الأسرة اليافعية..
الجمعدار أحمد بن صالح بن عبدالله العبَّادي ( القرن الثالث عشر الهجري)
"الرسالة بعث بها الجمعدار أحمد بن صالح العبادي، بتاريخ يوم الاثنين، الموافق 16خلت في شهر شعبان سنة 1252هـ، ومنها عرفنا رتبته كما جاء في رسالته التي كتبها بخطه، بدليل عدم وجود اسم (راقم الخط) أي كاتب الرسالة"
تكشف المراسلات القديمة الخاصة بالمهجر الهندي والمحفوظة في أرشيف بعض الأسر اليافعية المزيد من المعلومات عن أسماء وحياة المهاجرين اليافعيين وما بلغه بعضهم من مراتب اجتماعية وعسكرية رفيعة في نظام حيدر أباد بالهند، حيث حصل العديد منهم على رتبة جمعدار(Jamadar)، وهي كلمة هندية تعني رُتبة عسكرية لقائد ألفين أو أكثر من الجنود التابعين لجيش نظام حيدر أباد.
وبين أيدينا رسالة قديمة تعود إلى سنة 1252هجرية، وتكتسب أهميتها كونها تكشف لنا عن شخصية عسكرية هامة (جمعدار) لم نسمع أو نعرف عنه من قبل، هو الجمعدار الشيخ أحمد بن صالح بن عبدالله بن علي العبَّادي، ويُضاف بذلك إلى قائمة جمعدارات آخرين من يافع عامة ومن أسرة آل باعباد خاصة، التي برز منها حتى الآن 6 جمعدارات حسب الوثائق والمراسلات التي حصلنها عليها، سأتعرض لهم في موضوع خاص لاحقاً. وقد كان أولئك الجمعدارات، وأمثالهم من اليافعيين والحضارم بشكل خاص، ممن كان يعتمد عليهم الحكام لشجاعتهم وأمانتهم وإخلاصهم، وتولّوا مراكز سياسية وعسكرية كبيرة حينها، وحظوا بثقة النظام وساعدتهم الظروف على الإثراء وامتلاك الأموال والعقارات.
الرسالة بعث بها الجمعدار أحمد بن صالح العبادي، بتاريخ يوم الاثنين، الموافق 16خلت في شهر شعبان سنة 1252هـ، ومنها عرفنا رتبته كما جاء في رسالته التي كتبها بخطه، بدليل عدم وجود اسم (راقم الخط) أي كاتب الرسالة ، كما نجد ذلك في بعض الرسائل التي يكتبها شخص آخر غير مرسلها. ولا غرابة في ذلك فآل باعباد في يافع بيت علم وفقه.
كما إن الجمعدار الشيخ أحمد بن صالح العبادي هو من تكفل من مهجره بحيدر أباد ببناء مسجد في قرية الشبر بعد هدم الأقدم منه، يُعرف بـ(القبة الطارفة ) رغم خلوه من القبة، وما يؤكد ذلك الشاهد المكتوب بلوح خشبي ما زال في مكانه بسقف المسجد، الذي تحول من مسجد للصلاة ، لوجود المحراب فيه، إلى مقبرة لعدد من الأشخاص الذين دُفنوا بصالته، يتفاوتون من حيث الأعمار بدليل اختلاف طول القبور، والمسجد الآن مُقفل ومُهمل. وجاء في النص المكتوب على اللوح :
" بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد واله وصحبه وسلم، أمر بعمارة المسجد المبارك الشيخ علي سعيد العبادي من بعد هدمه والذي قام بعمارته الشيخ احمد بن الشيخ صالح العبادي وهو قاعد حيدر عباد الهند وسوّى الكفالة الا يد المملوك علي بن علوي العبادي و عبدالله عبيد الوردي. { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ }.
عُمِّر المسجد المبارك يوم الجمعة في شهر ربيع الأول سنة واحد وخمسين سنة بعد الميتين والف (1251هـ) وصلى الله على سيدنا محمد واله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.
