بعددٍ من الرقصات المرتبطة بحياة الإنسان في يافع عبر مراحل طويلة من التاريخ، أهمها ما يسمى بالرقصة العسكرية "البَرَع".
يؤدّيها الراقصون على أصوات الزامل وإيقاع الطبل أو المَرْفَع أو المَرْوَس، وتتنوّع الرقصات على مناطق يافع، ويتجاوز عدد الرقصات والبرعات العشرين، منها الرجالي والنسائي، ومنها ما كانت تؤدَّى مشتركة بين المرأة والرجل، وقد اختفت الآن، كما هو حال ألعاب البال النسائية.
منذ عقود، كان للنساء في يافع مشاركة وحضور لافت في الرقصات الشعبية، لكن في الوقت الحالي اختفت الوجوه النسائية، ليبقى التظاهر الرجالي إلى جانب عروض الأزياء التراثية اليافعية التي تقدمها الفتيات الصغيرات والأشبال في هذا التقليد السنوي
يتابع الخلاقي: "يتم إلقاء القصائد الشعرية، والزوامل التي كانت في المجتمع القبلي تبثّ الشجاعة وتحضّ على القِيَم النبيلة، في الحروب والمناسبات الاجتماعية الأخرى".
ولعلّ أهمّ خصائص الرقصات الشعبية في يافع، أنها تعتمد في الأساس على حركات الأرجل وبراعتها في التنقل والحركة المتوازنة مع ضربات الإيقاع.
تاريخ يافع
تعد قبيلة يافع إحدى قبائل ذي رُعَيْن الحِمْيَرية، التي حكمت جميع أرجاء البلاد أكثر من 600 سنة، بين عام 115 قبل الميلاد إلى 525 ميلاديّة.
قديمًا وقبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، كان أبناء يافع، كما يشرح الربيعي لـ"خيوط"، يلتقون خلال هذا التقليد السنوي لتبادل التحايا بعيد الأضحى، ويتم إبراز هموم ومطالب المجتمع ليتم معالجتها من قبل الشيوخ والشخصيات السياسية، ولها دلالات عريقة في نفوس أبناء المنطقة وامتدت إلى خارج المنطقة، بسبب التأثير الاجتماعي الثقافي لأبناء يافع.
بينما يربط الخلاقي التراث الإنساني في هذه المنطقة، الذي لم ينقطع، بتاريخ قبيلة يافع التي تحتل إقليمًا واسعًا في جنوب اليمن، عرفت في التاريخ القديم باسم (دهسم)، كما جاء في نقش النصر للملك السبئي كرب إيل وتر .
ويؤكِّد أنّ القبيلة والمنطقة تنسب إلى يافع بن قاول بن زيد بن ناعتة بن شراحيل بن الحارث بن زيد بن يريم بن ذي رعين، وصولًا إلى حِمْيَر بن سبأ، ومما جاء في وصف جزيرة العرب للهمدانيّ، أنّ "أرض حِمْيَر الأصل هي سرو حمير، وقلب سرو حمير هو بلاد يافع، وهي تلك الجبال التي تؤلف دلتا وادي أبين".
رقصة البال النسائية
وثّق كتاب "معجم لهجة سرو حمْيَر- يافع وشذرات من تراثها" لمؤلفه علي صالح الخلاقي، التراثَ الفني والتقاليد والعادات والرقصات في يافع؛ منها: "رقصة البال النسائية"، التي تصنف من الغناء النسائي الجماعي، يُؤدَّى في صفين متقابلين، شبيه بالدان، وسُمي كذلك لأنّ الصوت الأولي قبل دخول الشعراء يكون (بلبلة) أي تكرار لكلمة (البال) على النحو التالي: "ألا يا باله الليلة البالة على البال بال".
هذه "البلبلة" هي تحفيز للشعراء ودعوتهم إلى قول ما لديهم ليردّده المشاركون أو المشاركات في صفوف البال، وكانت صفوف "البال" النسائية من أهم علامات الفرح في الأعراس والأعياد في مختلف المناطق، حيث تنتظم النساء في صفين متقابلين وجهًا لوجه في ساحات مكشوفة أمام الملأ، أو في غرف واسعة إذا كانت الأعداد صغيرة، وتتشابك أيديهنّ في كل صف، ويقمن بحركات راقصة ويتحركن بأجسادهنّ من الأعلى إلى الأسفل ثم يتقدمن الصف بحركة راقصة موحدة، ليلتقينَ بالصف المقابل والعودة بالنسق الإيقاعي ذاته إلى الخلف، وبالمثل يفعل الصف الآخر، فيما تردِّد النساء في الصفين بالتناوب وبصوت غنائي جميل، الأبياتَ الشعرية التي ارتجلها للتو الشاعر، وقالها بصوت مسموع بين الصفين.
الزامل
أمّا الزامل المصحوب برقصة البرع، فهو نشيد جماعي يؤدّيه الرجال بأصوات جهورية، إذ ينقسمون إلى فريقين يردد كلٌّ منهما مقطعًا شعريًّا صنفه شاعرهم، وفي الوقت ذاته تقوم مجموعة الرقص بأداء رقصة البرع، على أصوات الزامل ووقع ضربات الطاسة وأنغام المزمار أو الشبابة. وللزوامل أغراض كثيرة، كانت في المجتمع القبلي تبثّ الشجاعة وتحضّ على القيم النبيلة في نفوس أبناء القبيلة في الحروب والمناسبات الاجتماعية الأخرى".
من الرقصات الكثيرة إلى جانب برع الزامل، هناك برع المدحجية الحَفَّة اليسلمية، ومن الرقصات الأخرى: رقصة المخموس للرجال، ورقصة النساء القاصدية، ورقصة السفيخ الحدية للرجال، والرقصة الموحسية للرجال، والرقصة الخموسية للنساء، والرقصة البدوية، ورقصة الطلق النسائية.