والذي سقفه عبداحمد صالح ال___ي الجهوري و مثنى ناصر النجار الحضرمي نسأل الله ان يتقبل من من قام بالعمارة وأسعد كلن على حسن نيته والحمد لله رب العالمين".
ولعله من المفيد أن نستعرض مضمون رسالته التي وجّهها إلى كل من الولد محمد عبدالله بن عبدالله عثمان، وكذلك الحرة الطاهرة جميلة بنت عمه حسين، لنتعرف على مضامين تلك الرسالة. ويلاحظ هنا التقدير للمرأة من خلال وصفها في مخاطبتها بـ(الحُرّة الطاهرة)، وهي الصيغة التي نجدها في معظم الوثائق الأسرية في يافع.
وبعد السلام، والاطمئنان عن الأحوال، يبلغهم أن أخبار حيدر أباد سيعرفونها عن طريق الواصلين من حيدر أباد، وهم لا شك من الأقرباء الذين يعودون بين فترة وأخرى لقضاء إجازاتهم في يافع مع أهلهم وذويهم،
ثم ينتقل إلى أهم الأخبار والأمور الأسرية الخاصة، ونوجزها في:
1- تطمينهم بوصول أصحابهم آل باعباد إلى حيدر أباد على جناح السلامة، وهم لاشك من العائدين من يافع بعد قضاء إجازاتهم وقد يكون معهم من القادمين الجدد.
2- يذكر أنه تم حل المشاكل القائمة بينهم فور وصولهم، وهذا دليل على مكانته الاجتماعية لدى آل باعباد، كما لدى غيرهم، من خلال ما قام به من إصلاح ذات البين بين الأقرباء وإنهاء الخلاف المعلق بينهم منذ زمن في يافع بخصوص الأراضي الزراعية (البَلَد)، بما فيها الأراضي المروية من الآبار (المرلوي) والمساحات المجاورة للبيوت (العِرَاص) ومدافن الحبوب، وصولاً إلى إعادة صفو العلاقات بينهم إلى سابق عهدها، وهو ما عبر عنه بقوله (وردّيناهم في ثوب واحد)، ويتضح أنه قام بحل تلك القضايا الخلافية مع آخرين معه من آل باعباد بدليل قوله "نحن" ، يقول:" وبعد أن نحنا سدّينا بينهم في كل دعاوي من سابق ولاحق، من ساس وعراص وبلد ومدافن ومراوي وكل ما بينهم من دعاوي، وردّيناهم في ثوب واحد".
3- يشير الى أنهم استأصلوا المشكلة بقطع جذورها، ليس فقط بالاتفاق الشفوي بين أطرافها، وإنمّا بوضع وثيقة الحل النهائي التي قضت على كل خلاف سابق (أماتت كل عُلقة سابقة)، وأخذ العهود منهم على ما جاء في السّجل، ونهج طريق أسلافهم الذي ساروا عليه من قبلهم، يقول:".. وسوّينا بينهم سجل، وموَّتنا كل عُلقة سابقة ، وأخذنا منهم عهد الله وميثاقه على ما قد سار بينهم في السجل، وعلى ما جزعوا به أهاليتنا الأولين، ومن شان السجل فهو وصل إلى عندكم قدكم تعملون على موجبه"..ولأن مواضيع الخلاف في مسقط رأسهم في (الشّبر) حاضرة مكتب الحضارم فقد تم إرسال السجل إلى المعنيين هناك للعمل بموجبه باعتباره وثيقة ملزمة التنفيذ. وقد حضر وشهد على السجل كل من: عبدالرب بن عبدالله عاطف، عبدالله عبدأحمد الشعموطي، علي علوي العبادي، أحمد علوي العبادي، أحمد بن صالح سعيد النود، محمد حسين بن سنان الشرح،
ووقع على السجل من المعنيين كل من التالية أسماؤهم: أحمد خلف، أحمد عبدالله بن عبدالله بوبك عن نفسه وعن عمّه عبدالكريم، محسن عبدالله بن عبدالله حسين عن نفسه وعن صنوه حسين عبدالله وعن عمه علي حسين وعياله، عبدالله عبدالرحمن عن نفسه وعن صنوه حامد عبدالرحمن، أحمد عبدالله بن عبدالله عثمان عن نفسه وعن صنوه محمد، محمد أحمد عن نفسه، أحمد بن صالح العبادي، محمد صالح بن صالح أحمد. وحضر شاهداً وكاتباً خضر بن عبدالله محسن الشرفي البكري
4- نعرف من الرسالة عن سفر أحد الشباب الذي وصل إلى الهند لأول مرة، هو الولد أحمد عبدالله بن عبدالله عثمان، وأوضح أنه مولعٌ بالحصول على سلاح (سَلَب) وأن وصوله ليس للإقامة، وإنما رغب بالجلوس ذلك العام والعودة بعد ذلك إلى مسقط رأسه يافع، ويطمئنهم بأن مكوثه عنده في الهند أو عندهم سواء، حتى لا ينشغل تفكيرهم به ، يقول:" ومن شان الولد أحمد عبدالله بن عبدالله عثمان فهو جاء ذه السنة وهو متولّع بسَلَب، وحب يجلس هذه السنة، ومن شان الجاية [العام القادم] فهو با يصلكم إن شاء الله أول الموسم، ولا تسون فكر عندي وإلا عندكم سواء".
5- من أهم ما جاء في الرسالة هو إرسال حوالة مالية قدرها 25 قرش، والقرش هو العملة الفضية، أو الريال النمساوي "ماريا تيريزا" الذي ظل متداولاً في يافع وغيرها من المناطق إلى عشية الاستقلال. وأوضح تفاصل الحوالة بقوله:" وترى الصادر إليكم خمسة وعشرين قرش ، عشرين قرش مني، وخمسة قروش من أحمد عبدالله، قرشين ونص من الخمسة ألزم أحمد ناصر يأخذ بها كساء لكم، وقرشين ونص يوصلها لكم نقد".
6- ويطلب في رسالته أن تحوَّل غُرفة الطباخة (الدَّيمة) التي في سطح البيت (راس الجُبَا)، لكريمته خديجه، لقربها من ديمتها، واعتبارها منهم، ويؤكد على طلبه ذلك بقوله :" من شان الدّيمة الذي راس الجُبا نحو الهجرة فقدكم تحولونها كريمتي خديجة، وسِوَا وهي منكم ، لحيث يوم هي قريب إلى الديمة حقتها، الله الله ثم الله الله، وسِوَا وهي منكم ، هذا مما نحقق لكم"
ويختتم رسالة بالسلام على الصنو علي حسين وعلى كافة الأصحاب الجميع، وينقل السلام من كافة أهل باعباد وكافة أهل يافع الجميع، دون ذكر أسماء.
ويطلب الاعتذار على أي تقصير لأن الرسالة كُتبت بعجالة:" ولا تلومونا على ما قصر في الكتاب، لحيث أن الكتاب في عجل".
ونستشف من الرسالة الروابط القوية التي تربط المهاجرين بمسقط رأسهم وبأهلهم واهتمامهم بكل صغيرة وكبيرة بما في ذلك إصلاح ذات البين وحل المشاكل بين الأقرباء ، واستمرار الانفاق على أهلهم مالياً أو إرسال ما بمقدورهم من كساء ونحوه، فضلاً عن قيامهم بإعمار مساجد الله، وهو ما يدل على تدينهم.
وحسب إفادة الأخ محمد علي عثمان العبادي، الذي حصلت منه مشكوراً على الرسالة وصورة السجل، فأن الجمعدار أحمد بن صالح العبادي قد استقر بالهند وكان يحتضن ويرعى كل القادمين إلى الهند ويسهل لهم أمورهم وأعمالهم، وقد تزوج هناك، لكنه لم يخلف، حتى وفاته بالهند في سنة 1295هـ أو قبيل ذلك، كما تفيدنا وثيقة توكيل محررة في يوم الجمعة 13 ربيع آخر 1295هـ، من ناصر ابن أحمد ناصر بن سعيد الشعموطي الحضرمي اليافعي وكَّل فيه الشيخ عبدالرحمن محسن والشيخ محمد بن عبدالولي الطيار اليافعي، فيما يستحقه إرثًا مما اتصلته والدته خديجة بنت صالح بن عبدالله علي العبادي من متروكات أخيها الجمعدار الشيخ أحمد ابن صالح بن عبدالله علي العبادي المتوفى في أرض الهند، بلد حيدر عباد.
ولعله من المفيد أن نورد نص الوكالة في ما يلي:
"الحمد لله وحده.. وصلى الله على سيدنا محمد وأله وصحبه وسلم
إنه لما كان في يوم الجمعة المباركة وثلتعشر خلت من شهر ربيع آخر سنة 1295خمس وتسعين ومئتين وألف.
أما بعد فقد حصل التوكيل الصحيح الشرعي بالقضاء الصريح المرعي مني أنا يا ناصر ابن أحمد ناصر بن سعيد الشعموطي الحضرمي اليافعي بأني وكلّت وقدمت الشيخ عبدالرحمن محسن والشيخ محمد بن عبدالولي الطيار اليافعي، أقمته مقام نفسي وذلك فيما أستحقه إرثًا مما اتصلته والدتي خديجة بنت صالح بن عبدالله علي العبادي من متروكات أخيها الشيخ أحمد ابن صالح بن عبدالله علي العبادي المتوفى في أرض الهند، بلد حيدر عباد، وذلك من مال ومتمول، منقول وغير منقول في حسابات الكارخانة، حساب حق واستحقاق وفي جميع آلت الكارخانة وما ينسب إليها، وفي جميع ما استحقه من مال ومتمول وفي كل ما يُطلق عليه اسم المال أو المتمول، صامت وناطق ومنقول وغير منقول، بيد من كان وحيث كان وفي أي مكان كان وفي أي الجهات المذكورة، وكَّلت أنا يا ناصر أحمد عبدالرحمن المذكور وكلته فيما ذكر وما لا يذكر وكيلًا مفوضًا يخاصم ويغارم ويحاكم ويواجه من خاصمه أو غارمه أو حاكمه أو واجه في ذلك أو بعضه لدى حاكم شرعي أو سياسي ويقيم البينات ويدفع المعارض بما يحتمل في وقت المحاكمة لدى الحاكم الشرعي أو السياسي أقمت أنا يا ناصر احمد وكيلي المذكور وأجزته بجميع ما يتصرفه مما نظر فيه المصالح وكلت المذكور بما ذكر وكما ذكر وجميع ما ذكر وكالة صلحية شرعية جايزة معوضة منعقدة جامعة بجميع الشروط المعتبرات وأنا بحالة الرضا والصحة والإثبات والاختبار من غير إكراه ولا إجبار وأذنت لوكيلي الشيخ عبد الرحمن في بيع حصتي وبيع الحصص والمتروكات والحويليات ومباني وخيل ومرافع وآلت الكارخانة وما ينسب إليها أقيم المذكور مقام نفسي وأذنت له بالتصرف على ما يشاء وكيفما شاء لجميع ما ذكر وما لم يذكر في جميع المتروكات وعلى ذلك وقع الأشهاد وأذنت لمن يشهد على ذلك.
شهد بذلك الواثق بالله ناصر محمد بن علي بن صالح بن أحمد بن الشيخ علي هرهره ( الختم الخاص 25 شوال 1275 هـ).
شهد بذلك الواثق بالله محمد بن علي حيدر بن عزالدين (الختم الخاص).
وعلى الوجه الآخر من الوثيقة:
وكالة صحيحة شرعية نافذة بيد الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن عبد الولي الطيار اليافعي.
ختم الشيخ الواثق بالله العالي سالم بن علي الضباعي
ختم الواثق بلطف الله نائب الشرع علي بن حيدر بن عزالدين البكري، خادم الشريعة.